کتابخانه تفاسیر
مفاتيح الغيب
الجزء الأول
سورة الفاتحة
[سورة الفاتحة(1): الآيات 1 الى 7]
مقدمة و ففيها فصول:
الكتاب الأول في العلوم المستنبطة من قوله: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
القسم الأول من هذا الكتاب في المباحث الأدبية المتعلقة بهذه الكلمة، و فيه أبواب.
القسم الثاني من هذا الكتاب المشتمل على تفسير(أعوذ بالله من الشيطان الرجيم) في المباحث النقلية و العقلية، و فيه أبواب: -.
الكتاب الثاني في مباحث بسم الله الرحمن الرحيم و فيه أبواب
الباب السابع في الأسماء الدالة على الصفات الحقيقية مع الإضافية، و فيه فصول:
الكتاب الثالث الكلام في سورة الفاتحة و في ذكر أسماء هذه السورة،
الباب الخامس في تفسير سورة الفاتحة، و فيه فصول
الكلام في تفسير مجموع هذه السورة، و فيه فصول
الجزء الثاني
سورة البقرة
الجزء الثالث
تتمة سورة البقرة
الجزء الرابع
تتمة سورة البقرة
الجزء الخامس
تتمة سورة البقرة
الجزء السادس
تتمة سورة البقرة
الجزء السابع
[سورة البقرة(2): الآيات 258 الى 259]
سورة آل عمران
الجزء الثامن
تتمة سورة آل عمران
الجزء التاسع
تتمة سورة آل عمران
سورة النساء
الجزء العاشر
تتمة سورة النساء
الجزء الحادي عشر
تتمة سورة النساء
سورة المائدة(5)
الجزء الثاني عشر
تتمة سورة المائدة
سورة الأنعام
الجزء الثالث عشر
تتمة سورة الأنعام
الجزء الرابع عشر
سورة الأعراف
الجزء الخامس عشر
تتمة سورة الأعراف
سورة الأنفال
الجزء السادس عشر
تتمة سورة التوبة
الجزء السابع عشر
سورة يونس
سورة هود
الجزء الثامن عشر
تتمة سورة هود
سورة يوسف
الجزء التاسع عشر
تتمة سورة الرعد
سورة إبراهيم
سورة الحجر
الجزء العشرون
تتمة سورة النحل
سورة الإسراء
الجزء الواحد و العشرون
تتمة سورة الإسراء
سورة الكهف
سورة مريم عليها السلام
الجزء الثاني و العشرون
سورة طه
سورة الأنبياء عليهم السلام
الجزء الثالث و العشرون
سورة الحج
سورة المؤمنون
سورة النور
الجزء الرابع و العشرون
تتمة سورة النور
سورة الفرقان
سورة الشعراء
سورة النمل
سورة القصص
الجزء الخامس و العشرون
تتمة سورة القصص
سورة العنكبوت
سورة الروم
سورة لقمان عليه السلام
سورة السجدة
سورة الأحزاب
سورة سبا
الجزء السادس و العشرون
سورة فاطر
سورة يس
سورة الصافات
سورة ص
سورة الزمر
الجزء السابع و العشرون
سورة المؤمن
سورة فصلت السجدة
سورة الشورى
سورة الزخرف
الجزء الثامن و العشرون
سورة الأحقاف
سورة محمد صلى الله عليه و سلم
سورة الفتح
سورة الحجرات
سورة ق
سورة الذاريات
سورة الطور
سورة النجم
الجزء التاسع و العشرون
تتمة سورة النجم
سورة القمر
سورة الرحمن
سورة الواقعة
سورة الحديد
سورة المجادلة
سورة الحشر
الجزء الثلاثون
سورة الملك
سورة القلم
سورة الحاقة
سورة المعارج
سورة نوح عليه السلام
سورة الجن
سورة المزمل عليه السلام
سورة المدثر
سورة القيامة
سورة الإنسان
سورة المرسلات
الجزء الواحد و الثلاثون
سورة النبأ
سورة النازعات
سورة عبس
سورة التكوير
سورة الانشقاق
سورة الأعلى
سورة الغاشية
سورة الفجر
سورة البلد
سورة الشمس
الجزء الثاني و الثلاثون
سورة العلق
سورة العاديات
مفاتيح الغيب، ج25، ص: 67
المسألة الثانية: إذا كان الإيمان بما سوى اللّه كفرا به، فيكون كل من آمن بالباطل فقد كفر باللّه، فهل لهذا العطف فائدة غير التأكيد الذي هو في قول القائل قم و لا تقعد و اقرب مني و لا تبعد؟ نقول نعم فيه فائدة غيرها، و هو أنه ذكر الثاني لبيان قبح الأول كقول القائل أتقول بالباطل و تترك الحق لبيان أن القول باطل قبيح.
