کتابخانه تفاسیر
مفاتيح الغيب، ج25، ص: 101
ثم قال تعالى: أَمْ أَنْزَلْنا عَلَيْهِمْ سُلْطاناً فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِما كانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ لما سبق قوله تعالى: بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْواءَهُمْ [الروم: 29] أي المشركون يقولون ما لا علم لهم به بل هم عالمون بخلافه فإنهم وقت الضر يرجعون إلى اللّه حقق ذلك بالاستفهام بمعنى الإنكار، أي ما أنزلنا بما يقولون سلطانا، و فيه مسائل:
المسألة الأولى: أم للاستفهام و لا يقع إلا متوسطا، كما قال قائلهم:
أيا ظبية الوعساء بين جلاجل
و بين النقا ءاأنت أم أم سالم
فما الاستفهام الذي قبله؟ فنقول تقديره إذا ظهرت هذه الحجج على عنادهم فماذا نقول، أهم يتبعون الأهواء من غير علم؟ أم لهم دليل على ما يقولون؟ و ليس الثاني فيتعين الأول.
المسألة الثانية: قوله: فَهُوَ يَتَكَلَّمُ مجاز كما يقال إن كتابه لينطق بكذا، و فيه معنى لطيف/ و هو أن المتكلم من غير دليل كأنه لا كلام له، لأن الكلام هو المسموع و ما لا يقبل فكأنه لم يسمع فكأن المتكلم لم يتكلم به، و ما لا دليل عليه لا يقبل، فإذا جاز سلب الكلام عن المتكلم عند عدم الدليل و حسن جاز إثبات التكلم للدليل و حسن. ثم قال تعالى:
[سورة الروم (30): الآيات 36 الى 37]
قوله تعالى: وَ إِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِها لما بين حال المشرك الظاهر شركه بين حال المشرك الذي دونه و هو من تكون عبادته اللّه للدنيا، فإذا آتاه رضي و إذا منعه سخط و قنط و لا ينبغي أن يكون العبد كذلك، بل ينبغي أن يعبد اللّه في الشدة و الرخاء، فمن الناس من يعبد اللّه في الشدة كما قال تعالى: وَ إِذا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ [الروم: 33] و من الناس من يعبده إذا آتاه نعمة كما قال تعالى: وَ إِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِها و الأول كالذي يخدم مكرها مخافة العذاب و الثاني كالذي يخدم أجيرا لتوقع الأجر و كلاهما لا يكون من المثبتين في ديوان المرتبين في الجرائد الذين يأخذون رزقهم سواء كان هناك شغل أو لم يكن، فكذلك القسمان لا يكونان من المؤمنين الذين لهم رزق عند ربهم، و فيه مسألة: و هي أن قوله تعالى: فَرِحُوا بِها إشارة إلى دنو همتهم و قصور نظرهم فإن فرحهم يكون بما وصل إليهم لا بما وصل منه إليهم، فإن قال قائل الفرح بالرحمة مأمور به في قوله تعالى: قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَ بِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا [يونس: 58] و هاهنا ذمهم على الفرح بالرحمة، فكيف ذلك؟ فنقول هناك قال: فرحوا برحمة اللّه من حيث إنها مضافة إلى اللّه تعالى و هاهنا فرحوا بنفس الرحمة حتى لو كان المطر من غير اللّه لكان فرحهم به مثل فرحهم بما إذا كان من اللّه، و هو كما أن الملك لو حط عند أمير رغيفا على السماط أو أمر الغلمان بأن يحطوا عنده زبدية طعام يفرح ذلك الأمير به، و لو أعطى الملك فقيرا غير ملتفت إليه رغيفا أو زبدية طعام أيضا يفرح لكن فرح الأمير بكون ذلك من الملك و فرح الفقير بكون ذلك رغيفا و زبدية.
ثم قال تعالى: وَ إِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ لم يذكر عند النعمة سببا لها لتفضله بها و ذكر عند العذاب سببا لأن الأول يزيد في الإحسان و الثاني يحقق العدل. قوله إِذا هُمْ يَقْنَطُونَ إذا للمفاجأة أي لا يصبرون على ذلك قليلا لعل اللّه يفرج عنهم و إنه يذكرهم به.
