کتابخانه تفاسیر
مفاتيح الغيب
الجزء الأول
سورة الفاتحة
[سورة الفاتحة(1): الآيات 1 الى 7]
مقدمة و ففيها فصول:
الكتاب الأول في العلوم المستنبطة من قوله: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
القسم الأول من هذا الكتاب في المباحث الأدبية المتعلقة بهذه الكلمة، و فيه أبواب.
القسم الثاني من هذا الكتاب المشتمل على تفسير(أعوذ بالله من الشيطان الرجيم) في المباحث النقلية و العقلية، و فيه أبواب: -.
الكتاب الثاني في مباحث بسم الله الرحمن الرحيم و فيه أبواب
الباب السابع في الأسماء الدالة على الصفات الحقيقية مع الإضافية، و فيه فصول:
الكتاب الثالث الكلام في سورة الفاتحة و في ذكر أسماء هذه السورة،
الباب الخامس في تفسير سورة الفاتحة، و فيه فصول
الكلام في تفسير مجموع هذه السورة، و فيه فصول
الجزء الثاني
سورة البقرة
الجزء الثالث
تتمة سورة البقرة
الجزء الرابع
تتمة سورة البقرة
الجزء الخامس
تتمة سورة البقرة
الجزء السادس
تتمة سورة البقرة
الجزء السابع
[سورة البقرة(2): الآيات 258 الى 259]
سورة آل عمران
الجزء الثامن
تتمة سورة آل عمران
الجزء التاسع
تتمة سورة آل عمران
سورة النساء
الجزء العاشر
تتمة سورة النساء
الجزء الحادي عشر
تتمة سورة النساء
سورة المائدة(5)
الجزء الثاني عشر
تتمة سورة المائدة
سورة الأنعام
الجزء الثالث عشر
تتمة سورة الأنعام
الجزء الرابع عشر
سورة الأعراف
الجزء الخامس عشر
تتمة سورة الأعراف
سورة الأنفال
الجزء السادس عشر
تتمة سورة التوبة
الجزء السابع عشر
سورة يونس
سورة هود
الجزء الثامن عشر
تتمة سورة هود
سورة يوسف
الجزء التاسع عشر
تتمة سورة الرعد
سورة إبراهيم
سورة الحجر
الجزء العشرون
تتمة سورة النحل
سورة الإسراء
الجزء الواحد و العشرون
تتمة سورة الإسراء
سورة الكهف
سورة مريم عليها السلام
الجزء الثاني و العشرون
سورة طه
سورة الأنبياء عليهم السلام
الجزء الثالث و العشرون
سورة الحج
سورة المؤمنون
سورة النور
الجزء الرابع و العشرون
تتمة سورة النور
سورة الفرقان
سورة الشعراء
سورة النمل
سورة القصص
الجزء الخامس و العشرون
تتمة سورة القصص
سورة العنكبوت
سورة الروم
سورة لقمان عليه السلام
سورة السجدة
سورة الأحزاب
سورة سبا
الجزء السادس و العشرون
سورة فاطر
سورة يس
سورة الصافات
سورة ص
سورة الزمر
الجزء السابع و العشرون
سورة المؤمن
سورة فصلت السجدة
سورة الشورى
سورة الزخرف
الجزء الثامن و العشرون
سورة الأحقاف
سورة محمد صلى الله عليه و سلم
سورة الفتح
سورة الحجرات
سورة ق
سورة الذاريات
سورة الطور
سورة النجم
الجزء التاسع و العشرون
تتمة سورة النجم
سورة القمر
سورة الرحمن
سورة الواقعة
سورة الحديد
سورة المجادلة
سورة الحشر
الجزء الثلاثون
سورة الملك
سورة القلم
سورة الحاقة
سورة المعارج
سورة نوح عليه السلام
سورة الجن
سورة المزمل عليه السلام
سورة المدثر
سورة القيامة
سورة الإنسان
سورة المرسلات
الجزء الواحد و الثلاثون
سورة النبأ
سورة النازعات
سورة عبس
سورة التكوير
سورة الانشقاق
سورة الأعلى
سورة الغاشية
سورة الفجر
سورة البلد
سورة الشمس
الجزء الثاني و الثلاثون
سورة العلق
سورة العاديات
مفاتيح الغيب، ج25، ص: 185
لما بين حالهم في الدنيا أنهم يلعنون و يهانون و يقتلون أراد أن يبين حالهم في الآخرة فذكرهم بالقيامة و ذكر ما يكون لهم فيها فقال: يَسْئَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ أي عن وقت القيامة قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللَّهِ لا يتبين لكم، فإن اللّه أخفاها لحكمة هي امتناع المكلف عن الاجتراء و خوفهم منها في كل وقت.
