کتابخانه تفاسیر
مفاتيح الغيب، ج25، ص: 104
[الروم: 30] و قال: مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَ اتَّقُوهُ وَ أَقِيمُوا الصَّلاةَ [الروم: 31] المسألة التاسعة: قوله تعالى: وَ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ يفهم منه الحصر و قد قال في أول سورة البقرة: وَ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ* [البقرة: 5] إشارة إلى من أقام الصلاة و آتى الزكاة، و آمن بما أنزل على رسوله و بما أنزل من قبله و بالآخرة، فلو كان المفلح منحصرا في أولئك المذكورين في سورة البقرة فهذا خارج عنهم فكيف يكون مفلحا؟ فنقول هذا هو ذاك لأنا بينا أن قوله: فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ متصل بهذا الكلام فإذا أتى بالصلاة و آتى المال و أراد وجه اللّه، فقد ثبت أنه مؤمن مقيم للصلاة مؤت للزكاة معترف بالآخرة فصار مثل المذكور في البقرة. ثم قال تعالى:
[سورة الروم (30): آية 39]
ذكر هذا تحريضا يعني أنكم إذا طلب منكم واحد باثنين ترغبون فيه و تؤتونه و ذلك لا يربوا عند اللّه و الزكاة ننمو عند اللّه كما
أخبر النبي عليه الصلاة و السلام: «إن الصدقة تقع في يد الرحمن فتربوا حتى تصير مثل الجبل»
فينبغي أن يكون إقدامكم على الزكاة أكثر. و قوله تعالى: وَ ما آتَيْتُمْ مِنْ زَكاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ أي أولئك ذوو الأضعاف كالموسر لذي اليسار و أقل ذلك عشرة أضعاف كل مثل لما آتى في كونه حسنة لا في المقدار فلا يفهم أن من أعطى رغيفا يعطيه اللّه عشرة أرغفة بل معناه أن ما يقتضيه فعله من الثواب على وجه الرحمة يضاعفه اللّه عشرة مرات على وجه التفضل، فبالرغيف الواحد يكون له قصر في الجنة فيه من كل شيء ثوابا/ نظرا إلى الرحمة، و عشر قصور مثله نظرا إلى الفضل. مثاله في الشاهد، ملك عظيم قبل من عبده هدية قيمتها درهم لو عوضه بعشرة دراهم لا يكون كرما، بل إذا جرت عادته بأنه يعطي على مثل ذلك ألفا، فإذا أعطى له عشرة آلاف فقد ضاعف له الثواب. ثم قال تعالى:
[سورة الروم (30): آية 40]
قوله تعالى: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ أي أوجدكم ثُمَّ رَزَقَكُمْ أي أبقاكم، فإن العرض مخلوق و ليس بمبقي ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ جمع في هذه الآية بين إثبات الأصلين الحشر و التوحيد، أما الحشر فبقوله: ثُمَّ يُحْيِيكُمْ و الدليل قدرته على الخلق ابتداء، و أما التوحيد فبقوله هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ . ثم قال تعالى: سُبْحانَهُ وَ تَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ فقوله سبحانه أي سبحوه تسبيحا أي نزهوه و لا تصفوه بالإشراك، و قوله: وَ تَعالى أي لا يجوز عليه ذلك و هذا لأن من لا يتصف بشيء قد يجوز عليه فإذا قال سبحوه أي لا تصفوه بالإشراك، و إذا قال و تعالى فكأنه قال و لا يجوز عليه ذلك. ثم إنه تعالى قال:
[سورة الروم (30): آية 41]
مفاتيح الغيب، ج25، ص: 105
