کتابخانه تفاسیر
مفاتيح الغيب، ج26، ص: 228
المراد منه ذكر دليل آخر على قدرة اللّه و ذلك من حيث إن البحرين يستويان في الصورة و يختلفان في الماء، فإن أحدهما عذب فرات و الآخر ملح/ أجاج، و لو كان ذلك بإيجاب لما اختلف المتساويان، ثم إنهما بعد اختلافهما يوجد منهما أمور متشابهة، فإن اللحم الطري يوجد فيهما، و اللحية تؤخذ منهما، و من يوجد في المتشابهين اختلافا و من المختلفين اشتباها لا يكون إلا قادرا مختارا. و قوله: وَ ما يَسْتَوِي الْبَحْرانِ إشارة إلى أن عدم استوائهما دليل على كمال قدرته و نفوذ إرادته و في الآية مسائل:
المسألة الأولى: قال أهل اللغة لا يقال في ماء البحر إذا كان فيه ملوحة مالح، و إنما يقال له ملح، و قد يذكر في بعض كتب الفقه يصير بها ماء البحر مالحا، و يؤاخذ قائله به. و هو أصح مما يذهب إليه القوم و ذلك لأن الماء العذب إذا ألقي فيه ملح حتى ملح لا يقال له إلا مالح، و ماء ملح يقال للماء الذي صار من أصل خلقته كذلك، لأن المالح شيء فيه ملح ظاهر في الذوق، و الماء الملح ليس ماء و ملحا بخلاف الطعام المالح فالماء العذب الملقى فيه الملح ماء فيه ملح ظاهر في الذوق، بخلاف ما هو من أصل خلقته كذلك، فلما قال الفقيه الملح أجزاء أرضية سبخة يصير بها ماء البحر مالحا راعى فيه الأصل فإنه جعله ماء جاوره ملح، و أهل اللغة حيث قالوا في البحر ماؤه ملح جعلوه كذلك من أصل الخلقة، و الأجاج المر، و قوله: وَ مِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيًّا من الطير و السمك وَ تَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها من اللؤلؤ و المرجان وَ تَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَواخِرَ أي ماخرات تمخر البحر بالجريان أي تشق، و قوله: لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ يدل على ما ذكرناه من أن المراد من الآية الاستدلال بالبحرين و ما فيهما على وجود اللّه و وحدانيته و كمال قدرته. ثم قال تعالى:
[سورة فاطر (35): آية 13]
استدلال آخر باختلاف الأزمنة و قد ذكرناه مرارا، و ذكرنا أن قوله تعالى بعده: وَ سَخَّرَ الشَّمْسَ وَ الْقَمَرَ جواب لسؤال يذكره المشركون و هو أنهم قالوا اختلاف الليل و النهار بسبب اختلاف القسي الواقعة فوق الأرض و تحتها، فإن في الصيف تمر الشمس على سمت الرؤوس في بعض البلاد الماثلة في الآفاق، و حركة الشمس هناك حمائلية فتقع تحت الأرض أقل من نصف دائرة زمان مكثها تحت الأرض فيقصر الليل و في الشتاء بالضد فيقصر النهار فقال اللّه/ تعالى: وَ سَخَّرَ الشَّمْسَ وَ الْقَمَرَ يعني سبب الاختلاف و إن كان ما ذكرتم، لكن سير الشمس و القمر بإرادة اللّه و قدرته فهو الذي فعل ذلك.
ثم قال تعالى: ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ ما يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ .
أي ذلك الذي فعل هذه الأشياء من فطر السموات و الأرض و إرسال الأرواح و إرسال الرياح و خلق الإنسان من تراب و غير ذلك له الملك كله فلا معبود إلا هو لذاته الكامل و لكونه ملكا و الملك مخدوم بقدر ملكه، فإذا كان له الملك كله فله العبادة كلها، ثم بين ما ينافي صفة الإلهية، و هو قوله: وَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ ما يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ ، و ههنا لطيفة: و هي أن اللّه تعالى ذكر لنفسه نوعين من الأوصاف أحدهما: أن الخلق بالقدرة الإرادة و الثاني: الملك و استدل بهما على أنه إله معبود كما قال تعالى: قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ* مَلِكِ النَّاسِ* إِلهِ النَّاسِ [الناس: 1- 3] ذكر الرب و الملك و رتب عليهما كونه إلها أي معبودا، و ذكر فيمن أشركوا
مفاتيح الغيب، ج26، ص: 229
به سلب صفة واحدة و هو عدم الملك بقوله: وَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ ما يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ و لم يذكر سلب الوصف الآخر لوجهين أحدهما: أن كلهم كانوا معترفين بأن لا خالق لهم إلا اللّه و إنما كانوا يقولون بأن اللّه تعالى فوض أمر الأرض و الأرضيات إلى الكواكب التي الأصنام على صورتها و طوالعها فقال: لا ملك لهم و لا ملكهم اللّه شيئا و لا ملكوا شيئا و ثانيهما: أنه يلزم من عدم الملك عدم الخلق لأنه لو خلق شيئا لملكه فإذا لم يملك قطميرا ما خلق قليلا و لا كثيرا. ثم قال تعالى:
[سورة فاطر (35): آية 14]
إبطالا لما كانوا يقولون إن في عبادة الأصنام عزة من حيث القرب منها و النظر إليها و عرض الحوائج عليها، و اللّه لا يرى و لا يصل إليه أحد فقال هؤلاء لا يسمعون دعاءكم و اللّه يصعد إليه الكلم الطيب، ليسمع و يقبل ثم نزل عن تلك الدرجة، و قال هب أنهم يسمعون كما يظنون فإنهم كانوا يقولون بأن الأصنام تسمع و تعلم و لكن ما كان يمكنهم أن يقولوا إنهم يجيبون لأن ذلك إنكار للمحس به و عدم سماعهم إنكار للمعقول و النزاع و إن كان يقع في المعقول فلا يمكن وقوعه في المحس به، ثم إنه تعالى قال: وَ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ لما بين عدم النفع فيهم في الدنيا بين عدم النفع منهم في الآخرة بل أشار إلى وجود الضرر منهم في الآخرة بقوله: وَ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ أي بإشراككم باللّه شيئا، كما قال تعالى: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان: 13] أي/ الإشراك و قوله: وَ لا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ يحتمل وجهين أحدهما: أن يكون ذلك خطابا مع النبي صلى اللّه عليه و آله و سلم و وجهه هو أن اللّه تعالى لما أخبر أن الخشب و الحجر يوم القيامة ينطق و يكذب عابده و ذلك أمر لا يعلم بالعقل المجرد لولا إخبار اللّه تعالى عنه أنهم يكفرون بهم يوم القيامة، و هذا القول مع كون الخبر عنه أمرا عجيبا هو كما قال، لأن المخبر عنه خبير و ثانيهما: هو أن يكون ذلك خطابا غير مختص بأحد، أي هذا الذي ذكر هو كما قال: وَ لا يُنَبِّئُكَ أيها السامع كائنا من كنت مِثْلُ خَبِيرٍ . ثم قال تعالى:
[سورة فاطر (35): آية 15]
يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللَّهِ وَ اللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (15)
لما كثر الدعاء من النبي صلى اللّه عليه و آله و سلم و الإصرار من الكفار و قالوا إن اللّه لعله يحتاج إلى عبادتنا حتى يأمرنا بها أمرا بالغا و يهددنا على تركها مبالغا فقال تعالى: أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللَّهِ وَ اللَّهُ هُوَ الْغَنِيُ فلا يأمركم بالعبادة لاحتياجه إليكم و إنما هو لإشفاقه عليكم، و في الآية مسائل:
المسألة الأولى: التعريف في الخبر قليل و الأكثر أن يكون الخبر نكرة و المبتدأ معرفة و هو معقول و ذلك لأن المخبر لا يخبر في الأكثر إلا بأمر لا يكون عند المخبر به علم أو في ظن المتكلم أن السامع لا علم له به، ثم أن يكون معلوما عند السامع حتى يقول له أيها السامع الأمر الذي تعرفه أنت فيه المعنى الفلاني كقول القائل زيد قائم أو قام أي زيد الذي تعرفه ثبت له قيام لا علم عندك به، فإن كان الخبر معلوما عند السامع و المبتدأ كذلك و يقع الخبر تنبيها لا تفهيما يحسن تعريف الخبر غاية الحسن، كقول القائل: اللّه ربنا و محمد نبينا، حيث عرف كون اللّه ربا، و كون محمد نبيا، و هاهنا لما كان كون الناس فقراء أمرا ظاهرا لا يخفى على أحد قال: أَنْتُمُ الْفُقَراءُ .