مفاتيح الغيب، ج25، ص: 102
ثم قال تعالى: أَ وَ لَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَ يَقْدِرُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ . أي لم يعلموا أن الكل من اللّه فالمحقق ينبغي أن لا يكون نظره على ما يوجد بل إلى من يوجد و هو اللّه، فلا يكون له تبدل حال، و إنما يكون عنده الفرح الدائم، و لكن ذلك مرتبة المؤمن الموحد المحقق، و لذلك قال: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ . ثم قال تعالى:
[سورة الروم (30): آية 38]
وجه تعلق الآية بما قبلها هو أن اللّه تعالى لما بين أن العبادة لا ينبغي أن تكون مقصورة على حالة الشدة بقوله: وَ إِذا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ [الروم: 33] و لا أن تكون مقصورة على حالة أخذ شيء من الدنيا كما هو عادة المدوكر المتسلس «1» يعبد اللّه إذا كان في الخوانق و الرباطات للرغيف و الزبدية و إذا خلا بنفسه لا يذكر اللّه، بقوله: وَ إِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِها و بين أنه ينبغي أن يكون، في حالة بسط الرزق و قدره عليه، نظره على اللّه الخالق الرازق ليحصل الإرشاد إلى تعظيم اللّه و الإيمان قسمان تعظيم لأمر اللّه و شفقة على خلق اللّه فقال بعد ذلك فآت ذا القربى حقه و المسكين و ابن السبيل، و فيه وجه آخر هو أن اللّه تعالى لما بين أن اللّه يبسط الرزق و يقدر، فلا ينبغي أن يتوقف الإنسان في الإحسان فإن اللّه إذا بسط الرزق لا ينقص بالإنفاق، و إذا قدر لا يزداد بالإمساك، و فيه مسائل:
المسألة الأولى: في تخصيص الأقسام الثلاثة بالذكر دون غيرهم مع أن اللّه ذكر الأصناف الثمانية في الصدقات فنقول أراد هاهنا بيان من يجب الإحسان إليه على كل من له مال سواء كان زكويا أو لم يكن، و سواء كان بعد الحول أو قبله لأن المقصود هاهنا الشفقة العامة، و هؤلاء الثلاثة يجب الإحسان إليهم و إن لم يكن للمحسن مال زائد، أما القريب فتجب نفقته و إن كان لم تجب عليه زكاة كعقار أو مال لم يحل عليه الحول و المسكين كذلك فإن من لا شيء له إذا بقي في ورطة الحاجة حتى بلغ الشدة يجب على من له مقدرة دفع حاجته، و إن لم يكن عليه زكاة، و كذلك من انقطع في مفازة و مع آخر دابة يمكنه بها إيصاله إلى مأمن يلزمه ذلك، و إن لم تكن عليه زكاة و الفقير داخل في المسكين لأن من أوصى للمساكين شيئا يصرف إلى الفقراء أيضا، و إذا نظرت إلى الباقين من الأصناف رأيتهم لا يجب صرف المال إليهم إلا على الذين وجبت الزكاة عليهم/ و اعتبر ذلك في العامل و المكاتب و المؤلفة و المديون، ثم اعلم أن على مذهب أبي حنيفة رحمه اللّه حيث قال: المسكين من له شيء ما فنقول، و إن كان الأمر كذلك لكن لا نزاع في أن إطلاق المسكين على من لا شيء له جائز فيكون الإطلاق هاهنا بذلك الوجه، و الفقير يدخل في ذلك بالطريق الأولى.
المسألة الثانية: في تقدم البعض على البعض فنقول لما كان دفع حاجة القريب واجبا سواء كان في شدة و مخمصة، أو لم يكن كان مقدما على من لا يجب دفع حاجته من غير مال الزكاة إلا إذا كان في شدة، و لما كان
(1) المدوكر المتسلس: لعله اسم لطائفة من بني ساسان و هم المكدون و المتسولون، يعبدون اللّه رياء و سمعة و الخوانق أو الخوانيق جمع خانقاه كلمة أعجمية و هي مكان للعبادات و أما الرباطات فهي جمع رباط و هو المكان يجتمع فيه المجاهدون في سبيل اللّه على الثغور الإسلامية للحماية على الثغور.