وجه تعلق هذه الآية بما قبلها هو أن الشرك سبب الفساد كما قال تعالى: لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا [الأنبياء: 22] و إذا كان الشرك سببه جعل اللّه إظهارهم الشرك مورثا لظهور الفساد و لو فعل بهم ما يقتضيه قولهم: لَفَسَدَتِ السَّماواتُ وَ الْأَرْضُ [المؤمنون: 71] كما قال تعالى: تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَ تَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَ تَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا [مريم: 90] و إلى هذا أشار بقوله تعالى: لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا و اختلفت الأقوال في قوله: فِي الْبَرِّ وَ الْبَحْرِ فقال بعض المفسرين: المراد خوف الطوفان في البر و البحر، و قال بعضهم عدم إثبات بعض الأراضي و ملوحة مياه البحار، و قال آخرون: المراد من البحر المدن، فإن العرب تسمي المدائن بحورا لكون مبنى عمارتها على الماء و يمكن أن يقال/ إن ظهور الفساد في البحر قلة مياه العيون فإنها من البحار، و اعلم أن كل فساد يكون فهو بسبب الشرك لكن الشرك قد يكون في العمل دون القول و الاعتقاد فيسمى فسقا و عصيانا و ذلك لأن المعصية فعل لا يكون للّه بل يكون للنفس، فالفاسق مشرك باللّه بفعله، غاية ما في الباب أن الشرك بالفعل لا يوجب الخلود لأن أصل المرء قلبه و لسانه، فإذا لم يوجد منهما إلا التوحيد يزول الشرك البدني بسببهما، و قوله تعالى: لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا قد ذكرنا أن ذلك ليس تمام جزائهم و كل موجب افترائهم، و قوله: لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ يعني كما يفعله المتوقع رجوعهم مع أن اللّه يعلم أن من أضله لا يرجع لكن الناس يظنون أنه لو فعل بهم شيء من ذلك لكان يوجد منهم الرجوع، كما أن السيد إذا علم من عبده أنه لا يرتدع بالكلام، فيقول القائل لما ذا لا تؤدبه بالكلام؟ فإذا قال لا ينفع ربما يقع في وهمه أنه لا يبعد عن نفع، فإذا زجره و لم يرتدع يظهر له صدق كلام السيد و يطمئن قلبه. ثم قال تعالى:
[سورة الروم (30): آية 42]
لما بين حالهم بظهور الفساد في أحوالهم بسبب فساد أقوالهم بين لهم هلاك أمثالهم و أشكالهم الذين كانت أفعالهم كأفعالهم فقال: قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ أي قوم نوح و عاد و ثمود، و هذا ترتيب في غاية الحسن و ذلك لأنه في وقت الامتنان و الإحسان قال: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ [مريم: 40] أي آتاكم الوجود ثم البقاء و وقت الخذلان بالطغيان قال: ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَ الْبَحْرِ [الروم: 41] أي قلل رزقكم، ثم قال تعالى: سِيرُوا فِي الْأَرْضِ أي هو أعدمكم كم أعدم من قبلكم، فكأنه قال أعطاكم الوجود و البقاء، و يسلب منكم الوجود و البقاء، و أما سلب البقاء فبإظهار الفساد، و أما سلب الوجود فبالإهلاك، و عند الإعطاء قدم الوجود على البقاء، لأن الوجود أولا ثم البقاء، و عند السلب قدم البقاء، و هو الاستمرار ثم الوجود.