المسألة الثالثة: هل يتناول هذا أهل الكتاب أي هل هم آمنوا بالباطل و كفروا باللّه؟ نقول نعم، لأنهم لما صح عندهم أن معجزة النبي من عند اللّه و قطعوا بها و عاندوا و قالوا إنها من عند غير اللّه، يكون كمن رأى شخصا يرمي حجارة، فقال إن رامي الحجارة زيد يقطع بأنه قائل بأن هذا الشخص زيد حتى لو سئل عن عين ذلك الشخص و قيل له من هذا الرجل يقول زيد، فكذلك هم لما قطعوا بأن مظهر المعجزة هو اللّه و قالوا بأن محمدا مظهر هذا يلزمهم أن يقولوا محمد هو اللّه تعالى فيكون إيمانا بالباطل، و إذا قالوا بأن من أظهر المعجزة ليس بإله مع أنهم قطعوا بخصوص مظهر المعجزة يكونون قائلين بأن ذلك المخصوص الذي هو اللّه ليس بإله فيكون كفرا به، و هذا لا يرد علينا فيمن يقول فلعل العبد مخلوق اللّه تعالى أو مخلوق العبد، فإنه أيضا ينسب فعل اللّه إلى الغير، كما أن المعجزة فعل اللّه و هم نسبوها إلى غيره لأن هذا القائل جهل النسبة، كمن يرى حجارة رميت و لم ير عين راميها، فيظن أن راميها زيد فيقول زيد هو رامي هذه الحجارة، ثم إذا رأى راميها بعينه و يكون غير زيد لا يقطع بأن يقول هو زيد، و أما إذا رأى عينه و رميه للحجارة و قال رامي الحجارة زيد، يقطع بأنه يقول هذا الرجل زيد فظهر الفرق من/ حيث إنهم كانوا معاندين عالمين بأن اللّه مظهر تلك المعجزة، و يقولون بأنها من عند غير اللّه.
ثم قوله: هُمُ الْخاسِرُونَ كذلك بأتم وجوه الخسران، و هذا لأن من يخسر رأس المال و لا تركبه ديون يطالب بها دون من يخسر رأس المال و تركبه تلك الديون، فهم لما عبدوا غير اللّه أفنوا العمر و لم يحصل لهم في مقابلته شيء ما أصلا من المنافع، و اجتمع عليهم ديون ترك الواجبات يطالبون بها حيث لا طاقة لهم بها. ثم قال تعالى:
[سورة العنكبوت (29): آية 53]
لما أنذرهم اللّه بالخسران و هو أتم وجوه الإنذار لأن من خسر لا يحصل له في مقابلة قدر الخسران شيء من المنافع و إلا لما كان الخسران ذلك القدر بل دونه، مثاله إذا خسر واحد من العشرة درهما لا ينبغي أن يكون حصل له في مقابلة الدرهم ما يساوي نصف درهم، و إلا لا يكون الخسران درهما بل نصف درهم، فإذن هم لما خسروا أعمارهم لا تحصل لهم منفعة تخفيف عذاب و إلا يكون ذلك القدر من العمر له منفعة فيكون للخاسر عذاب أليم، فقوله: وَ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ تهديد عظيم فقالوا إن كان علينا عذاب فأتنا به، إظهارا لقطعهم بعدم العذاب، ثم إنه أجاب بأن العذاب لا يأتيكم بسؤالكم و لا يعجل باستعجالكم، لأنه أجله اللّه لحكمة و رحمة فلكونه حكيما لا يكون متغيرا منقلبا، و لكونه رحيما لا يكون غضوبا منزعجا، و لولا ذلك الأجل المسمى الذي اقتضته حكمته و ارتضته رحمته لما كان له رحمة و حكمة، فيكون غضوبا منقلبا فيتأثر باستعجالكم و يتغير من سؤالكم فيعجل و ليس كذلك فلا يأتيكم بالعذاب و أنتم تسألونه و لا يدفع عنكم بالعذاب حين تستعيذون به منه، كما قال تعالى: كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيها [الحج: 22].
