کتابخانه تفاسیر
مفاتيح الغيب، ج26، ص: 231
و اعلموا أنكم إن ضللتم فلا يحمل أحد عنكم وزركم و ليس كما يقول: أكابركم اتَّبِعُوا سَبِيلَنا وَ لْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ [العنكبوت: 12] و في الآية مسائل:
المسألة الأولى: قوله: وازِرَةٌ أي نفس وازرة و لم يقل و لا تزر نفس وزر أخرى و لا جمع بين الموصوف و الصفة فلم يقل و لا تزر نفس وازرة وزرة أخرى لفائدة أما الأول: فلأنه لو قال و لا تزر نفس وزر أخرى، لما علم أن كل نفس وازرة مهمومة بهم وزرها متحيرة في أمرها و وجه آخر: و هو أن قول القائل و لا تزر نفس وزر أخرى، قد يجتمع معها أن/ لا تزر وزرا أصلا كالمعصوم لا يزر وزر غيره و مع ذلك لا يزر وزرا رأسا فقوله: وَ لا تَزِرُ وازِرَةٌ بين أنها تزر وزرها و لا تزر وزر الغير و أما ترك ذكر الموصوف فلظهور الصفة و لزومها للموصوف.
ثم قال تعالى: وَ إِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إشارة إلى أن أحدا لا يحمل عن أحد شيئا مبتدئا و لا بعد السؤال، فإن المحتاج قد يصبر و تقضى حاجته من غير سؤاله، فإذا انتهى الافتقار إلى حد الكمال يحوجه إلى السؤال.
المسألة الثانية: في قوله: مُثْقَلَةٌ زيادة بيان لما تقدم من حيث إنه قال أولا: وَ لا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى فيظن أن أحدا لا يحمل عن أحد لكون ذلك الواحد قادرا على حمله، كما أن القوي إذا أخذ بيده رمانة أو سفرجلة لا تحمل عنه، و أما إذا كان الحمل ثقيلا قد يرحم الحامل فيحمل عنه فقال: مُثْقَلَةٌ يعني ليس عدم الوزر لعدم كونه محلا للرحمة بالثقل بل لكون النفس مثقلة و لا يحمل منها شيء.
المسألة الثالثة: زاد في ذلك بقوله: وَ لَوْ كانَ ذا قُرْبى أي المدعو لو كان ذا قربى لا يحمله و في الأول كان يمكن أن يقال لا يحمله لعدم تعلقه به كالعدو الذي يرى عدوه تحت ثقل، أو الأجنبي الذي يرى أجنبيا تحت حمل لا يحمل عنه فقال: وَ لَوْ كانَ ذا قُرْبى أي يحصل جميع المعاني الداعية إلى الحمل من كون النفس وازرة قوية تحتمل و كون الأخرى مثقلة لا يقال كونها قوية قادرة ليس عليها حمل و كونه سائلة داعية فإن السؤال مظنة الرحمة، لو كان المسؤول قريبا فإذن لا يكون التخلف إلا لمانع و هو كون كل نفس تحت حمل ثقيل.
ثم قال تعالى: إِنَّما تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَ أَقامُوا الصَّلاةَ إشارة إلى أن لا إرشاد فوق ما أتيت به، و لم يفدهم، فلا تنذر إنذارا مفيدا إلا الذين تمتلئ قلوبهم خشية و تتحلى ظواهرهم بالعبادة كقوله:
الَّذِينَ آمَنُوا* إشارة إلى عمل القلب وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ* إشارة إلى عمل الظواهر فقوله: الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَ أَقامُوا الصَّلاةَ في ذلك المعنى، ثم لما بين أن لا تزر وازرة وزر أخرى بين أن الحسنة تنفع المحسنين.
فقال: وَ مَنْ تَزَكَّى فَإِنَّما يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ أي فتزكيته لنفسه.
ثم قال تعالى: وَ إِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ أي المتزكي إن لم تظهر فائدته عاجلا فالمصير إلى اللّه يظهر عنده في يوم اللقاء في دار البقاء، و الوازر إن لم تظهر تبعة وزره في الدنيا فهي تظهر في الآخرة إذ المصير إلى اللّه.