ثم قال تعالى: وَ ما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً إشارة إلى التخويف، و ذلك لأن قول القائل اللّه يعلم متى يكون الأمر الفلاني ينبئ عن إبطاء الأمر، ألا ترى أن من يطالب مديونا بحقه فإن استمهله شهرا أو شهرين ربما يصبر ذلك، و إن قال له اصبر إلى أن يقدم فلان من سفره يقول اللّه يعلم متى يجيء فلان، و يمكن أن يكون مجيء فلان قبل انقضاء تلك المدة فقال هاهنا: وَ ما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً يعني هي في علم اللّه فلا تستبطئوها فربما تقع عن قريب و القريب فعيل يستوي فيه المذكر و المؤنث، قال تعالى: إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ [الأعراف: 56] و لهذا لم يقل لعل الساعة تكون قريبة.
[سورة الأحزاب (33): الآيات 64 الى 65]
ثم قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكافِرِينَ وَ أَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً* خالِدِينَ فِيها أَبَداً يعني كما أنهم ملعونون في الدنيا عندكم فكذلك ملعونون عند اللّه وَ أَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً كما قال تعالى: لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيا وَ الْآخِرَةِ وَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً مُهِيناً [الأحزاب: 57] خالِدِينَ فِيها أَبَداً مطيلين المكث فيها مستمرين لا أمد لخروجهم.
و قوله: لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَ لا نَصِيراً . لما ذكر خلودهم بين تحقيقه و ذلك لأن المعذب لا يخلصه من العذاب إلا صديق يشفع له أو ناصر يدفع عنه، و لا ولي لهم يشفع و لا نصير يدفع. ثم قال تعالى:
[سورة الأحزاب (33): الآيات 66 الى 68]
لما بين أنه لا شفيع لهم يدفع عنهم العذاب بين أن بعض أعضائهم أيضا لا يدفع العذاب عن البعض بخلاف عذاب الدنيا فإن الإنسان يدفع عن وجهه الضربة اتقاء بيده فإن من يقصد رأسه و وجهه تجده يجعل يده جنة أو يطأطئ رأسه كي لا يصيب وجهه، و في الآخرة تقلب وجوههم في النار فما ظنك بسائر أعضائهم التي تجعل جنة للوجه و وقاية له يَقُولُونَ يا لَيْتَنا أَطَعْنَا اللَّهَ وَ أَطَعْنَا الرَّسُولَا فيتحسرون و يندمون حيث لا تغنيهم الندامة و الحسرة، لحصول علمهم بأن الخلاص ليس إلا للمطيع. ثم يقولون: إِنَّا أَطَعْنا سادَتَنا وَ كُبَراءَنا يعني بدل طاعة اللّه تعالى أطعنا السادة و بدل طاعة الرسول أطعنا الكبراء و تركنا طاعة سيد السادات و أكبر الأكابر/ فبدلنا الخير بالشر، فلا جرم فاتنا خير الجنان و أوتينا شر النيران، ثم إنهم يطلبون بعض التشفي بتعذيب المضلين و يقولون: رَبَّنا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذابِ وَ الْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً أي بسبب ضلالهم و إضلالهم و في قوله تعالى: ضِعْفَيْنِ (مِنَ الْعَذابِ) وَ الْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً معنى لطيف و هو أن الدعاء لا يكون إلا عند عدم حصول الأمر
مفاتيح الغيب، ج25، ص: 186
المدعو به و العذاب كان حاصلا لهم و اللعن كذلك فطلبوا ما ليس بحاصل و هو زيادة العذاب بقولهم:
ضِعْفَيْنِ و زيادة اللعن بقولهم: لَعْناً كَبِيراً .