ثم قال تعالى: وَ لَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً اختلف المفسرون فيه، فقال بعضهم ليأتينهم العذاب بغتة، لأن العذاب
مفاتيح الغيب، ج25، ص: 68
أقرب المذكورين، و لأن مسئولهم كان العذاب، فقال إنه ليأتينهم، و قال بعضهم ليأتينهم بغتة أي الأجل، لأن الآتي بغتة هو الأجل و أما العذاب بعد الأجل يكون معاينة، و قد ذكرنا أن في كون العذاب أو الأجل آتيا بغتة حكمة، و هي أنه لو كان وقته معلوما، لكان كل أحد يتكل على بعده و علمه بوقته فيفسق و يفجر معتمدا على التوبة قبل الموت.
قوله تعالى: وَ هُمْ لا يَشْعُرُونَ يحتمل وجهين أحدهما: تأكيد معنى قوله بغتة كما يقول القائل أتيته على غفلة منه بحيث لم يدر، فقوله بحيث لم يدر أكد معنى الغفلة و الثاني: هو كلام/ يفيد فائدة مستقلة، و هي أن العذاب يأتيهم بغتة و هم لا يشعرون هذا الأمر، و يظنون أن العذاب لا يأتيهم أصلا. ثم قال تعالى:
[سورة العنكبوت (29): آية 54]
يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَ إِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ (54)
ذكر هذا للتعجب، و هذا لأن من توعد بأمر فيه ضرر يسير كلطمة أو لكمة، فيرى من نفسه الجلد و يقول باسم اللّه هات، و أما من توعد بإغراق أو إحراق و يقطع بأن المتوعد قادر لا يخلف الميعاد، لا يخطر ببال العاقل أن يقول له هات ما تتوعدني به، فقال هاهنا يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ و العذاب بنار جهنم المحيطة بهم، فقوله:
يَسْتَعْجِلُونَكَ أولا إخبار عنهم و ثانيا تعجب منهم، ثم ذكر كيفية إحاطة جهنم. فقال تعالى:
[سورة العنكبوت (29): آية 55]
[في قوله تعالى يَوْمَ يَغْشاهُمُ الْعَذابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ ] و فيه مسألتان:
الأولى: لم خص الجانبين بالذكر و لم يذكر اليمين و الشمال و خلف و قدام؟ فنقول لأن المقصود ذكر ما تتميز به نار جهنم عن نار الدنيا و نار الدنيا تحيط بالجوانب الأربع، فإن من دخلها تكون الشعلة خلفه و قدامه و يمينه و يساره و أما النار من فوق فلا تنزل و إنما تصعد من أسف في العادة العاجلة و تحت الأقدام لا تبقى الشعلة التي تحت القدم، و نار جهنم تنزل من فوق و لا تنطفئ بالدوس موضع القدم.
المسألة الثانية: قال: مِنْ فَوْقِهِمْ وَ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ و لم يقل من فوق رءوسهم، و لا قال من فوقهم و من تحتهم، بل ذكر المضاف إليه عند ذكر تحت و لم يذكره عند ذكر فوق، فنقول لأن نزول النار من فوق سواء كان من سمت الرءوس و سواء كان من موضع آخر عجيب، فلهذا لم يخصه بالرأس، و أما بقاء النار تحت القدم فحسب عجيب، و إلا فمن جوانب القدم في الدنيا يكون شعل و هي تحت فذكر العجيب و هو ما تحت الأرجل حيث لم ينطق بالدوس و ما فوق على الإطلاق.