و قوله: كانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ يحتمل وجوها ثلاثة أحدها: أن الهلاك في الأكثر كان بسبب الشرك الظاهر و إن كان بغيره أيضا كالإهلاك بالفسق و المخالفة كما كان على أصحاب السبت الثاني: أن كل كافر أهلك لم يكن مشركا بل منهم من كان معطلا نافيا لكنهم قليلون، و أكثر الكفار مشركون الثالث: أن العذاب العاجل لم يختص بالمشركين حين أتى، كما قال تعالى: وَ اتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً [الأنفال: 25] بل كان على الصغار و المجانين، و لكن أكثرهم كانوا مشركين/ ثم قال تعالى:
[سورة الروم (30): الآيات 43 الى 44]
مفاتيح الغيب، ج25، ص: 106
لما نهى الكافر عما هو عليه، أمر المؤمن بما هو عليه و خاطب النبي عليه السلام ليعلم المؤمن فضيلة ما هو مكلف به فإنه أمر به أشرف الأنبياء، و للمؤمنين في التكليف مقام الأنبياء كما
قال عليه الصلاة و السلام: «إن اللّه أمر عباده المؤمنين بما أمر به عباده المرسلين»
و قد ذكرنا معناه، و قوله: مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ يحتمل وجهين الأول: أن يكون قوله: مِنَ اللَّهِ متعلقا بقوله: يَأْتِيَ و الثاني: أن يكون المراد لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ أي اللّه لا يرد و غيره عاجز عن رده فلا بد من وقوعه يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ أي يتفرقون. ثم أشار إلى التفرق بقوله: مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَ مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ و في الآية مسائل:
المسألة الأولى: قال: مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَ مَنْ عَمِلَ صالِحاً و لم يقل و من آمن و ذلك لأن العمل الصالح به يكمل الإيمان فذكره تحريضا للمكلف عليه، و أما الكفر إذا جاء فلا زنة للعمل معه، و وجه آخر: و هو أن الكفر قسمان: أحدهما: فعل و هو الإشراك و القول به، و الثاني: ترك و هو عدم النظر و الإيمان فالعاقل البالغ إذا كان في مدينة الرسول و لم يأت بالإيمان فهو كافر سواء قال بالشرك أو لم يقل، لكن الإيمان لا بد معه من العمل الصالح، فإن الاعتقاد الحق عمل القلب، و قول لا إله إلا اللّه عمل اللسان و شيء منه لا بد منه.
المسألة الثانية: قال: فَعَلَيْهِ فوحد الكناية و قال: فَلِأَنْفُسِهِمْ جمعها إشارة إلى أن الرحمة أعم من الغضب فتشمله و أهله و ذريته، أما الغضب فمسبوق بالرحمة، لازم لمن أساء.
المسألة الثالثة: قال: فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ و لم يبين و قال في المؤمن فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ تحقيقا لكمال الرحمة فإنه عند الخير بين و فصل بشارة، و عند غيره أشار إليه إشارة. ثم قال تعالى:
[سورة الروم (30): آية 45]
ذكر زيادة تفصيل لما يمهده المؤمن لفعله الخير و عمله الصالح، و هو الجزاء الذي يجازيه به اللّه/ و الملك إذا كان كبيرا كريما، و وعد عبدا من عباده بأني أجازيك يصل إليه منه أكثر مما يتوقعه ثم أكده بقوله:
مِنْ فَضْلِهِ يعني أنا المجازي فكيف يكون الجزاء، ثم إني لا أجازيك من العدل و إنما أجازيك من الفضل فيزداد الرجاء، ثم قال تعالى: إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ أوعدهم بوعيد و لم يفصله لما بينا و إن كان عند المحقق هذا الإجمال فيه كالتفصيل، فإن عدم المحبة من اللّه غاية العذاب، و أفهم ذلك ممن يكون له معشوق فإنه إذا أخبر العاشق بأنه وعدك بالدراهم و الدنانير كيف تكون مسرته، و إذا قيل له إنه قال إني أحب فلانا كيف يكون سروره.