مفاتيح الغيب، ج26، ص: 230
المسألة الثانية: قوله: إِلَى اللَّهِ إعلام بأنه لا افتقار إلا إليه و لا اتكال إلا عليه و هذا يوجب عبادته لكونه مفتقرا إليه و عدم عبادة غيره لعدم الافتقار إلى غيره، ثم قال: وَ اللَّهُ هُوَ الْغَنِيُ أي هو مع استغنائه يدعوكم كل الدعاء و أنتم من احتياجكم لا تجيبونه و لا تدعونه فيجيبكم.
المسألة الثالثة: في قوله: الْحَمِيدُ لما زاد في الخبر الأول و هو قوله: أَنْتُمُ الْفُقَراءُ زيادة و هو قوله:
إِلَى اللَّهِ إشارة لوجوب حصر العبادة في عبادته زاد في وصفه بالغني زيادة و هو كونه حميدا إشارة إلى كونكم فقراء و في مقابلته اللّه غني و فقركم إليه في مقابلة نعمه عليكم لكونه حميدا واجب الشكر، فلستم أنتم فقراء و اللّه مثلكم في الفقر بل هو غني على الإطلاق و لستم أنتم لما افتقرتم إليه ترككم غير مقضي الحاجات بل قضى في الدنيا حوائجكم، و إن آمنتم يقضي في الآخرة حوائجكم فهو حميد./ ثم قال تعالى:
[سورة فاطر (35): آية 16]
إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَ يَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (16)
بيانا لغناه و فيه بلاغة كاملة و بيانها أنه تعالى قال: إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أي ليس إذهابكم موقوفا إلا على مشيئته بخلاف الشيء المحتاج إليه، فإن المحتاج لا يقول فيه إن يشأ فلان هدم داره و أعدم عقاره، و إنما يقول لولا حاجة السكنى إلى الدار لبعتها أو لولا الافتقار إلى العقار لتركتها، ثم إنه تعالى زاد بيان الاستغناء بقوله:
وَ يَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ يعني إن كان يتوهم متوهم أن هذا الملك له كمال و عظمة فلو أذهبه لزال ملكه و عظمته فهو قادر بأن يخلق خلقا جديدا أحسن من هذا و أجمل و أتم و أكمل. ثم قال تعالى:
[سورة فاطر (35): آية 17]
وَ ما ذلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ (17)
أي الإذهاب و الإتيان و هاهنا مسألة: و هي أن لفظ العزيز استعمله اللّه تعالى تارة في القائم بنفسه حيث قال في حق نفسه: وَ كانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزاً [الأحزاب: 25] و قال في هذه السورة: إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ [فاطر:
28] و استعمله في القائم بغيره حيث قال: وَ ما ذلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ و قال: عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ [التوبة:
128] فهل هما بمعنى واحد أم بمعنيين؟ فنقول العزيز هو الغالب في اللغة يقال من عزيز أي من غلب سلب، فاللّه عزيز أي غالب و الفعل إذا كان لا يطيقه شخص يقال هو مغلوب بالنسبة إلى ذلك الفعل فقوله: وَ ما ذلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ أي لا يغلب اللّه ذلك الفعل بل هو هين على اللّه و قوله: عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ أي يحزنه و يؤذيه كالشغل الغالب.