[سورة الأحزاب (33): آية 69]
لما بين اللّه تعالى أن من يؤذي اللّه و رسوله يلعن و يعذب و كان ذلك إشارة إلى إيذاء هو كفر، أرشد المؤمنين إلى الامتناع من إيذاء هو دونه و هو لا يورث كفرا، و ذلك مثل من لم يرض بقسمة النبي عليه السلام و بحكمه بالفيء لبعض و غير ذلك فقال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسى و حديث إيذاء موسى مختلف فيه، قال بعضهم هو إيذاؤهم إياه بنسبته إلى عيب في بدنه، و قال بعضهم: [إن] قارون قرر مع امرأة فاحشة حتى تقول عند بني إسرائيل إن موسى زنى بي فلما جمع قارون القوم و المرأة حاضرة ألقى اللّه في قلبها أنها صدقت و لم تقل ما لقنت و بالجملة الإيذاء المذكور في القرآن كاف و هو أنهم قالوا له: فَاذْهَبْ أَنْتَ وَ رَبُّكَ فَقاتِلا [المائدة: 24] و قولهم: لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً [البقرة: 55] و قولهم: لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ [البقرة: 61] إلى غير ذلك فقال للمؤمنين لا تكونوا أمثالهم إذا طلبكم الرسول إلى القتال أي لا تقولوا: فَاذْهَبْ أَنْتَ وَ رَبُّكَ فَقاتِلا و لا تسألوا ما لم يؤذن لكم فيه: «و إذا أمركم الرسول بشيء فأتوا منه ما استطعتم» و قوله: فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قالُوا على الأول ظاهر لأنه أبرز جسمه لقومه فرأوه و علموا فساد اعتقادهم و نطقت المرأة بالحق و أمر الملائكة حتى عبروا بهرون عليهم فرأوه غير مجروح فعلموا براءة موسى عليه السلام عن قتله الذي رموه به، و على ما ذكرنا فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قالُوا أي أخرجه عن عهدة ما طلبوا بإعطائه البعض إياهم و إظهاره عدم جواز البعض و بالجملة قطع اللّه حجتهم ثم ضرب عليهم الذلة و المسكنة و غضب عليهم، و قوله:
وَ كانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهاً أي ذا وجاهة و معرفة، و الوجيه هو الرجل الذي يكون له وجه أي يكون معروفا بالخير، و كل أحد و إن كان عند اللّه معروفا لكن المعرفة المجردة لا تكفي في الوجاهة، فإن من عرف غيره لكونه خادما له و أجيرا عنده لا يقال هو وجيه عند فلان، و إنما الوجيه من يكون له خصال حميدة تجعل من شأنه أن يعرف و لا ينكر و كان كذلك.
[سورة الأحزاب (33): الآيات 70 الى 71]
ثم قال تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَ قُولُوا قَوْلًا سَدِيداً، يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمالَكُمْ وَ يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ أرشدهم إلى ما ينبغي أن يصدر منهم من الأفعال و الأقوال، أما الأفعال فالخير، و أما الأقوال فالحق لأن من أتى بالخير و ترك الشر فقد اتقى اللّه و من قال الصدق قال قولا سديدا، ثم وعدهم على الأمرين بأمرين:
على الخيرات بإصلاح الأعمال فإن بتقوى اللّه يصلح العمل و العمل الصالح يرفع و يبقى فيبقى فاعله خالدا في الجنة، و على القول السديد بمغفرة الذنوب.