و فيه لطيفة و هي أن اللّه عند ما أسند الكفر و الإيمان إلى العبد قدم الكافر فقال: مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ [الروم: 44] و عند ما أسند الجزاء إلى نفسه قدم المؤمن فقال: لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا ثم قال تعالى: إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ لأن قوله مَنْ كَفَرَ في الحقيقة لمنع الكافر عن الكفر بالوعيد و نهيه عن فعله بالتهديد و قوله: مَنْ عَمِلَ صالِحاً لتحريض المؤمن فالنهي كالإيعاد و التحريض للتقرير و الإيعاد مقدم عند الحكيم الرحيم، و أما عند ما ذكر الجزاء بدأ بالإحسان إظهارا للكرم و الرحمة، فإن قال قائل هذا إنما يصح أن لو كان الذكر في كل موضع كذلك و ليس كذلك فإن اللّه كثير من المواضع قدم إيمان المؤمن على كفر الكافر و قدم
مفاتيح الغيب، ج25، ص: 107
التعذيب على الإثابة، فنقول إن كان اللّه يوفقنا لبيان ذلك نبين ما اقتضى تقديمه، و نحن نقول بأن كل كلمة وردت في القرآن فهي لمعنى و كل ترتيب وجد فهو لحكمة، و ما ذكر على خلافه لا يكون في درجة ما ورد به القرآن فلنبين من جملته مثالا و هو قوله تعالى: يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ* فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ [الروم: 14، 15] قدم المؤمن على الكافر، و هاهنا ذكر مثل ذلك المعنى في قوله: يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ [الروم: 43] أي يتفرقون فقدم الكافر على المؤمن، فنقول هناك أيضا قدم الكافر في الذكر لأنه قال من قبل:
وَ يَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ [الروم: 12] فذكر الكافر و إبلاسه، ثم قال تعالى: وَ يَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ [الروم: 14] فكان ذكر المؤمن وحده لا بد منه ليبين كيفية التفرق بمجموع قوله: يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ و قوله في حق المؤمن: فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ لكن اللّه تعالى أعاد ذكر المجرمين مرة أخرى للتفصيل فقال: وَ أَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا . ثم قال تعالى:
[سورة الروم (30): آية 46]
قوله تعالى: وَ مِنْ آياتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّياحَ مُبَشِّراتٍ لما ذكر أن ظهور الفساد و الهلاك/ بسبب الشرك ذكر ظهور الصلاح و لم يذكر أنه بسبب العمل الصالح، لما ذكرنا غير مرة أن الكريم لا يذكر لإحسانه عوضا، و يذكر لإضراره سببا لئلا يتوهم به الظلم فقال: يُرْسِلَ الرِّياحَ مُبَشِّراتٍ قيل بالمطر كما قال تعالى: بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ* [الأعراف: 57] أي قبل المطر و يمكن أن يقال مبشرات بصلاح الأهوية و الأحوال، فإن الرياح لو لم تهب لظهر الوباء و الفساد.
ثم قال تعالى: وَ لِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ عطف على ما ذكرنا، أي ليبشركم بصلاح الهواء و صحة الأبدان وَ لِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ بالمطر، و قد ذكرنا أن الإذاقة تقال في القليل، و لما كان أمر الدنيا قليلا و راحتها نزر قال: وَ لِيُذِيقَكُمْ ، و أما في الآخرة فيرزقهم و يوسع عليهم و يديم لهم وَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ لما أسند الفعل إلى الفلك عقبه بقوله: بِأَمْرِهِ أي الفعل ظاهرا عليه و لكنه بأمر اللّه، و لذلك لما قال: وَ لِتَبْتَغُوا مسندا إلى العباد ذكر بعده مِنْ فَضْلِهِ أي لا استقلال لشيء بشيء و في الآية مسائل:
الأولى: في الترتيب فنقول في الرياح فوائد، منها إصلاح الهواء، و منها إثارة السحاب، و منها جريان الفلك بها فقال: مُبَشِّراتٍ بإصلاح الهواء فإن إصلاح الهواء يوجد من نفس الهبوب ثم الأمطار بعده، ثم جريان الفلك فإنه موقوف على اختبار من الآدمي بإصلاح السفن و إلقائها على البحر ثم ابتغاء الفضل بركوبها.