[سورة فاطر (35): آية 18]
و قوله تعالى: وَ لا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى وَ إِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلى حِمْلِها لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَ لَوْ كانَ ذا قُرْبى متعلق بما قبله، و ذلك من حيث إنه تعالى لما بين الحق بالدلائل الظاهرة و البراهين الباهرة ذكر ما يدعوهم إلى النظر فيه فقال: وَ لا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى أي لا تحمل نفس ذنب نفس فالنبي صلى اللّه عليه و آله و سلم لو كان كاذبا في دعائه لكان مذنبا و هو معتقد بأن ذنبه لا تحملونه أنتم فهو يتوقى و يحترز، و اللّه تعالى غير فقير إلى عبادتكم فتفكروا
مفاتيح الغيب، ج26، ص: 231
و اعلموا أنكم إن ضللتم فلا يحمل أحد عنكم وزركم و ليس كما يقول: أكابركم اتَّبِعُوا سَبِيلَنا وَ لْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ [العنكبوت: 12] و في الآية مسائل:
المسألة الأولى: قوله: وازِرَةٌ أي نفس وازرة و لم يقل و لا تزر نفس وزر أخرى و لا جمع بين الموصوف و الصفة فلم يقل و لا تزر نفس وازرة وزرة أخرى لفائدة أما الأول: فلأنه لو قال و لا تزر نفس وزر أخرى، لما علم أن كل نفس وازرة مهمومة بهم وزرها متحيرة في أمرها و وجه آخر: و هو أن قول القائل و لا تزر نفس وزر أخرى، قد يجتمع معها أن/ لا تزر وزرا أصلا كالمعصوم لا يزر وزر غيره و مع ذلك لا يزر وزرا رأسا فقوله: وَ لا تَزِرُ وازِرَةٌ بين أنها تزر وزرها و لا تزر وزر الغير و أما ترك ذكر الموصوف فلظهور الصفة و لزومها للموصوف.
ثم قال تعالى: وَ إِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إشارة إلى أن أحدا لا يحمل عن أحد شيئا مبتدئا و لا بعد السؤال، فإن المحتاج قد يصبر و تقضى حاجته من غير سؤاله، فإذا انتهى الافتقار إلى حد الكمال يحوجه إلى السؤال.
المسألة الثانية: في قوله: مُثْقَلَةٌ زيادة بيان لما تقدم من حيث إنه قال أولا: وَ لا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى فيظن أن أحدا لا يحمل عن أحد لكون ذلك الواحد قادرا على حمله، كما أن القوي إذا أخذ بيده رمانة أو سفرجلة لا تحمل عنه، و أما إذا كان الحمل ثقيلا قد يرحم الحامل فيحمل عنه فقال: مُثْقَلَةٌ يعني ليس عدم الوزر لعدم كونه محلا للرحمة بالثقل بل لكون النفس مثقلة و لا يحمل منها شيء.
المسألة الثالثة: زاد في ذلك بقوله: وَ لَوْ كانَ ذا قُرْبى أي المدعو لو كان ذا قربى لا يحمله و في الأول كان يمكن أن يقال لا يحمله لعدم تعلقه به كالعدو الذي يرى عدوه تحت ثقل، أو الأجنبي الذي يرى أجنبيا تحت حمل لا يحمل عنه فقال: وَ لَوْ كانَ ذا قُرْبى أي يحصل جميع المعاني الداعية إلى الحمل من كون النفس وازرة قوية تحتمل و كون الأخرى مثقلة لا يقال كونها قوية قادرة ليس عليها حمل و كونه سائلة داعية فإن السؤال مظنة الرحمة، لو كان المسؤول قريبا فإذن لا يكون التخلف إلا لمانع و هو كون كل نفس تحت حمل ثقيل.
ثم قال تعالى: إِنَّما تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَ أَقامُوا الصَّلاةَ إشارة إلى أن لا إرشاد فوق ما أتيت به، و لم يفدهم، فلا تنذر إنذارا مفيدا إلا الذين تمتلئ قلوبهم خشية و تتحلى ظواهرهم بالعبادة كقوله:
الَّذِينَ آمَنُوا* إشارة إلى عمل القلب وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ* إشارة إلى عمل الظواهر فقوله: الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَ أَقامُوا الصَّلاةَ في ذلك المعنى، ثم لما بين أن لا تزر وازرة وزر أخرى بين أن الحسنة تنفع المحسنين.