ثم قال تعالى: وَ مَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ فَقَدْ فازَ فَوْزاً عَظِيماً فطاعة اللّه هي طاعة الرسول، و لكن جمع بينهما لبيان شرف فعل المطيع فإنه يفعله الواحد اتخذ عند اللّه عهدا و عند الرسول يدا و قوله: فَقَدْ فازَ فَوْزاً عَظِيماً جعله عظيما من وجهين أحدهما: أنه من عذاب عظيم و النجاة من العذاب تعظم بعظم العذاب.
مفاتيح الغيب، ج25، ص: 187
حتى أن من أراد أن يضرب غيره سوطا ثم نجا منه لا يقال فاز فوزا عظيما، لأن العذاب الذي نجا منه لو وقع ما كان يتفاوت الأمر تفاوتا كثيرا و الثاني: أنه وصل إلى ثواب كثير و هو الثواب الدائم الأبدي. ثم قال تعالى:
[سورة الأحزاب (33): آية 72]
لما أرشد اللّه المؤمنين إلى مكارم الأخلاق و أدب النبي عليه السلام بأحسن الآداب، بين أن التكليف الذي وجهه اللّه إلى الإنسان أمر عظيم فقال: إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ أي التكليف و هو الأمر بخلاف ما في الطبيعة، و اعلم أن هذا النوع من التكليف ليس في السموات و لا في الأرض لأن الأرض و الجبل و السماء كلها على ما خلقت عليه؛ الجبل لا يطلب منه السير و الأرض لا يطلب منها الصعود و لا من السماء الهبوط و لا في الملائكة لأن الملائكة و إن كانوا مأمورين منهيين عن أشياء لكن ذلك لهم كالأكل و الشرب لنا فيسبحون الليل و النهار لا يفترون كما يشتغل الإنسان بأمر موافق لطبعه، و في الآية مسائل:
الأولى: في الأمانة وجوه كثيرة منهم من قال هو التكليف و سمي أمانة لأن من قصر فيه/ فعليه الغرامة، و من وفر فله الكرامة. و منهم من قال هو قول لا إله إلا اللّه و هو بعيد فإن السموات و الأرض و الجبال بألسنتها ناطقة بأن اللّه واحد لا إله إلا هو، و منهم من قال الأعضاء فالعين أمانة ينبغي أن يحفظها و الأذن كذلك و اليد كذلك، و الرجل و الفرج و اللسان، و منهم من قال معرفة اللّه بما فيها و اللّه أعلم.
المسألة الثانية: في العرض وجوه منهم من قال المراد العرض و منهم من قال الحشر و منهم من قال المقابلة أي قابلنا الأمانة على السموات فرجحت الأمانة على أهل السموات و الأرض.
المسألة الثالثة: في السموات و الأرض وجهان أحدهما: أن المراد هي بأعيانها، و الثاني: المراد أهلوها، ففيه إضمار تقديره: إنا عرضنا الأمانة على أهل السموات و الأرض.
المسألة الرابعة: قوله: فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها لم يكن إباؤهن كإباء إبليس في قوله تعالى: أَبى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ [الحجر: 31] من وجهين أحدهما: أن هناك السجود كان فرضا، و هاهنا الأمانة كانت عرضا و ثانيهما: أن الإباء كان هناك استكبارا و هاهنا استصغارا استصغرن أنفسهن، بدليل قوله: وَ أَشْفَقْنَ مِنْها .