ثم قال تعالى: وَ يَقُولُ ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ لما بين عذاب أجسامهم بين عذاب أرواحهم و هو أن يقال لهم على سبيل التنكيل و الإهانة ذوقوا عذاب ما كنتم تعملون، و جعل ذلك عين ما كانوا يعملون للمبالغة بطريق إطلاق اسم المسبب على السبب، فإن عملهم كان سببا لجعل اللّه إياه سببا لعذابهم، و هذا كثير النظير في الاستعمال./ ثم قال تعالى:
[سورة العنكبوت (29): آية 56]
يا عِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ (56)
مفاتيح الغيب، ج25، ص: 69
وجه التعلق هو أن اللّه تعالى لما ذكر حال المشركين على حدة و حال أهل الكتاب على حدة و جمعهما في الإنذار و جعلهما من أهل النار اشتد عنادهم و زاد فسادهم و سعوا في إيذاء المؤمنين و منعوهم من العبادة فقال مخاطبا للمؤمنين يا عِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ إن تعذرت العبادة عليكم في بعضها فهاجروا و لا تتركوا عبادتي بحال، و بهذا علم أن الجلوس في دار الحرب حرام و الخروج منها واجب، حتى لو حلف بالطلاق أنه لا يخرج لزمه الخروج، و [ر] دع حتى يقع الطلاق ثم في الآية مسائل:
إحداها: يا عِبادِيَ لم يرد إلا المخاطبة مع المؤمنين مع أن الكافر داخل في قوله: يا عِبادِيَ نقول ليس داخلا في قوله: يا عِبادِيَ نقول ليس داخلا فيه لوجوه: أحدها: أن من قال في حقه (عبادي) ليس للشيطان عليهم سلطان بدليل قوله تعالى: إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ* [الحجر: 42] و الكافر تحت سلطنة الشيطان فلا يكون داخلا في قوله يا عِبادِيَ الثاني: هو أن الخطاب بعبادي أشرف منازل المكلف، و ذلك لأن اللّه تعالى لما خلق آدم آتاه اسما عظيما و هو اسم الخلافة كما قال تعالى: إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً [البقرة: 30] و الخليفة أعظم الناس مقدارا و أتم ذوي البأس اقتدارا، ثم إن إبليس لم يرهب من هذا الاسم و لم ينهزم، بل أقدم عليه بسببه و عاداه و غلبه كما قال تعالى: فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ [البقرة: 36] ثم إن من أولاده الصالحين من سمى بعبادي فانخنس عنهم الشيطان و تضاءل، كما قال تعالى: إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ* [الحجر: 42] و قال هو بلسانه لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبادَكَ* فعلم أن المكلف إذا كان عبدا للّه يكون أعلى درجة مما إذا كان خليفة لوجه الأرض و لعل آدم كداود الذي قال اللّه تعالى في حقه إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ [ص: 26] لم يتخلص من يد الشيطان إلا وقت ما قال اللّه تعالى في حقه عبدي و عند ما ناداه بقوله: رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا [الأعراف: 23] و اجتباه بهذا النداء، كما قال في حق داود وَ اذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ ذَا الْأَيْدِ [ص: 17] إذا علم هذا فالكافر لا يصلح للخلافة فكيف يصلح لما هو أعظم من الخلافة؟ فلا يدخل في قوله يا عِبادِيَ إلا المؤمن. الثالث: هو أن هذا الخطاب حصل للمؤمن بسعيه بتوفيق اللّه، و ذلك لأن اللّه تعالى قال: ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ [غافر: 60] فالمؤمن دعا ربه بقوله: رَبَّنا إِنَّنا سَمِعْنا مُنادِياً يُنادِي لِلْإِيمانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا [آل عمران: 193] فأجابه اللّه تعالى بقوله: يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ [الزمر: 53] فالإضافة بين اللّه و بين العبد بقول العبد إلهي و قول اللّه عبدي تأكدت بدعاء العبد، لكن الكافر لم يدع فلم يجب، فلا يتناول يا عبادي غير المؤمنين.