فقال: وَ مَنْ تَزَكَّى فَإِنَّما يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ أي فتزكيته لنفسه.
ثم قال تعالى: وَ إِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ أي المتزكي إن لم تظهر فائدته عاجلا فالمصير إلى اللّه يظهر عنده في يوم اللقاء في دار البقاء، و الوازر إن لم تظهر تبعة وزره في الدنيا فهي تظهر في الآخرة إذ المصير إلى اللّه.
[سورة فاطر (35): الآيات 19 الى 22]
مفاتيح الغيب، ج26، ص: 232
لما بين الهدى و الضلالة و لم يهتد الكافر، و هدى اللّه المؤمن ضرب لهم مثلا بالبصير و الأعمى، فالمؤمن بصير حيث أبصر الطريق الواضح و الكافر أعمى، و في تفسير الآية مسائل:
المسألة الأولى: ما الفائدة في تكثير الأمثلة هاهنا حيث ذكر الأعمى و البصير، و الظلمة و النور، و الظل و الحرور، و الأحياء و الأموات؟ فنقول الأول مثل المؤمن و الكافر فالمؤمن بصير و الكافر أعمى، ثم إن البصير و إن كان حديد البصر و لكن لا يبصر شيئا إن لم يكن في ضوء فذكر للإيمان و الكفر مثلا، و قال الإيمان نور و المؤمن بصير و البصير لا يخفى عليه النور، و الكفر ظلمة و الكافر أعمى فله صاد فوق صاد، ثم ذكر لمآلهما و مرجعهما مثلا و هو الظل و الحرور، فالمؤمن بإيمانه في ظل و راحة و الكافر بكفره في حر و تعب، ثم قال تعالى: وَ ما يَسْتَوِي الْأَحْياءُ وَ لَا الْأَمْواتُ مثلا آخر في حق المؤمن و الكافر كأنه قال تعالى حال المؤمن و الكافر فوق حال الأعمى و البصير، فإن الأعمى يشارك البصير في إدراك ما. و الكافر غير مدرك إدراكا نافعا فهو كالميت و يدل على ما ذكرنا أنه تعالى أعاد الفعل حيث قال أولا: وَ ما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَ الْبَصِيرُ و عطف الظلمات و النور و الظل و الحرور، ثم أعاد الفعل، و قال: وَ ما يَسْتَوِي الْأَحْياءُ وَ لَا الْأَمْواتُ كأنه جعل هذا مقابلا لذلك.
المسألة الثانية: كرر كلمة النفي بين الظلمات و النور و الظل و الحرور و الأحياء الأموات، و لم يكرر بين الأعمى و البصير، و ذلك لأن التكرير للتأكيد و المنافاة بين الظلمة و النور و الظل و الحرور مضادة، فالظلمة تنافي النور و تضاده و العمى و البصر كذلك، أما الأعمى و البصير ليس كذلك بل الشخص الواحد قد يكون بصيرا و هو بعينه يصير أعمى، فالأعمى و البصير لا منافاة بينهما إلا من حيث الوصف، و الظل و الحرور و المنافاة بينهما ذاتية لأن المراد من الظل عدم الحر و البرد فلما كانت المنافاة هناك أتم، أكد بالتكرار، و أما الأحياء و الأموات، و إن كانوا كالأعمى و البصير من حيث إن الجسم الواحد يكون حيا محلا للحياة فيصير ميتا محلا للموت و لكن المنافاة بين الحي و الميت أتم من المنافاة بين الأعمى و البصير، كما بينا أن الأعمى و البصير يشتركان في إدراك أشياء، و لا كذلك الحي و الميت، كيف و الميت يخالف الحي في الحقيقة لا في الوصف على ما تبين في الحكمة الإلهية.