المسألة الخامسة: ما سبب الإشفاق؟ نقول الأمانة لا تقبل لوجوه أحدها: أن يكون عزيزا صعب الحفظ كالأواني من الجواهر التي تكون عزيزة سريعة الانكسار، فإن العاقل يمتنع عن قبولها و لو كانت من الذهب و الفضة لقبلها و لو كانت من الزجاج لقبلها، في الأول لأمانه من هلاكها، و في الثاني لكونها غير عزيزة الوجود و التكليف كذلك و الثاني: أن يكون الوقت زمان شهب و غارة فلا يقبل العاقل في ذلك الوقت الودائع، و الأمر كان كذلك لأن الشيطان و جنوده كانوا في قصد المكلفين إذ العرض كان بعد خروج آدم من الجنة الثالث: مراعاة الأمانة و الإتيان بما يجب كإيداع الحيوانات التي تحتاج إلى العلف و السقي و موضع مخصوص يكون برسمها، فإن العاقل يمتنع من قبولها بخلاف متاع يوضع في صندوق أو في زاوية بيت و التكليف كذلك فإنه يحتاج إلى تربية و تنمية.
المسألة السادسة: كيف حملها الإنسان و لم تحملها هذه الأشياء؟ فيه جوابان أحدهما: بسبب جهله بما
مفاتيح الغيب، ج25، ص: 188
فيها و علمهن، و لهذا قال تعالى: إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولًا . و الثاني: إن الأشياء نظرت إلى أنفسهن فرأين ضعفهن فامتنعن، و الإنسان نظر إلى جانب المكلف، و قال المودع عالم قادر لا يعرض الأمانة إلا على أهلها و إذا أودع لا يتركها بل يحفظها بعينه و عونه فقبلها، و قال: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَ إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة: 5].
المسألة السابعة: قوله تعالى: إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولًا فيه وجوه أحدها: أن المراد منه آدم ظلم نفسه بالمخالفة و لم يعلم ما يعاقب عليه من الإخراج من الجنة ثانيها: المراد الإنسان يظلم بالعصيان و يجهل ما عليه من العقاب ثالثها: إنه كان ظلوما جهولا، أي كان من شأنه الظلم و الجهل/ يقال فرس شموس و دابة جموح و ماء طهور أي من شأنه ذلك، فكذلك الإنسان من شأنه الظلم و الجهل فلما أودع الأمانة بقي بعضهم على ما كان عليه و بعضهم ترك الظلم كما قال تعالى: الَّذِينَ آمَنُوا وَ لَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ [الأنعام: 82] و ترك الجهل كما قال تعالى في حق آدم عليه السلام: وَ عَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها [البقرة: 31] و قال في حق المؤمنين عامة:
وَ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ [آل عمران: 7] و قال تعالى: إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ [فاطر: 28] رابعها: إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولًا في ظن الملائكة حيث قالوا: أَ تَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها [البقرة: 30] و بين علمه عندهم حيث قال تعالى: أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ [البقرة: 31] و قال بعضهم في تفسير الآية إن المخلوق على قسمين مدرك و غير مدرك، و المدرك منه من يدرك الكلي و الجزئي مثل الآدمي، و منه من يدرك الجزئي كالبهائم ثم تدرك الشعير الذي تأكله و لا تتفكر في عواقب الأمور و لا تنظر في الدلائل و البراهين، و منه من يدرك الكلي و لا يدرك الجزئي كالملك يدرك الكليات و لا يدرك لذة الجماع و الأكل، قالوا و إلى هذا أشار اللّه تعالى بقوله: ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ [البقرة: 31] فاعترفوا بعدم علمهم بتلك الجزئيات و التكليف لم يكن إلا على مدرك الأمرين إذ له لذات بأمور جزئية، فمنع منها لتحصيل لذات حقيقية هي مثل لذة الملائكة بعبادة اللّه و معرفته، و أما غيره فإن كان مكلفا يكون مكلفا لا بمعنى الأمر بما فيه عليهم كلفة و مشقة بل بمعنى الخطاب فإن المخاطب يسمى مكلفا لما أن المكلف مخاطب فسمي المخاطب مكلفا و في الآية لطائف الأولى: الأمانة كان عرضها على آدم فقبلها فكان أمينا عليها و القول قول الأمين فهو فائز، بقي أولاده أخذوا الأمانة منه و الآخذ من الأمين ليس بمؤتمن، و لهذا وارث المودع لا يكون القول قوله و لم يكن له بد من تجديد عهد و ائتمان، فالمؤمن اتخذ عند اللّه عهدا فصار أمينا من اللّه فصار القول قوله فكان له ما كان لآدم من الفوز. و لهذا قال تعالى: وَ يَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَ الْمُؤْمِناتِ [الأحزاب:
73] أي كما تاب على آدم في قوله تعالى: فَتابَ عَلَيْهِ* [البقرة: 37] و الكافر صار آخذا للأمانة من المؤتمن فبقي في ضمانه، ثم إن المؤمن إذا أصاب الأمانة في يده شيء بقضاء اللّه و قدره كان ذلك من غير تقصير منه و الأمين لا يضمن ما فات بغير تقصير، و الكافر إذا أصاب الأمانة في يده شيء ضمن و إن كان بقضاء اللّه و قدره، لأنه يضمن ما فات و إن لم يكن بتقصير اللطيفة الثانية: خص الأشياء الثلاثة بالذكر لأنها أشد الأمور و أحملها للأثقال، و أما السموات فلقوله تعالى: وَ بَنَيْنا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِداداً [النبأ: 12] و الأرض و الجبال لا تخفى شدتها و صلابتها، ثم إن هذه الأشياء لما كانت لها شدة و صلابة عرض اللّه تعالى الأمانة عليها و اكتفى بشدتهن و قوتهن فامتنعن، لأنهن و إن كن أقوياء إلا أن أمانة اللّه تعالى فوق قوتهن، و حملها الإنسان مع ضعفه الذي قال اللّه تعالى فيه: وَ خُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً [النساء: 28] و لكن وعده بالإعانة على حفظ الأمانة بقوله: وَ مَنْ
مفاتيح الغيب، ج25، ص: 189
يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ [الطلاق: 3] فإن قيل فالذي يعينه اللّه تعالى كيف يعذب فلم يعذب الكافر؟ نقول قال اللّه تعالى: «أنا أعين من يستعين بي و يتوكل علي» و الكافر لم يرجع إلى اللّه تعالى فتركه مع نفسه فيبقى في عهدة الأمانة اللطيفة الثالثة: قوله/ تعالى: فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها و قوله تعالى: وَ حَمَلَهَا الْإِنْسانُ إشارة إلى أن فيه مشقة بخلاف ما لو قال فأبين أن يقبلنها و قبلها الإنسان، و من قال لغيره افعل هذا الفعل فإن لم يكن في الفعل تعب يقابل بأجرة فإذا فعله لا يستحق أجرة فقال تعالى: وَ حَمَلَهَا إشارة إلى أنه مما يستحق الأجر عليه أي على مجرد حمل الأمانة، و إما على رعايتها حق الرعاية فيستحق الزيادة فإن قيل فالكل حملوها، غاية ما في الباب أن الكافر لم يأت بشيء زائد على الحمل فينبغي أن يستحق الأجر على الحمل فنقول الفعل إذا كان على وفق الإذن من المالك الآمر يستحق الفاعل الأجرة، ألا ترى أنه لو قال احمل هذا إلى الضيعة التي على الشمال فحمل و نقلها إلى الضيعة التي على الجنوب لا يستحق الأجرة و يلزمه ردها إلى الموضع الذي كان فيه كذلك الكافر حملها على غير وجه الإذن فغرم و زالت حسناته التي عملها بسببه. ثم قال تعالى:
[سورة الأحزاب (33): آية 73]
أي حملها الإنسان ليقع تعذيب المنافق و المشرك، فإن قال قائل لم قدم التعذيب على التوبة نقول لما سمى التكليف أمانة و الأمانة من حكمها اللازم أن الخائن يضمن و ليس من حكمها اللازم أن الأمين الباذل جهده يستفيد أجرة فكان التعذيب على الخيانة كاللازم و الأجر على الحفظ إحسان و العدل قبل الإحسان و فيه مسألتان:
المسألة الأولى: لم عطف المشرك على المنافق، و لم يعد اسمه تعالى فلم يقل و يعذب اللّه المشركين و عند التوبة أعاد اسمه و قال وَ يَتُوبَ اللَّهُ و لو قال و يتوب على المؤمنين كان المعنى حاصلا؟ نقول أراد تفضيل المؤمن على المنافق فجعله كالكلام المستأنف و يجب هناك ذكر الفاعل فقال: وَ يَتُوبَ اللَّهُ و يحقق هذا قراءة من قرأ (و يتوب اللّه) بالرفع.