المسألة الثانية: إذا كان عبادي لا يتناول إلا المؤمنين فما الفائدة في قوله: الَّذِينَ آمَنُوا مع أن الوصف إنما يذكر لتمييز الموصوف، كما يقال يا أيها المكلفون المؤمنون، و يا أيها الرجال العقلاء تمييزا عن الكافرين و الجهال، فنقول الوصف يذكر لا للتمييز بل لمجرد بيان أن فيه الوصف كما يقال الأنبياء المكرمون و الملائكة المطهرون، مع أن كل نبي مكرم و كل ملك مطهر، و إنما يقال لبيان أن فيهم الإكرام و الطهارة، و مثل هذا قولنا اللّه العظيم و زيد الطويل، فههنا ذكر لبيان أنهم مؤمنون.
المسألة الثالثة: إذ قال يا عِبادِيَ فهم يكونون عابدين فما الفائدة في الأمر بالعبادة بقوله فَاعْبُدُونِ فنقول فيه فائدتان إحداهما: المداومة أي يا من عبدتموني في الماضي اعبدوني في المستقبل الثانية: الإخلاص أي يا من تعبدني أخلص العمل لي و لا تعبد غيري.
مفاتيح الغيب، ج25، ص: 70
المسألة الرابعة: الفاء في قوله: فَإِيَّايَ تدل على أنه جواب لشرط فما ذلك؟ فنقول قوله: إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ إشارة إلى عدم المانع من عبادته فكأنه قال إذا كان لا مانع من عبادتي فاعبدوني، و أما الفاء في قوله تعالى: فَاعْبُدُونِ فهو لترتيب المقتضى على المقتضى كما يقال هذا عالم فأكرموه فكذلك هاهنا لما أعلم نفسه بقوله: فَإِيَّايَ و هو لنفسه يستحق العبادة قال فَاعْبُدُونِ .
المسألة الخامسة: قال العبد مثل هذا في قوله: إِيَّاكَ نَعْبُدُ و قال عقيبه: وَ إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ و اللّه تعالى وافقه في قوله: فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ و لم يذكر الإعانة نقول بل هي مذكورة في قوله يا عِبادِيَ لأن المذكور بعبادي لما كان الشيطان مسدود السبيل عليه مسدود القبيل عنه كان في غاية الإعانة.
المسألة السادسة: قدم اللّه الإعانة و أخر العبد الاستعانة، قلنا لأن العبد فعله لغرض و كل فعل لغرض، فإن الغرض سابق على الفعل في الإدراك، و ذلك لأن من يبني بيتا للسكنى يدخل في ذهنه أولا فائدة السكنى فيحمله على البناء، لكن الغرض في الوجود لا يكون إلا بعد فعل الواسطة، فنقول الاستعانة من العبد لغرض العبادة فهي سابقة في إدراكه، و أما اللّه تعالى فليس فعله لغرض فراعى ترتيب الوجود، فإن الإعانة قبل العبادة. ثم قال تعالى:
[سورة العنكبوت (29): آية 57]
كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنا تُرْجَعُونَ (57)
لما أمر اللّه تعالى المؤمنين بالمهاجرة صعب عليهم ترك الأوطان و مفارقة الإخوان، فقال لهم إن ما تكرهون لا بد من وقوعه فإن كل نفس ذائقة الموت و الموت مفرق الأحباب فلأولى أن يكون ذلك في سبيل اللّه فيجازيكم عليه، فإن إلى اللّه مرجعكم، و فيه وجه أرق و أدق، و هو أن اللّه تعالى قال: كل نفس إذا كانت غير متعلقة بغيرها فهي للموت، ثم إلى اللّه ترجع فلا تموت كما قال تعالى: لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ [الدخان:
56] إذا ثبت هذا فمن يريد ألا يذوق الموت لا يبقى مع نفسه فإن/ النفس ذائقته بل يتعلق بغيره و ذلك الغير إن كان غير اللّه فهو ذائق الموت و مورد الهلاك بقوله: كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ و كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ [القصص: 88] فإذا التعلق باللّه يريح من الموت فقال تعالى فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ أي تعلقوا بي، و لا تتبعوا النفس فإنها ذائقة الموت ثُمَّ إِلَيْنا تُرْجَعُونَ أي إذا تعلقتم بي فموتكم رجوع إلي و ليس بموت كما قال تعالى:
وَ لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ [آل عمران: 169] و