المسألة الثالثة: قدم الأشرف في مثلين و هو الظل و الحرور، و أخره في مثلين و هو البصر و النور، و في مثل هذا يقول المفسرون إنه لتواخي أواخر الآي، و هو ضعيف لأن تواخي الأواخر راجع إلى السجع، و معجزة القرآن في المعنى لا في مجرد اللفظ، فالشاعر يقدم و يؤخر للسجع فيكون اللفظ حاملا له على تغيير المعنى، و أما القرآن فحكمة بالغة و المعنى فيه صحيح و اللفظ فصحيح فلا يقدم و لا يؤخر اللفظ بلا معنى، فنقول الكفار قبل النبي صلى اللّه عليه و آله و سلم كانوا في ضلالة فكانوا كالعمى و طريقهم كالظلة ثم لما جاء النبي صلى اللّه عليه و آله و سلم و بين الحق، و اهتدى به
مفاتيح الغيب، ج26، ص: 233
منهم قوم فصاروا بصيرين و طريقتهم كالنور فقال و ما يستوي من كان قبل البعث على الكفر و من اهتدى بعده إلى الإيمان، فلما كان الكفر قبل الإيمان في زمان محمد صلى اللّه عليه و آله و سلم، و الكافر قبل المؤمن قدم المقدم، ثم لما ذكر المآل و المرجع قدم ما يتعلق بالرحمة على ما يتعلق بالغضب لقوله في الإلهيات سبقت رحمتي غضبي، ثم إن الكافر المصر بعد البعثة صار أضل من الأعمى و شابه الأموات في عدم إدراك الحق من جميع الوجوه فقال: وَ ما يَسْتَوِي الْأَحْياءُ أي المؤمنون الذين آمنوا بما أنزل اللّه و الأموات الذين تليت عليهم الآيات البينات، و لم ينتفعوا بها و هؤلاء كانوا بعد إيمان من آمن فأخرهم عن المؤمنين لوجود حياة المؤمنين قبل ممات الكافرين المعاندين، و قدم الأعمى على البصير لوجود الكفار الضالين قبل البعثة على المؤمنين المهتدين بعدها.
المسألة الرابعة: فإن قلت قابل الأعمى بالبصير بلفظ المفرد و كذلك الظل بالحرور و قابل الأحياء بالأموات بلفظ الجمع، و قابل الظلمات بالنور بلفظ الجمع في أحدهما و الواحد في الآخر، فهل تعرف فيه حكمة؟ قلت: نعم بفضل اللّه و هدايته، أما في الأعمى و البصير و الظل و الحرور، فلأنه قابل الجنس بالجنس، و لم يذكر الأفراد لأن في العميان (و أولي الأبصار قد يوجد فرد من أحد الجنسين يساوي فردا من الجنس الآخر كالبصير الغريب في موضع و الأعمى الذي هو تربية ذلك المكان، و قد يقدر الأعمى على الوصول إلى مقصد و لا يقدر البصير عليه، أو يكون الأعمى عنده من الذكاء ما يساوي به البليد البصير، فالتفاوت بينهما في الجنسين مقطوع به فإن جنس البصير خير من جنس الأعمى، و أما الأحياء و الأموات فالتفاوت بينهما أكثر، إذ ما من ميت يساوي في الإدراك حيا من الأحياء، فذكر أن الأحياء لا يساوون الأموات سواء قابلت الجنس بالجنس أو قابلت الفرد بالفرد، و أما الظلمات و النور فالحق واحد و هو التوحيد و الباطل كثير و هو طرق الإشراك على ما بينا أن بعضهم يعبدون الكواكب و بعضهم النار و بعضهم الأصنام التي هي على صورة الملائكة، و إلى غير ذلك و التفاوت بين كل فرد من تلك الأفراد و بين هذا الواحد بين، فقال الظلمات كلها إذا اعتبرتها لا تجد فيها ما يساوي النور، و قد ذكرنا في تفسير قوله: وَ جَعَلَ الظُّلُماتِ وَ النُّورَ [الأنعام: 1] السبب في توحيد النور و جمع الظلمات، و من جملة ذلك أن النور لا يكون إلا بوجود منور و محل قابل للاستنارة و عدم الحائل بين النور و المستنير. مثاله الشمس/ إذا طلعت و كان هناك موضع قابل للاستنارة و هو الذي يمسك الشعاع، فإن البيت الذي فيه كوة يدخل منها الشعاع إذا كان في مقابلة الكوة منفذ يخرج منه الشعاع و يدخل بيتا آخر و يبسط الشعاع على أرضه يرى البيت الثاني مضيئا و الأول مظلما، و إن لم يكن هناك حائل كالبيت الذي لا كوة له فإنه لا يضيء، فإذا حصلت الأمور الثلاثة يستنير البيت و إلا فلا تتحقق الظلمة بفقد أي أمر كان من الأمور الثلاثة.