[سورة فاطر (35): الآيات 19 الى 22]
مفاتيح الغيب، ج26، ص: 232
لما بين الهدى و الضلالة و لم يهتد الكافر، و هدى اللّه المؤمن ضرب لهم مثلا بالبصير و الأعمى، فالمؤمن بصير حيث أبصر الطريق الواضح و الكافر أعمى، و في تفسير الآية مسائل:
المسألة الأولى: ما الفائدة في تكثير الأمثلة هاهنا حيث ذكر الأعمى و البصير، و الظلمة و النور، و الظل و الحرور، و الأحياء و الأموات؟ فنقول الأول مثل المؤمن و الكافر فالمؤمن بصير و الكافر أعمى، ثم إن البصير و إن كان حديد البصر و لكن لا يبصر شيئا إن لم يكن في ضوء فذكر للإيمان و الكفر مثلا، و قال الإيمان نور و المؤمن بصير و البصير لا يخفى عليه النور، و الكفر ظلمة و الكافر أعمى فله صاد فوق صاد، ثم ذكر لمآلهما و مرجعهما مثلا و هو الظل و الحرور، فالمؤمن بإيمانه في ظل و راحة و الكافر بكفره في حر و تعب، ثم قال تعالى: وَ ما يَسْتَوِي الْأَحْياءُ وَ لَا الْأَمْواتُ مثلا آخر في حق المؤمن و الكافر كأنه قال تعالى حال المؤمن و الكافر فوق حال الأعمى و البصير، فإن الأعمى يشارك البصير في إدراك ما. و الكافر غير مدرك إدراكا نافعا فهو كالميت و يدل على ما ذكرنا أنه تعالى أعاد الفعل حيث قال أولا: وَ ما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَ الْبَصِيرُ و عطف الظلمات و النور و الظل و الحرور، ثم أعاد الفعل، و قال: وَ ما يَسْتَوِي الْأَحْياءُ وَ لَا الْأَمْواتُ كأنه جعل هذا مقابلا لذلك.
المسألة الثانية: كرر كلمة النفي بين الظلمات و النور و الظل و الحرور و الأحياء الأموات، و لم يكرر بين الأعمى و البصير، و ذلك لأن التكرير للتأكيد و المنافاة بين الظلمة و النور و الظل و الحرور مضادة، فالظلمة تنافي النور و تضاده و العمى و البصر كذلك، أما الأعمى و البصير ليس كذلك بل الشخص الواحد قد يكون بصيرا و هو بعينه يصير أعمى، فالأعمى و البصير لا منافاة بينهما إلا من حيث الوصف، و الظل و الحرور و المنافاة بينهما ذاتية لأن المراد من الظل عدم الحر و البرد فلما كانت المنافاة هناك أتم، أكد بالتكرار، و أما الأحياء و الأموات، و إن كانوا كالأعمى و البصير من حيث إن الجسم الواحد يكون حيا محلا للحياة فيصير ميتا محلا للموت و لكن المنافاة بين الحي و الميت أتم من المنافاة بين الأعمى و البصير، كما بينا أن الأعمى و البصير يشتركان في إدراك أشياء، و لا كذلك الحي و الميت، كيف و الميت يخالف الحي في الحقيقة لا في الوصف على ما تبين في الحكمة الإلهية.