مفاتيح الغيب، ج25، ص: 103
المسكين حاجته ليست مختصة بموضع كان مقدما على من حاجته مختصة بموضع دون موضع.
المسألة الثالثة: ذكر الأقارب في جميع المواضع كذا اللفظ و هو ذوو القربى، و لم يذكر المسكين بلفظ ذي المسكنة، و ذلك لأن القرابة لا تتجدد فهي شيء ثابت، و ذو كذا لا يقال إلا في الثابت، فإن من صدر منه رأي صائب مرة أو حصل له جاه يوما واحدا أو وجد منه فضل في وقت لا يقال ذو رأي و ذو جاه و ذو فضل، و إذا دام ذلك له أو وجد منه ذلك كثيرا يقال له ذو الرأي و ذو الفضل، فقال ذَا الْقُرْبى إشارة إلى أن هذا حق متأكد ثابت، و أما المسكنة فتطرأ و تزول و لهذا المعنى قال: مِسْكِيناً ذا مَتْرَبَةٍ [البلد: 16] فإن المسكين يدوم له كونه ذا متربة ما دامت مسكنته أو يكون كذلك في أكثر الأمر.
المسألة الرابعة: قال: فَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ ثم عطف المسكين و ابن السبيل و لم يقل فآت ذا القربى و المسكين و ابن السبيل حقهم، لأن العبارة الثانية لكون صدور الكلام أولا للتشريك و الأولى لكون التشريك واردا على الكلام، كأنه يقول أعط ذا القربى حقه ثم يذكر المسكين و ابن السبيل بالتبعية و لهذا المعنى إذا قال الملك خل فلان يدخل، و فلانا أيضا يكون في التعظيم فوق ما إذا قال خل فلانا و فلانا يدخلان، و إلى هذا أشار النبي عليه الصلاة و السلام
بقوله: «بئس خطيب القوم أنت» حيث قال الرجل من أطاع اللّه و رسوله فقد اهتدى، و من عصاهما فقد غورى و لم يقل و من عصى اللّه و رسوله.
المسألة الخامسة: قوله: ذلِكَ خَيْرٌ يمكن أن يكون معناه ذلك خير من غيره و يمكن أن يقال ذلك خير في نفسه، و إن لم يقس إلى غيره لقوله تعالى: وَ افْعَلُوا الْخَيْرَ [الحج: 77] فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ* [البقرة:
148] و الثاني أولى لعدم احتياجه إلى إضمار و لكونه أكثر فائدة لأن الخير من الغير قد يكون نازل الدرجة، عند نزول درجة ما يقاس إليه، كما يقال السكوت خير من الكذب، و ما هو خير في نفسه فهو حسن ينفع و فعل صالح يرفع.
المسألة السادسة: قوله تعالى: لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ إشارة إلى أن الاعتبار بالقصد لا بنفس الفعل، فإن من أنفق جميع أمواله رياء الناس لا ينال درجة من يتصدق برغيف للّه، و قوله: وَجْهَ اللَّهِ أي يكون عطاؤه للّه لا غير، فمن أعطى للجنة لم يرد به وجه اللّه، و إنما أراد مخلوق اللّه.
المسألة السابعة: كيف قال: وَ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ مع أن للإفلاح شرائط أخر، و هي/ المذكورة في قوله: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ [المؤمنون: 1] فنقول كل وصف مذكور هناك يفيد الإفلاح، فقوله وَ الَّذِينَ هُمْ لِلزَّكاةِ فاعِلُونَ [المؤمنون: 4] و قوله: وَ الَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَ عَهْدِهِمْ راعُونَ* [المؤمنون: 8] إلى غير ذلك عطف على المفلح أي هذا مفلح، و ذاك مفلح، و ذاك الآخر مفلح لا يقال لا يحصل الإفلاح لمن يتصدق و لا يصلي، فنقول هذا كقول القائل العالم مكرم أي نظرا إلى علمه ثم إذا حد في الزنا على سبيل النكال و قطعت يده في السرقة لا يبطل ذلك القول حتى يقول القائل، إنما كان ذلك لأنه أتى بالفسق، فكذلك إيتاء المال لوجه اللّه يفيد الإفلاح، اللهم إلا إذا وجد مانع من ارتكاب محظور أو ترك واجب.