قال عليه السلام: «المؤمنون لا يموتون بل ينقلون من دار إلى دار»
فعلى هذا الوجه أيضا يتبين وجه التعلق. ثم قال تعالى:
[سورة العنكبوت (29): آية 58]
بين ما يكون للمؤمنين وقت الرجوع إليه كما بين من قبل ما يكون للكافرين بقوله: وَ إِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ [العنكبوت: 54] فبين أن للمؤمنين الجنان في مقابلة ما أن للكافرين النيران، و بين أن فيها غرفا تجري من تحتها الأنهار في مقابلة ما بين أن تحت الكافرين النار، و بين أن ذلك أجر عملهم بقوله تعالى: نِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ في مقابلة ما بين أن ما تقدم جزاء عمل الكفار بقوله: ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [العنكبوت:
55] ثم في الآيتين اختلافات فيها لطائف منها أنه تعالى ذكر في العذاب أن فوقهم عذابا أي نارا، و لم يذكر هاهنا
مفاتيح الغيب، ج25، ص: 71
فوقهم شيئا، و إنما ذكر ما فوق من غير إضافة و هو الغرف، و ذلك لأن المذكور في الموضعين العقاب و الثواب الجسمانيان، لكن الكافر في الدرك الأسفل من النار، فيكون فوقه طبقات من النار، فأما المؤمنون فيكونون في أعلى عليين، فلم يذكر فوقهم شيئا إشارة إلى علو مرتبتهم و ارتفاع منزلتهم.
و أما قوله تعالى: لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِها غُرَفٌ [الزمر: 20] لا ينافي لأن الغرف فوق الغرف لا فوقهم و النار فوق النار و هي فوقهم، و منها أن هناك ذكر من تحت أرجلهم النار، و هاهنا ذكر من تحت غرفهم الماء، و ذلك لأن النار لا تؤلم إذا كانت تحت مطلقا ما لم تكن في مسامتة الأقدام و متصلة بها، أما إذا كان الشعلة مائلة عن سمت القدم و إن كانت تحتها، أو تكون مسامتة و لكن تكون غير ملاصقة بل تكون أسفل في وهدة لا تؤلم، و أما الماء إذا كان تحت الغرفة في أي وجه كان و على أي بعد كان يكون ملتذا به، فقال في النار من تحت أرجلهم ليحصل الألم بها، و قال هاهنا من تحت الغرف لحصول اللذة به كيف كان، و منها أن هناك قال ذوقوا لإيلام قلوبهم بلفظ الأمر و قال هاهنا نِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ لتفريح قلوبهم لا بصيغة الأمر و ذلك لأن لفظ الأمر يدل على انقطاع التعلق/ بعده، فإن من قال لأجيره خذ أجرتك يفهم منه أن بذلك ينقطع تعلقه عنه، و أما إذا قال ما أتم أجرتك عندي أو نعم مالك من الأجر يفهم منه أن ذلك عنده و لم يقل هاهنا خذوا أجرتكم أيها العاملون و قال هناك: ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ فإن قال قائل ذوقوا إذا كان يفهم منه الانقطاع فعذاب الكافر ينقطع، قلنا ليس كذلك لأن اللّه إذا قال ذوقوا دل على أنه أعطاهم جزاءهم و انقطع ما بينه و بينهم لكن يبقى عليهم ذلك دائما و لا ينقص و لا يزداد، و أما المؤمن إذا أعطاه شيئا فلا يتركه مع ما أعطاه بل يزيد له كل يوم في النعم و إليه الإشارة بقوله: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَ زِيادَةٌ [يونس: 26] أي الذي يصل إلى الكافر يدوم من غير زيادة و الذي يصل إلى المؤمن يزداد على الدوام، و أما الخلود و إن لم يذكره في حق الكافر لكن ذلك معلوم بغيره من النصوص. ثم قال تعالى:
[سورة العنكبوت (29): آية 59]
الَّذِينَ صَبَرُوا وَ عَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (59)
ذكر أمرين الصبر و التوكل لأن الزمان ماض و حاضر و مستقبل لكن الماضي لا تدارك له و لا يؤمر العبد فيه بشيء، بقي الحاضر و اللائق به الصبر و المستقبل و اللائق به التوكل، فيصبر على ما يصيبه من الأذى في الحال، و يتوكل فيما يحتاج إليه في الاستقبال.