المسألة الثانية: قال في قوله تعالى: ظَهَرَ الْفَسادُ ... لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا [الروم: 41] و قال هاهنا وَ لِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ فخاطب هاهنا تشريفا و لأن رحمته قريب من المحسنين فالمحسن قريب فيخاطب و المسيء بعيد فلم يخاطبهم، و أيضا قال هناك بعض الذي عملوا و قال هاهنا مِنْ رَحْمَتِهِ فأضاف ما أصابهم إلى أنفسهم و أضاف ما أصاب المؤمن إلى رحمته و فيه معنيان: أحدهما: ما ذكرنا أن الكريم لا يذكر
مفاتيح الغيب، ج25، ص: 108
لإحسانه و رحمته عوضا، و إن وجد فلا يقول أعطيتك لأنك فعلت كذا بل يقول هذا لك مني. و أما ما فعلت من الحسنة فجزاؤه بعد عندي و ثانيهما: أن ما يكون بسبب فعل العبد قليل، فلو قال أرسلت الرياح بسبب فعلكم لا يكون بشارة عظيمة، و أما إذا قال مِنْ رَحْمَتِهِ كان غاية البشارة، و معنى ثالث و هو أنه لو قال بما فعلتم لكان ذلك موهما لنقصان ثوابهم في الآخرة، و أما في حق الكفار فإذا قال بما فعلتم ينبئ عن نقصان عقابهم و هو كذلك.
المسألة الثالثة: قال هناك لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ و قال هاهنا وَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ قالوا و إشارة إلى أن توفيقهم للشكر من النعم فعطف على النعم.
المسألة الرابعة: إنما أخر هذه الآية لأن في الآيات التي قد سبق ذكرها قلنا إنه ذكر من كل باب آيتين فذكر من المنذرات يُرِيكُمُ الْبَرْقَ* و الحادث في الجو في أكثر الأمر نار و ريح فذكر الرياح هاهنا تذكيرا و تقريرا للدلائل، و لما كانت الريح فيها فائدة غير المطر و ليس في البرق فائدة إن لم يكن مطر ذكر هناك خوفا و طمعا، أي قد يكون و قد لا يكون و ذكر هاهنا مُبَشِّراتٍ / لأن تعديل الهواء أو تصفيته بالريح أمر لازم، و حكمه به حكم جازم. ثم قال تعالى:
[سورة الروم (30): آية 47]
لما بين الأصلين ببراهين ذكر الأصل الثالث و هو النبوة فقال: وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلًا أي إرسالهم دليل رسالتك فإنهم لم يكن لهم شغل غير شغلك، و لم يظهر عليهم غير ما ظهر عليك و من كذبهم أصابهم البوار و من آمن بهم كان لهم الانتصار و له وجه آخر يبين تعلق الآية بما قبلها و هو أن اللّه لما بين البراهين و لم ينتفع بها الكفار سلى قلب النبي صلى اللّه عليه و آله و سلم و قال حال من تقدمك كان كذلك و جاءوا أيضا بالبينات، و كان في قومهم كافر و مؤمن كما في قومك فانتقمنا من الكافرين و نصرنا المؤمنين، و في قوله تعالى: وَ كانَ حَقًّا وجهان: أحدهما: فانتقمنا، و كان الانتقام حقا و استأنف و قال علينا نصر المؤمنين و على هذا يكون هذا بشارة للمؤمنين الذين آمنوا بمحمد صلى اللّه عليه و آله و سلم أي علينا نصركم أيها المؤمنون و الوجه الثاني: وَ كانَ حَقًّا عَلَيْنا أي نصر المؤمنين كان حقا علينا و على الأول لطيفة و على الآخر أخرى، أما على الأول فهو أنه لما قال فانتقمنا بين أنه لم يكن ظلما و إنما كان عدلا حقا، و ذلك لأن الانتقام لم يكن إلا بعد كون بقائهم غير مفيد إلا زيادة الإثم و ولادة الكافر الفاجر و كان عدمهم خيرا من وجودهم الخبيث، و على الثاني تأكيد البشارة. لأن كلمة على تفيد معنى اللزوم يقال على فلان كذا ينبئ عن اللزوم، فإذا قال حقا أكد ذلك المعنى، و قد ذكرنا أن النصر هو الغلبة التي لا تكون عاقبتها وخيمة، فإن إحدى الطائفتين إذا انهزمت أولا، ثم عادت آخرا لا يكون النصر إلا للمنهزم، و كذلك موسى و قومه لما انهزموا من فرعون ثم أدركه الغرق لم يكن انهزامهم إلا نصرة، فالكافر إن هزم المسلم في بعض الأوقات لا يكون ذلك نصرة إذ لا عاقبة له. ثم قال تعالى:
[سورة الروم (30): الآيات 48 الى 50]
مفاتيح الغيب، ج25، ص: 109
بين دلائل الرياح على التفصيل الأول في إرسالها قدرة و حكمة. أما القدرة فظاهرة فإن الهواء اللطيف الذي يشقه الودق «1» يصير بحيث يقلع الشجر و هو ليس بذاته كذلك فهو بفعل فاعل مختار، و أما الحكمة ففي نفس الهبوب فيما يفضي إليه من إثارة السحب، ثم ذكر أنواع السحب فمنه ما يكون متصلا و منه ما يكون منقطعا، ثم المطر يخرج منه و الماء في الهواء أعجب علامة للقدرة، و ما يفضي إليه من إنبات الزرع و إدرار الضرع حكمة بالغة، ثم إنه لا يعم بل يختص به قوم دون قوم و هو علامة المشيئة. و قوله تعالى: وَ إِنْ كانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ اختلف المفسرون فيه، فقال بعضهم هو تأكيد كما في قوله تعالى: فَكانَ عاقِبَتَهُما أَنَّهُما فِي النَّارِ خالِدَيْنِ فِيها [الحشر: 17] و قال بعضهم من قبل التنزيل من قبل المطر، و الأولى أن يقال من قبل أن ينزل عليهم من قبله، أي من قبل إرسال الرياح، و ذلك لأن بعد الإرسال يعرف الخبير أن الريح فيها مطر أو ليس، فقبل المطر إذا هبت الريح لا يكون مبلسا، فلما قال من قبل أن ينزل عليهم لم يقل إنهم كانوا مبلسين، لأن من قبله قد يكون راجيا غالبا على ظنه المطر برؤية السحب و هبوب الرياح فقال من قبله، أي من قبل ما ذكرنا من إرسال الريح و بسط السحاب، ثم لما فصل قال: فَانْظُرْ إِلى آثارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ ذلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتى لما ذكر الدلائل قال لمحيي باللام المؤكدة و باسم الفاعل، فإن الإنسان إذا قال إن الملك يعطيك لا يفيد ما يفيد قوله إنه معطيك، لأن الثاني يفيد أنه أعطاك فكان و هو معط متصفا بالعطاء، و الأول يفيد أنه سيتصف به و يتبين هذا بقوله إنك ميت فإنه آكد من قوله إنك تموت وَ هُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ تأكيد لما يفيد الاعتراف. ثم قال تعالى:
[سورة الروم (30): الآيات 51 الى 53]
[في قوله تعالى وَ لَئِنْ أَرْسَلْنا رِيحاً فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ ] لما بين أنهم عند توقف الخير يكونون مبلسين آيسين، و عند ظهوره يكونون مستبشرين، بين أن تلك الحالة أيضا لا يدومون عليها، بل لو أصاب زرعهم ريح مصفر لكفروا فهم منقلبون غير ثابتين لنظرهم إلى الحال لا إلى المآل، و في الآية مسائل:
المسألة الأولى: قال في الآية الأولى يُرْسِلُ الرِّياحَ على طريقة الإخبار عن الإرسال، و قال هاهنا وَ لَئِنْ أَرْسَلْنا لا على طريقة الإخبار عن الإرسال، لأن الرياح من رحمته و هي متواترة، و الريح من عذابه و هو تعالى رؤوف بالعباد يمسكها، و لذلك نرى الرياح النافعة تهب في الليالي و الأيام في البراري و الآكام، و ريح السموم لا تهب إلا في بعض الأزمنة و في بعض الأمكنة.
(1) في الأصل المطبوع بالمطبعة الأميرية «يشقه البق» و هو لا معنى له فيما يظهر لي، و لعل ما ذكرته هو الصواب.