المسألة الثامنة: لم لم يذكر غيره من الأفعال كالصلاة و غيرها؟ فنقول الصلاة مذكورة من قبل لأن الخطاب هاهنا بقوله: فَآتِ مع النبي صلى اللّه عليه و آله و سلم و غيره تبع، و قد قال له من قبل فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً
مفاتيح الغيب، ج25، ص: 104
[الروم: 30] و قال: مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَ اتَّقُوهُ وَ أَقِيمُوا الصَّلاةَ [الروم: 31] المسألة التاسعة: قوله تعالى: وَ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ يفهم منه الحصر و قد قال في أول سورة البقرة: وَ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ* [البقرة: 5] إشارة إلى من أقام الصلاة و آتى الزكاة، و آمن بما أنزل على رسوله و بما أنزل من قبله و بالآخرة، فلو كان المفلح منحصرا في أولئك المذكورين في سورة البقرة فهذا خارج عنهم فكيف يكون مفلحا؟ فنقول هذا هو ذاك لأنا بينا أن قوله: فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ متصل بهذا الكلام فإذا أتى بالصلاة و آتى المال و أراد وجه اللّه، فقد ثبت أنه مؤمن مقيم للصلاة مؤت للزكاة معترف بالآخرة فصار مثل المذكور في البقرة. ثم قال تعالى:
[سورة الروم (30): آية 39]
ذكر هذا تحريضا يعني أنكم إذا طلب منكم واحد باثنين ترغبون فيه و تؤتونه و ذلك لا يربوا عند اللّه و الزكاة ننمو عند اللّه كما
أخبر النبي عليه الصلاة و السلام: «إن الصدقة تقع في يد الرحمن فتربوا حتى تصير مثل الجبل»
فينبغي أن يكون إقدامكم على الزكاة أكثر. و قوله تعالى: وَ ما آتَيْتُمْ مِنْ زَكاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ أي أولئك ذوو الأضعاف كالموسر لذي اليسار و أقل ذلك عشرة أضعاف كل مثل لما آتى في كونه حسنة لا في المقدار فلا يفهم أن من أعطى رغيفا يعطيه اللّه عشرة أرغفة بل معناه أن ما يقتضيه فعله من الثواب على وجه الرحمة يضاعفه اللّه عشرة مرات على وجه التفضل، فبالرغيف الواحد يكون له قصر في الجنة فيه من كل شيء ثوابا/ نظرا إلى الرحمة، و عشر قصور مثله نظرا إلى الفضل. مثاله في الشاهد، ملك عظيم قبل من عبده هدية قيمتها درهم لو عوضه بعشرة دراهم لا يكون كرما، بل إذا جرت عادته بأنه يعطي على مثل ذلك ألفا، فإذا أعطى له عشرة آلاف فقد ضاعف له الثواب. ثم قال تعالى:
[سورة الروم (30): آية 40]
قوله تعالى: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ أي أوجدكم ثُمَّ رَزَقَكُمْ أي أبقاكم، فإن العرض مخلوق و ليس بمبقي ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ جمع في هذه الآية بين إثبات الأصلين الحشر و التوحيد، أما الحشر فبقوله: ثُمَّ يُحْيِيكُمْ و الدليل قدرته على الخلق ابتداء، و أما التوحيد فبقوله هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ . ثم قال تعالى: سُبْحانَهُ وَ تَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ فقوله سبحانه أي سبحوه تسبيحا أي نزهوه و لا تصفوه بالإشراك، و قوله: وَ تَعالى أي لا يجوز عليه ذلك و هذا لأن من لا يتصف بشيء قد يجوز عليه فإذا قال سبحوه أي لا تصفوه بالإشراك، و إذا قال و تعالى فكأنه قال و لا يجوز عليه ذلك. ثم إنه تعالى قال:
[سورة الروم (30): آية 41]
مفاتيح الغيب، ج25، ص: 105
وجه تعلق هذه الآية بما قبلها هو أن الشرك سبب الفساد كما قال تعالى: لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا [الأنبياء: 22] و إذا كان الشرك سببه جعل اللّه إظهارهم الشرك مورثا لظهور الفساد و لو فعل بهم ما يقتضيه قولهم: لَفَسَدَتِ السَّماواتُ وَ الْأَرْضُ [المؤمنون: 71] كما قال تعالى: تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَ تَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَ تَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا [مريم: 90] و إلى هذا أشار بقوله تعالى: لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا و اختلفت الأقوال في قوله: فِي الْبَرِّ وَ الْبَحْرِ فقال بعض المفسرين: المراد خوف الطوفان في البر و البحر، و قال بعضهم عدم إثبات بعض الأراضي و ملوحة مياه البحار، و قال آخرون: المراد من البحر المدن، فإن العرب تسمي المدائن بحورا لكون مبنى عمارتها على الماء و يمكن أن يقال/ إن ظهور الفساد في البحر قلة مياه العيون فإنها من البحار، و اعلم أن كل فساد يكون فهو بسبب الشرك لكن الشرك قد يكون في العمل دون القول و الاعتقاد فيسمى فسقا و عصيانا و ذلك لأن المعصية فعل لا يكون للّه بل يكون للنفس، فالفاسق مشرك باللّه بفعله، غاية ما في الباب أن الشرك بالفعل لا يوجب الخلود لأن أصل المرء قلبه و لسانه، فإذا لم يوجد منهما إلا التوحيد يزول الشرك البدني بسببهما، و قوله تعالى: لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا قد ذكرنا أن ذلك ليس تمام جزائهم و كل موجب افترائهم، و قوله: لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ يعني كما يفعله المتوقع رجوعهم مع أن اللّه يعلم أن من أضله لا يرجع لكن الناس يظنون أنه لو فعل بهم شيء من ذلك لكان يوجد منهم الرجوع، كما أن السيد إذا علم من عبده أنه لا يرتدع بالكلام، فيقول القائل لما ذا لا تؤدبه بالكلام؟ فإذا قال لا ينفع ربما يقع في وهمه أنه لا يبعد عن نفع، فإذا زجره و لم يرتدع يظهر له صدق كلام السيد و يطمئن قلبه. ثم قال تعالى:
[سورة الروم (30): آية 42]
لما بين حالهم بظهور الفساد في أحوالهم بسبب فساد أقوالهم بين لهم هلاك أمثالهم و أشكالهم الذين كانت أفعالهم كأفعالهم فقال: قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ أي قوم نوح و عاد و ثمود، و هذا ترتيب في غاية الحسن و ذلك لأنه في وقت الامتنان و الإحسان قال: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ [مريم: 40] أي آتاكم الوجود ثم البقاء و وقت الخذلان بالطغيان قال: ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَ الْبَحْرِ [الروم: 41] أي قلل رزقكم، ثم قال تعالى: سِيرُوا فِي الْأَرْضِ أي هو أعدمكم كم أعدم من قبلكم، فكأنه قال أعطاكم الوجود و البقاء، و يسلب منكم الوجود و البقاء، و أما سلب البقاء فبإظهار الفساد، و أما سلب الوجود فبالإهلاك، و عند الإعطاء قدم الوجود على البقاء، لأن الوجود أولا ثم البقاء، و عند السلب قدم البقاء، و هو الاستمرار ثم الوجود.