و اعلم أن الصبر و التوكل صفتان لا يحصلان إلا مع العلم باللّه و العلم بما سوى اللّه، فمن علم ما سواه علم أنه زائل فيهون عليه الصبر إذ الصبر على الزائل هين، و إذا علم اللّه علم أنه باق يأتيه بأرزاقه فإن فاته شيء فإنه يتوكل على حي باق، و ذكر الصبر و التوكل هاهنا مناسب، فإن قوله: يا عِبادِيَ كان لبيان أنه لا مانع من العبادة، و من يؤذى في بقعة فليخرج منها. فحصل الناس على قسمين قادر على الخروج و هو متوكل على ربه، يترك الأوطان و يفارق الأخوان، و عاجز و هو صابر على تحمل الأذى و مواظب على عبادة اللّه تعالى. ثم قال تعالى:
[سورة العنكبوت (29): آية 60]
مفاتيح الغيب، ج25، ص: 72
لما ذكر الذين صبروا و على ربهم يتوكلون ذكر ما يعين على التوكل و هو بيان حال الدواب التي لا تدخر شيئا لغد، و يأتيها كل يوم برزق رغد. و في الآية مسائل:
المسألة الأولى: في كأين لغات أربع [لا] غير هذه [و] كائن على وزن راع و كأين على وزن ريع و كي على دع و لم يقرأ إلا كأين و كائن قراءة ابن كثير.
المسألة الثانية: كأين كلمة مركبة من كاف التشبيه و أي التي تستعمل استعمال من و ما ركبتا و جعل المركب بمعنى كم، و لم تكتب إلا بالنون ليفصل بين المركب و غير المركب، لأن كأي/ يستعمل غير مركب كما يقول القائل رأيت رجلا لا كأي رجل يكون، فقد حذف المضاف إليه و يقال رأيت رجلا لا كأي رجل، و حينئذ لا يكون كأي مركبا، فإذا كان كأي هاهنا مركبا كتبت بالنون للتمييز كما تكتب معديكرب و بعلبك موصولا للفرق.
و كما تكتب ثمة بالهاء تمييزا بينها و بين ثمت.