المسألة الثانية: ذكر اللّه في الإنسان وصفين الظلوم و الجهول و ذكر من أوصافه وصفين فقال: وَ كانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً أي كان غفورا للظلوم و رحيما على الجهول، و ذلك لأن اللّه تعالى وعد عباده بأنه يغفر الظلم جميعا إلا الظلم العظيم الذي هو الشرك كما قال تعالى: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان: 13] و أما الوعد فقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَ يَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ* [النساء: 48] و أما الرحمة على الجهل فلأن الجهل محل الرحمة و لذلك يعتذر المسيء بقوله ما علمت.
و هاهنا لطيفة: و هي أن اللّه تعالى أعلم عبده بأنه غفور رحيم، و بصره بنفسه فرآه ظلوما جهولا ثم عرض عليه الأمانة فقبلها مع ظلمه و جهله لعلمه فيما يجبرها من الغفران و الرحمة و اللّه أعلم.
و الحمد للّه رب العالمين و صلى اللّه على محمد النبي الأمي و آله.
مفاتيح الغيب، ج25، ص: 190
سورة سبا
مكية و قيل فيها آية مدنية و هي وَ يَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ الآية و هي أربع و قيل خمس و خمسون آية بسم اللّه الرحمن الرحيم
[سورة سبإ (34): آية 1]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
السور المفتتحة بالحمد خمس سور سورتان منها في النصف الأول و هما الأنعام و الكهف و سورتان في الأخير و هما هذه السورة و سورة الملائكة و الخامسة و هي فاتحة الكتاب تقرأ مع النصف الأول و مع النصف الأخير و الحكمة فيها أن نعم اللّه مع كثرتها و عدم قدرتنا على إحصائها منحصرة في قسمين نعمة الإيجاد و نعمة الإبقاء، فإن اللّه تعالى خلقنا أولا برحمته و خلق لنا ما نقوم به و هذه النعمة توجد مرة أخرى بالإعادة فإنه يخلقنا مرة أخرى و يخلق لنا ما يدوم فلنا حالتان الابتداء و الإعادة و في كل حالة له تعالى علينا نعمتان نعمة الإيجاد و نعمة الإبقاء فقال في النصف الأول: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ وَ جَعَلَ الظُّلُماتِ وَ النُّورَ [الأنعام: 1] إشارة إلى الشكر على نعمة الإيجاد و يدل عليه قوله تعالى فيه: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ [الأنعام: 2] إشارة إلى الإيجاد الأول و قال في السورة الثانية و هي الكهف الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ وَ لَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً* قَيِّماً [الكهف: 1، 2] إشارة إلى الشكر على نعمة الإبقاء، فإن الشرائع بها البقاء و لولا شرع ينقاد له الخلق لا تبع كل واحد هواه و لو وقعت المنازعات في المشتبهات و أدى إلى التقاتل و التفاني، ثم قال في هذه السورة الْحَمْدُ لِلَّهِ إشارة إلى نعمة الإبقاء و يدل عليه قوله تعالى: وَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ و قال في الملائكة: الْحَمْدُ لِلَّهِ إشارة إلى نعمة الإبقاء و يدل عليه قوله تعالى: جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا [فاطر: 1] و الملائكة بأجمعهم لا يكونون رسلا إلا يوم القيامة يرسلهم اللّه مسلمين كما قال تعالى: وَ تَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ [الأنبياء: 103] و قال تعالى عنهم: سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوها خالِدِينَ [الزمر: 73] و فاتحة الكتاب لما اشتملت على ذكر النعمتين بقوله تعالى: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ [الفاتحة: 2] إشارة إلى النعمة العاجلة و قوله: مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ [الفاتحة: 4] إشارة إلى النعمة/ الآجلة قرئت في الافتتاح و في الاختتام، ثم في الآية مسائل:
مفاتيح الغيب، ج25، ص: 191
المسألة الأولى: الحمد شكر و الشكر على النعمة و اللّه تعالى جعل ما في السموات و ما في الأرض لنفسه بقوله: لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ و لم يبين أنه لنا حتى يجب الشكر نقول جوابا عنه الحمد يفارق الشكر في معنى و هو أن الحمد أعم فيحمد من فيه صفات حميدة و إن لم ينعم على الحامد أصلا، فإن الإنسان يحسن منه أن يقول في حق عالم لم يجتمع به أصلا أنه عالم عامل بارع كامل فيقال له إنه يحمد فلانا و لا يقال إنه يشكره إلا إذا ذكر نعمه أو ذكره على نعمه فاللّه تعالى محمود في الأزل لا تصافه بأوصاف الكمال و نعوت الجلال و مشكور و لا يزال على ما أبدى من الكرم و أسدى من النعم فلا يلزم ذكر النعمة للحمد بل يكفي ذكر العظمة و في كونه مالك ما في السموات و ما في الأرض عظمة كاملة فله الحمد على أنا نقول قوله: لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ يوجب شكرا أتم مما يوجبه قوله تعالى: خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ [البقرة: 29] و ذلك لأن ما في السموات و الأرض إذا كان للّه و نحن المنتفعون به لا هو، يوجب ذلك شكرا لا يوجبه كون ذلك لنا.
المسألة الثانية: قد ذكرتم أن الحمد هاهنا إشارة إلى النعمة التي في الآخرة، فلم ذكر اللّه السموات و الأرض؟ فنقول نعم الآخرة غير مرئية فذكر اللّه النعم المرئية و هي ما في السموات و ما في الأرض، ثم قال:
وَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ ليقاس نعم الآخرة بنعم الدنيا و يعلم فضلها بدوامها و فناء العاجلة و لهذا قال: وَ هُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ إشارة إلى أن خلق هذه الأشياء بالحكمة و الخير، و الحكمة صفة ثابتة للّه لا يمكن زوالها فيمكن منه إيجاد أمثال هذه مرة أخرى في الآخرة.
المسألة الثالثة: الحكمة هي العلم الذي يتصل به الفعل فإن من يعلم أمرا و لم يأت بما يناسب علمه لا يقال له حكيم، فالفاعل الذي فعله على وفق العلم هو الحكيم، و الخبير هو الذي يعلم عواقب الأمور و بواطنها فقوله: (حكيم) أي في الابتداء يخلق كما ينبغي و خبير أي بالانتهاء يعلم ماذا يصدر من المخلوق و ما لا يصدر إلى ما ذا يكون مصير كل أحد فهو حكيم في الابتداء خبير في الانتهاء. ثم بين اللّه تعالى كما أخبره بقوله:
[سورة سبإ (34): آية 2]
ما يلج في الأرض من الحبة و الأموات و يخرج منها من السنابل و الأحياء و ما ينزل من السماء/ من أنواع رحمته منها المطر و منها الملائكة و منها القرآن، و ما يعرج فيها منها الكلم الطيب لقوله تعالى: إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ و منها الأرواح و منها الأعمال الصالحة لقوله: وَ الْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ [فاطر: 10] و فيه مسائل:
المسألة الأولى: قدم ما يلج في الأرض على ما ينزل من السماء، لأن الحبة تبذر أولا ثم تسقى ثانيا.