مفاتيح الغيب، ج25، ص: 110
المسألة الثانية: سمى النافعة رياحا و الضارة ريحا لوجوه أحدها: النافعة كثيرة الأنواع كثيرة الأفراد فجمعها، فإن كل يوم و ليلة تهب نفحات من الرياح النافعة، و لا تهب الريح الضارة في أعوام، بل الضارة في الغالب لا تهب في الدهور الثاني: هو أن النافعة لا تكون إلا رياحا فإن ما يهب مرة واحدة لا يصلح الهواء و لا ينشئ السحاب و لا يجري السفن، و أما الضارة بنفحة واحدة تقتل كريح السموم الثالث: هو أن الريح المضرة إما أن تضر بكيفيتها أو بكميتها، أما الكيفية فهي إذا كانت حارة أو متكيفة بكيفية سم، و هذا لا يكون للريح في هبوبها و إنما يكون بسبب أن الهواء الساكن في بقعة فيها حشائش رديئة أو في موضع غائر و هو حار جدا، أو تكون متكونة في أول تكونها كذلك و كيفما كان فتكون واحدة، لأن ذلك الهواء الساكن إذا سخن ثم ورد عليه ريح تحركه و تخرجه من ذلك المكان فتهب على مواضع كاللهيب، ثم ما يخرج بعد ذلك من ذلك المكان لا يكون حارا و لا متكيفا، لأن المكث الطويل شرط التكيف، ألا ترى أنك لو أدخلت إصبعك في نار و أخرجتها بسرعة لا تتأثر، و الحديد إذا مكث فيها يذوب، فإذا تحرك ذلك الساكن و تفرق لا يوجد في ذلك الوقت غيره من جنسه، و أما المتولدة كذلك فنادرة و موضع ندرتها واحد. و أما الكمية فالرياح إذا اجتمعت و صارت واحدة صارت كالخلجان، و مياه العيون إذا اجتمعت تصير نهرا عظيما لا تسده السدود و لا يرده الجلمود، و لا شك أن في ذلك تكون واحدة مجتمعة من كثير، فلهذا قال في المضرة ريح و في النافعة رياح.
ثم إنه تعالى لما علم رسوله أنواع الأدلة و أصناف الأمثلة و وعد و أوعد و لم يزدهم دعاؤه إلا/ فرارا، و إنباؤه إلا كفرا و إصرارا، قال له: فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَ لا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ و فيه مسائل:
المسألة الأولى: في الترتيب فنقول إرشاد الميت محال، و المحال أبعد من الممكن، ثم إرشاد الأصم صعب فإنه لا يسمع الكلام و إنما يفهم ما يفهمه بالإشارة لا غير، و الإفهام بالإشارة صعب، ثم إرشاد الأعمى أيضا صعب، فإنك إذا قلت له الطريق على يمينك يدور إلى يمينه، لكنه لا يبقى عليه بل يحيد عن قريب و إرشاد الأصم أصعب، فلهذا تكون المعاشرة مع الأعمى أسهل من المعاشرة مع الأصم الذي لا يسمع شيئا، لأن غاية الإفهام بالكلام، فإن ما لا يفهم بالإشارة يفهم بالكلام و ليس كل ما يفهم بالكلام يفهم بالإشارة، فإن المعدوم و الغائب لا إشارة إليهما فقال أولا لا تسمع الموتى، ثم قال و لا الأصم و لا تهدي الأعمى الذي دون الأصم.
المسألة الثانية: قال في الصم إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ ليكون أدخل في الامتناع، و ذلك لأن الأصم و إن كان يفهم فإنما يفهم بالإشارة، فإذا ولى و لا يكون نظره إلى المشير فإنه يسمع و لا يفهم.
المسألة الثالثة: قال في الأصم لا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ و لم يقل في الموتى ذلك لأن الأصم قد يسمع الصوت الهائل كصوت الرعد القوي و لكن صوت الداعي لا يبلغ ذلك الحد فقال إنك داع لست بملجئ إلى الإيمان و الداعي لا يسمع الأصم الدعاء.