المسألة الثالثة: كأين بمعنى كم لم تستعمل مع من إلا نادرا و كم يستعمل كثيرا من غير من، يقال كم رجلا و كم من رجل، و ذلك لما بينا من الفرق بين كأين بمعنى كم و كأي التي ليست مركبة، و ذلك لأن كأي إذا لم تكن مركبة لا يجوز إدخال من بعدها إذ لا يقال رأيت رجلا لا كأي من رجل، و المركبة بمعنى كم يجوز ذلك فيها فالتزم للفرق. قوله تعالى: لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا قيل: لا تحمل لضعفها و قيل هي كالقمل و البرغوث و الدود و غيرها و قيل لا تدخر اللَّهُ يَرْزُقُها وَ إِيَّاكُمْ بطريق القياس أي لا شك في أن رزقها ليس إلا باللّه فكذلك يرزقكم فتوكلوا، فإن قال قائل من قال بأن اللّه يرزق الدواب بل النبات في الصحراء مسبب و الحيوان يسعى إليه و يرعى، فنقول الدليل عليه من ثلاثة أوجه نظرا إلى الرزق و إلى المرتزق و إلى مجموع الرزق و المرتزق، أما بالنظر إلى الرزق فلأن اللّه تعالى لو لم يخلق النبات لم يكن للحيوان رزق، و أما بالنظر إلى المرتزق فلأن الاغتذاء ليس بمجرد الابتلاع بل لا بد من تشبثه بالأعضاء حتى يصير الحشيش عظما و لحما و شحما، و ما ذاك إلا بحكمة اللّه تعالى حيث خلق فيه جاذبة و ماسكة و هاضمة و دافعة و غيرها من القوى و بمحض قدرة اللّه و إرادته فهو الذي يرزقها، و أما بالنظر إلى المرتزق و الرزق، فلأن اللّه لو لم يهد الحيوان إلى الغذاء ليعرفه من الشم ما كان يحصل له اغتذاء، ألا ترى أن من الحيوان ما لا يعرف نوعا من أنواع الغذاء حتى يوضع في فمه بالشدة ليذوق فيأكله بعد ذلك، فإن كثيرا ما يكون البعير لا يعرف الخمير و لا الشعير حتى يلقم مرتين أو ثلاثة فيعرفه فيأكله بعد ذلك، فإن قال قائل كيف يصح قياس الإنسان على الحيوان فيما يوجب التوكل و الحيوان رزقه لا يتعرض إليه إذا أكل منه اليوم شيئا و ترك بقية يجدها غدا، ما مد إليه أحد يدا، و الإنسان إن لم يأخذ اليوم لا يبقى له غدا شيء؟
و أيضا حاجات الإنسان كثيرة فإنه يحتاج إلى أجناس اللباس و أنواع الأطعمة و لا كذلك الحيوان و أيضا قوت الحيوان مهيأ و قوت الإنسان يحتاج إلى كلف كالزرع و الحصاد و الطحن و الخبز فلو لم يجمعه قبل الحاجة ما كان يجده وقت الحاجة، فنقول نحن لا نقول إن الجمع يقدح في التوكل، بل قد يكون الزارع الحاصد متوكلا و الراكع الساجد غير متوكل، لأن من يزرع يكون اعتماده على اللّه و اعتقاده في اللّه أنه إن كان يريد يرزق من غير زرع، و إن كان يريد لا يرزق من ذلك الزرع فيعمل و قلبه مع اللّه هو متوكل حق التوكل، و من يصلي و قلبه مع ما في يد زيد و عمرو هو غير متوكل. و أما قوله: حاجات الإنسان كثيرة، فنقول مكاسبه كثيرة أيضا، فإنه يكتسب بيده كالخياط و النساج و برجله كالساعي و غيره، و بعينه كالناطور و بلسانه كالحادي و المنادي، و بفهمه كالمهندس
مفاتيح الغيب، ج25، ص: 73
و التاجر،/ و بعلمه كالطبيب و الفقيه، و بقوة جسمه كالعتال و الحمال، و الحيوان لا مكاسب له، فالرغيف الذي يحتاج إليه الإنسان غدا أو بعد غد، بعيد أن لا يرزقه اللّه مع هذه المكاسب، فهو أولى بالتوكل. و أيضا اللّه تعالى خلق الإنسان بحيث يأتيه الرزق و أسبابه، فإن اللّه ملك الإنسان عمائر الدنيا و جعلها بحيث تدخل في ملكه شاء أم أبى، حتى أن نتاج الأنعام و ثمار الأشجار تدخل في الملك و إن لم يرده مالك النعم و الشجر، و إذا مات قرن ينتقل ذلك إلى قرن آخر قهرا شاءوا أم أبوا، و ليس كذلك حال الحيوان أصلا، فإن الحيوان إن لم يأت الرزق لا يأتيه رزقه، فإذن الإنسان لو توكل كان أقرب إلى العقل من توكل الحيوان، ثم قال: وَ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ سميع إذا طلبتم الرزق، يسمع و يجيب، عليهم إن سكتم، لا تخفى عليه حاجتكم و مقدار حاجتكم. ثم قال تعالى:
[سورة العنكبوت (29): آية 61]