المسألة الثالثة: قدم الأشرف في مثلين و هو الظل و الحرور، و أخره في مثلين و هو البصر و النور، و في مثل هذا يقول المفسرون إنه لتواخي أواخر الآي، و هو ضعيف لأن تواخي الأواخر راجع إلى السجع، و معجزة القرآن في المعنى لا في مجرد اللفظ، فالشاعر يقدم و يؤخر للسجع فيكون اللفظ حاملا له على تغيير المعنى، و أما القرآن فحكمة بالغة و المعنى فيه صحيح و اللفظ فصحيح فلا يقدم و لا يؤخر اللفظ بلا معنى، فنقول الكفار قبل النبي صلى اللّه عليه و آله و سلم كانوا في ضلالة فكانوا كالعمى و طريقهم كالظلة ثم لما جاء النبي صلى اللّه عليه و آله و سلم و بين الحق، و اهتدى به
مفاتيح الغيب، ج26، ص: 233
منهم قوم فصاروا بصيرين و طريقتهم كالنور فقال و ما يستوي من كان قبل البعث على الكفر و من اهتدى بعده إلى الإيمان، فلما كان الكفر قبل الإيمان في زمان محمد صلى اللّه عليه و آله و سلم، و الكافر قبل المؤمن قدم المقدم، ثم لما ذكر المآل و المرجع قدم ما يتعلق بالرحمة على ما يتعلق بالغضب لقوله في الإلهيات سبقت رحمتي غضبي، ثم إن الكافر المصر بعد البعثة صار أضل من الأعمى و شابه الأموات في عدم إدراك الحق من جميع الوجوه فقال: وَ ما يَسْتَوِي الْأَحْياءُ أي المؤمنون الذين آمنوا بما أنزل اللّه و الأموات الذين تليت عليهم الآيات البينات، و لم ينتفعوا بها و هؤلاء كانوا بعد إيمان من آمن فأخرهم عن المؤمنين لوجود حياة المؤمنين قبل ممات الكافرين المعاندين، و قدم الأعمى على البصير لوجود الكفار الضالين قبل البعثة على المؤمنين المهتدين بعدها.
المسألة الرابعة: فإن قلت قابل الأعمى بالبصير بلفظ المفرد و كذلك الظل بالحرور و قابل الأحياء بالأموات بلفظ الجمع، و قابل الظلمات بالنور بلفظ الجمع في أحدهما و الواحد في الآخر، فهل تعرف فيه حكمة؟ قلت: نعم بفضل اللّه و هدايته، أما في الأعمى و البصير و الظل و الحرور، فلأنه قابل الجنس بالجنس، و لم يذكر الأفراد لأن في العميان (و أولي الأبصار قد يوجد فرد من أحد الجنسين يساوي فردا من الجنس الآخر كالبصير الغريب في موضع و الأعمى الذي هو تربية ذلك المكان، و قد يقدر الأعمى على الوصول إلى مقصد و لا يقدر البصير عليه، أو يكون الأعمى عنده من الذكاء ما يساوي به البليد البصير، فالتفاوت بينهما في الجنسين مقطوع به فإن جنس البصير خير من جنس الأعمى، و أما الأحياء و الأموات فالتفاوت بينهما أكثر، إذ ما من ميت يساوي في الإدراك حيا من الأحياء، فذكر أن الأحياء لا يساوون الأموات سواء قابلت الجنس بالجنس أو قابلت الفرد بالفرد، و أما الظلمات و النور فالحق واحد و هو التوحيد و الباطل كثير و هو طرق الإشراك على ما بينا أن بعضهم يعبدون الكواكب و بعضهم النار و بعضهم الأصنام التي هي على صورة الملائكة، و إلى غير ذلك و التفاوت بين كل فرد من تلك الأفراد و بين هذا الواحد بين، فقال الظلمات كلها إذا اعتبرتها لا تجد فيها ما يساوي النور، و قد ذكرنا في تفسير قوله: وَ جَعَلَ الظُّلُماتِ وَ النُّورَ [الأنعام: 1] السبب في توحيد النور و جمع الظلمات، و من جملة ذلك أن النور لا يكون إلا بوجود منور و محل قابل للاستنارة و عدم الحائل بين النور و المستنير. مثاله الشمس/ إذا طلعت و كان هناك موضع قابل للاستنارة و هو الذي يمسك الشعاع، فإن البيت الذي فيه كوة يدخل منها الشعاع إذا كان في مقابلة الكوة منفذ يخرج منه الشعاع و يدخل بيتا آخر و يبسط الشعاع على أرضه يرى البيت الثاني مضيئا و الأول مظلما، و إن لم يكن هناك حائل كالبيت الذي لا كوة له فإنه لا يضيء، فإذا حصلت الأمور الثلاثة يستنير البيت و إلا فلا تتحقق الظلمة بفقد أي أمر كان من الأمور الثلاثة.