ثم قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشاءُ وَ ما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ و فيه احتمال معنيين الأول: أن يكون المراد بيان كون الكفار بالنسبة إلى سماعهم كلام النبي و الوحي النازل عليه دون حال الموتى فإن اللّه يسمع الموتى و النبي لا يسمع من مات و قبر، فالموتى سامعون من اللّه و الكفار كالموتى لا يسمعون من النبي و الثاني: أن يكون المراد تسلية النبي صلى اللّه عليه و آله و سلم فإنه لما بين له أنه لا ينفعهم و لا يسمعهم قال له هؤلاء لا يسمعهم إلا اللّه، فإنه يسمع من يشاء و لو كان صخرة صماء، و أما أنت فلا تسمع من في القبور، فما عليك من حسابهم من شيء. ثم قال تعالى:
[سورة فاطر (35): آية 23]
إِنْ أَنْتَ إِلاَّ نَذِيرٌ (23)
مفاتيح الغيب، ج26، ص: 234
بيانا للتسلية.
[سورة فاطر (35): آية 24]
ثم قال تعالى: إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَ نَذِيراً لما قال: إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ بين أنه ليس نذيرا من تلقاء نفسه إنما هو نذير بإذن اللّه و إرساله.
ثم قال تعالى: وَ إِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ تقريرا لأمرين أحدهما: لتسلية قلبه حيث يعلم أن غيره كان مثله محتملا لتأذي القوم و ثانيهما: إلزام القوم قبوله فإنه ليس بدعا من الرسل و إنما هو مثل غيره يدعى ما ادعاه الرسل و يقرره. و قوله تعالى:
[سورة فاطر (35): آية 25]
يعني أنت جئتهم بالبينة و الكتاب فكذبوك و آذوك و غيرك أيضا أتاهم بمثل ذلك و فعلوا بهم ما فعلوا بك و صبروا على ما كذبوا فكذلك نلزمهم بأن من تقدم من الرسل لم يعلم كونهم رسلا إلا بالمعجزات البينات و قد آتيناها محمدا صلى اللّه عليه و آله و سلم وَ بِالزُّبُرِ وَ بِالْكِتابِ الْمُنِيرِ / و الكل آتيناها محمدا، فهو رسول مثل الرسل يلزمهم قبوله كما لزم قبول موسى و عيسى عليهم السلام أجمعين، و هذا يكون تقريرا مع أهل الكتاب، و اعلم أنه تعالى ذكر أمورا ثلاثة أولها البينات، و ذلك لأن كل رسول فلا بد له من معجزة و هي أدنى الدرجات، ثم قد ينزل عليه كتاب يكون فيه مواعظ و تنبيهات و إن لم يكن فيه نسخ و أحكام مشروعة شرعا ناسخا، و من ينزل عليه مثله أعلى مرتبة ممن لا ينزل عليه ذلك و قد تنسخ شريعته الشرائع و ينزل عليه كتاب فيه أحكام على وفق الحكمة الإلهية، و من يكون كذلك فهو من أولي العزم فقال الرسل تبين رسالتهم بالبينات و إن كانوا أعلى مرتبة فبالزبر، و إن كانوا أعلى فبالكتاب و النبي آتيناه الكل فهو رسول أشرف من الكل لكون كتابه أتم و أكمل من كل كتاب. ثم قال تعالى:
[سورة فاطر (35): آية 26]
ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (26)
أي من كذب بالكتاب المنزل من قبل و بالرسول المرسل أخذه اللّه تعالى فكذلك من يكذب بالنبي عليه السلام، و قوله: فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ سؤال للتقرير فإنهم علموا شدة إنكار اللّه عليهم و إتيانه بالأمر المنكر من الاستئصال.
[سورة فاطر (35): الآيات 27 الى 28]