و قوله: كانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ يحتمل وجوها ثلاثة أحدها: أن الهلاك في الأكثر كان بسبب الشرك الظاهر و إن كان بغيره أيضا كالإهلاك بالفسق و المخالفة كما كان على أصحاب السبت الثاني: أن كل كافر أهلك لم يكن مشركا بل منهم من كان معطلا نافيا لكنهم قليلون، و أكثر الكفار مشركون الثالث: أن العذاب العاجل لم يختص بالمشركين حين أتى، كما قال تعالى: وَ اتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً [الأنفال: 25] بل كان على الصغار و المجانين، و لكن أكثرهم كانوا مشركين/ ثم قال تعالى:
[سورة الروم (30): الآيات 43 الى 44]
مفاتيح الغيب، ج25، ص: 106
لما نهى الكافر عما هو عليه، أمر المؤمن بما هو عليه و خاطب النبي عليه السلام ليعلم المؤمن فضيلة ما هو مكلف به فإنه أمر به أشرف الأنبياء، و للمؤمنين في التكليف مقام الأنبياء كما
قال عليه الصلاة و السلام: «إن اللّه أمر عباده المؤمنين بما أمر به عباده المرسلين»
و قد ذكرنا معناه، و قوله: مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ يحتمل وجهين الأول: أن يكون قوله: مِنَ اللَّهِ متعلقا بقوله: يَأْتِيَ و الثاني: أن يكون المراد لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ أي اللّه لا يرد و غيره عاجز عن رده فلا بد من وقوعه يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ أي يتفرقون. ثم أشار إلى التفرق بقوله: مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَ مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ و في الآية مسائل:
المسألة الأولى: قال: مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَ مَنْ عَمِلَ صالِحاً و لم يقل و من آمن و ذلك لأن العمل الصالح به يكمل الإيمان فذكره تحريضا للمكلف عليه، و أما الكفر إذا جاء فلا زنة للعمل معه، و وجه آخر: و هو أن الكفر قسمان: أحدهما: فعل و هو الإشراك و القول به، و الثاني: ترك و هو عدم النظر و الإيمان فالعاقل البالغ إذا كان في مدينة الرسول و لم يأت بالإيمان فهو كافر سواء قال بالشرك أو لم يقل، لكن الإيمان لا بد معه من العمل الصالح، فإن الاعتقاد الحق عمل القلب، و قول لا إله إلا اللّه عمل اللسان و شيء منه لا بد منه.
المسألة الثانية: قال: فَعَلَيْهِ فوحد الكناية و قال: فَلِأَنْفُسِهِمْ جمعها إشارة إلى أن الرحمة أعم من الغضب فتشمله و أهله و ذريته، أما الغضب فمسبوق بالرحمة، لازم لمن أساء.
المسألة الثالثة: قال: فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ و لم يبين و قال في المؤمن فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ تحقيقا لكمال الرحمة فإنه عند الخير بين و فصل بشارة، و عند غيره أشار إليه إشارة. ثم قال تعالى:
[سورة الروم (30): آية 45]
ذكر زيادة تفصيل لما يمهده المؤمن لفعله الخير و عمله الصالح، و هو الجزاء الذي يجازيه به اللّه/ و الملك إذا كان كبيرا كريما، و وعد عبدا من عباده بأني أجازيك يصل إليه منه أكثر مما يتوقعه ثم أكده بقوله:
مِنْ فَضْلِهِ يعني أنا المجازي فكيف يكون الجزاء، ثم إني لا أجازيك من العدل و إنما أجازيك من الفضل فيزداد الرجاء، ثم قال تعالى: إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ أوعدهم بوعيد و لم يفصله لما بينا و إن كان عند المحقق هذا الإجمال فيه كالتفصيل، فإن عدم المحبة من اللّه غاية العذاب، و أفهم ذلك ممن يكون له معشوق فإنه إذا أخبر العاشق بأنه وعدك بالدراهم و الدنانير كيف تكون مسرته، و إذا قيل له إنه قال إني أحب فلانا كيف يكون سروره.