ثم قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشاءُ وَ ما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ و فيه احتمال معنيين الأول: أن يكون المراد بيان كون الكفار بالنسبة إلى سماعهم كلام النبي و الوحي النازل عليه دون حال الموتى فإن اللّه يسمع الموتى و النبي لا يسمع من مات و قبر، فالموتى سامعون من اللّه و الكفار كالموتى لا يسمعون من النبي و الثاني: أن يكون المراد تسلية النبي صلى اللّه عليه و آله و سلم فإنه لما بين له أنه لا ينفعهم و لا يسمعهم قال له هؤلاء لا يسمعهم إلا اللّه، فإنه يسمع من يشاء و لو كان صخرة صماء، و أما أنت فلا تسمع من في القبور، فما عليك من حسابهم من شيء. ثم قال تعالى:
[سورة فاطر (35): آية 23]
إِنْ أَنْتَ إِلاَّ نَذِيرٌ (23)
مفاتيح الغيب، ج26، ص: 234
بيانا للتسلية.
[سورة فاطر (35): آية 24]
ثم قال تعالى: إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَ نَذِيراً لما قال: إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ بين أنه ليس نذيرا من تلقاء نفسه إنما هو نذير بإذن اللّه و إرساله.
ثم قال تعالى: وَ إِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ تقريرا لأمرين أحدهما: لتسلية قلبه حيث يعلم أن غيره كان مثله محتملا لتأذي القوم و ثانيهما: إلزام القوم قبوله فإنه ليس بدعا من الرسل و إنما هو مثل غيره يدعى ما ادعاه الرسل و يقرره. و قوله تعالى:
[سورة فاطر (35): آية 25]
يعني أنت جئتهم بالبينة و الكتاب فكذبوك و آذوك و غيرك أيضا أتاهم بمثل ذلك و فعلوا بهم ما فعلوا بك و صبروا على ما كذبوا فكذلك نلزمهم بأن من تقدم من الرسل لم يعلم كونهم رسلا إلا بالمعجزات البينات و قد آتيناها محمدا صلى اللّه عليه و آله و سلم وَ بِالزُّبُرِ وَ بِالْكِتابِ الْمُنِيرِ / و الكل آتيناها محمدا، فهو رسول مثل الرسل يلزمهم قبوله كما لزم قبول موسى و عيسى عليهم السلام أجمعين، و هذا يكون تقريرا مع أهل الكتاب، و اعلم أنه تعالى ذكر أمورا ثلاثة أولها البينات، و ذلك لأن كل رسول فلا بد له من معجزة و هي أدنى الدرجات، ثم قد ينزل عليه كتاب يكون فيه مواعظ و تنبيهات و إن لم يكن فيه نسخ و أحكام مشروعة شرعا ناسخا، و من ينزل عليه مثله أعلى مرتبة ممن لا ينزل عليه ذلك و قد تنسخ شريعته الشرائع و ينزل عليه كتاب فيه أحكام على وفق الحكمة الإلهية، و من يكون كذلك فهو من أولي العزم فقال الرسل تبين رسالتهم بالبينات و إن كانوا أعلى مرتبة فبالزبر، و إن كانوا أعلى فبالكتاب و النبي آتيناه الكل فهو رسول أشرف من الكل لكون كتابه أتم و أكمل من كل كتاب. ثم قال تعالى:
[سورة فاطر (35): آية 26]
ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (26)
أي من كذب بالكتاب المنزل من قبل و بالرسول المرسل أخذه اللّه تعالى فكذلك من يكذب بالنبي عليه السلام، و قوله: فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ سؤال للتقرير فإنهم علموا شدة إنكار اللّه عليهم و إتيانه بالأمر المنكر من الاستئصال.
[سورة فاطر (35): الآيات 27 الى 28]
ثم قال تعالى: أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ ثَمَراتٍ مُخْتَلِفاً أَلْوانُها .