و فيه لطيفة و هي أن اللّه عند ما أسند الكفر و الإيمان إلى العبد قدم الكافر فقال: مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ [الروم: 44] و عند ما أسند الجزاء إلى نفسه قدم المؤمن فقال: لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا ثم قال تعالى: إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ لأن قوله مَنْ كَفَرَ في الحقيقة لمنع الكافر عن الكفر بالوعيد و نهيه عن فعله بالتهديد و قوله: مَنْ عَمِلَ صالِحاً لتحريض المؤمن فالنهي كالإيعاد و التحريض للتقرير و الإيعاد مقدم عند الحكيم الرحيم، و أما عند ما ذكر الجزاء بدأ بالإحسان إظهارا للكرم و الرحمة، فإن قال قائل هذا إنما يصح أن لو كان الذكر في كل موضع كذلك و ليس كذلك فإن اللّه كثير من المواضع قدم إيمان المؤمن على كفر الكافر و قدم
مفاتيح الغيب، ج25، ص: 107
التعذيب على الإثابة، فنقول إن كان اللّه يوفقنا لبيان ذلك نبين ما اقتضى تقديمه، و نحن نقول بأن كل كلمة وردت في القرآن فهي لمعنى و كل ترتيب وجد فهو لحكمة، و ما ذكر على خلافه لا يكون في درجة ما ورد به القرآن فلنبين من جملته مثالا و هو قوله تعالى: يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ* فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ [الروم: 14، 15] قدم المؤمن على الكافر، و هاهنا ذكر مثل ذلك المعنى في قوله: يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ [الروم: 43] أي يتفرقون فقدم الكافر على المؤمن، فنقول هناك أيضا قدم الكافر في الذكر لأنه قال من قبل:
وَ يَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ [الروم: 12] فذكر الكافر و إبلاسه، ثم قال تعالى: وَ يَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ [الروم: 14] فكان ذكر المؤمن وحده لا بد منه ليبين كيفية التفرق بمجموع قوله: يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ و قوله في حق المؤمن: فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ لكن اللّه تعالى أعاد ذكر المجرمين مرة أخرى للتفصيل فقال: وَ أَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا . ثم قال تعالى:
[سورة الروم (30): آية 46]
قوله تعالى: وَ مِنْ آياتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّياحَ مُبَشِّراتٍ لما ذكر أن ظهور الفساد و الهلاك/ بسبب الشرك ذكر ظهور الصلاح و لم يذكر أنه بسبب العمل الصالح، لما ذكرنا غير مرة أن الكريم لا يذكر لإحسانه عوضا، و يذكر لإضراره سببا لئلا يتوهم به الظلم فقال: يُرْسِلَ الرِّياحَ مُبَشِّراتٍ قيل بالمطر كما قال تعالى: بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ* [الأعراف: 57] أي قبل المطر و يمكن أن يقال مبشرات بصلاح الأهوية و الأحوال، فإن الرياح لو لم تهب لظهر الوباء و الفساد.
ثم قال تعالى: وَ لِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ عطف على ما ذكرنا، أي ليبشركم بصلاح الهواء و صحة الأبدان وَ لِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ بالمطر، و قد ذكرنا أن الإذاقة تقال في القليل، و لما كان أمر الدنيا قليلا و راحتها نزر قال: وَ لِيُذِيقَكُمْ ، و أما في الآخرة فيرزقهم و يوسع عليهم و يديم لهم وَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ لما أسند الفعل إلى الفلك عقبه بقوله: بِأَمْرِهِ أي الفعل ظاهرا عليه و لكنه بأمر اللّه، و لذلك لما قال: وَ لِتَبْتَغُوا مسندا إلى العباد ذكر بعده مِنْ فَضْلِهِ أي لا استقلال لشيء بشيء و في الآية مسائل:
الأولى: في الترتيب فنقول في الرياح فوائد، منها إصلاح الهواء، و منها إثارة السحاب، و منها جريان الفلك بها فقال: مُبَشِّراتٍ بإصلاح الهواء فإن إصلاح الهواء يوجد من نفس الهبوب ثم الأمطار بعده، ثم جريان الفلك فإنه موقوف على اختبار من الآدمي بإصلاح السفن و إلقائها على البحر ثم ابتغاء الفضل بركوبها.