مفاتيح الغيب، ج26، ص: 235
و هذا استدلال بدليل آخر على وحدانية اللّه و قدرته و في تفسيرها مسائل:
المسألة الأولى: ذكر هذا الدليل على طريقة الاستخبار، و قال: أَ لَمْ تَرَ و ذكر الدليل المتقدم على طريقة الإخبار و قال: وَ اللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ [فاطر: 9] و فيه وجهان الأول: أن إنزال الماء أقرب إلى النفع و المنفعة فيه أظهر فإنه لا يخفى على أحد في الرؤية أن الماء منه حياة الأرض فعظم دلالته بالاستفهام لأن الاستفهام الذي للتقرير لا يقال إلا في الشيء الظاهر جدا كما أن من أبصر الهلال و هو خفي جدا، فقال له غيره أين هو، فإنه يقول له في الموضع الفلاني، فإن لم يره، يقول له الحق معك إنه خفي و أنت معذور، و إذا كان بارزا يقول له أما تراه هذا هو ظاهر و الثاني: و هو أنه ذكره بعد ما قرر المسألة بدليل آخر و ظهر بما تقدم للمدعو بصارة بوجوه الدلالات، فقال له أنت صرت بصيرا بما ذكرناه و لم يبق لك عذر، ألا ترى هذه الآية.
المسألة الثانية: المخاطب من هو يحتمل وجهين أحدهما: النبي صلى اللّه عليه و آله و سلم و فيه حكمة و هي أن اللّه تعالى لما ذكر الدلائل و لم تنفعهم قطع الكلام معهم و التفت إلى غيرهم، كما أن السيد إذا نصح بعض العبيد و منعهم من الفساد و لا ينفعهم الإرشاد، يقول لغيره اسمع و لا تكن مثل هذا/ و يكرر معه ما ذكره مع الأول و يكون فيه إشعار بأن الأول فيه نقيصة لا يستأهل للخطاب فيتنبه له و يدفع عن نفسه تلك النقيصة و الآخر: أن لا يخرج إلى كلام أجنبي عن الأول، بل يأتي بما يقاربه لئلا يسمع الأول كلاما آخر فيترك التفكر فيما كان فيه من النصيحة.
المسألة الثالثة: هذا استدلال على قدرة اللّه و اختياره حيث أخرج من الماء الواحد ثمرات مختلفة و فيه لطائف الأولى: قال أنزل و قال أخرجنا. و قد ذكرنا فائدته و نعيدها فنقول: قال اللّه تعالى: أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ فإن كان جاهلا يقول نزول الماء بالطبع لثقله فيقال له، فالإخراج لا يمكنك أن تقول فيه إنه بالطبع فهو بإرادة اللّه، فلما كان ذلك أظهر أسنده إلى المتكلم و وجه آخر: هو أن اللّه تعالى لما قال: أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ علم اللّه بدليل، و قرب المتفكر فيه إلى اللّه تعالى فصار من الحاضرين، فقال له أخرجنا لقربه و وجه ثالث:
الإخراج أتم نعمة من الإنزال، لأن الإنزال لفائدة الإخراج فأسند الأتم إلى نفسه بصيغة المتكلم و ما دونه بصيغة الغائب.
اللطيفة الثانية: قال تعالى: وَ مِنَ الْجِبالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَ حُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُها وَ غَرابِيبُ سُودٌ، وَ مِنَ النَّاسِ وَ الدَّوَابِّ وَ الْأَنْعامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ كَذلِكَ .
كأن قائلا قال اختلاف الثمرات لاختلاف البقاع. ألا ترى أن بعض النباتات لا تنبت ببعض البلاد كالزعفران و غيره، فقال تعالى اختلاف البقاع ليس إلا بإرادة اللّه و إلا فلم صار بعض الجبال فيه مواضع حمر و مواضع بيض، و الجدد جمع جدة و هي الخطة أو الطريقة، فإن قيل الواو في: وَ مِنَ الْجِبالِ ما تقديرها؟
نقول هي تحتمل وجهين أحدهما: أن تكون للاستئناف كأنه قال تعالى و أخرجنا بالماء ثمرات مختلفة الألوان، و في الأشياء الكائنات من الجبال جدد بيض دالة على القدرة، رادة على من ينكر الإرادة في اختلاف ألوان الثمار ثانيهما: أن تكون للعطف تقديرها و خلق من الجبال. قال الزمخشري: أراد ذو جدد و اللطيفة الثالثة: ذكر الجبال و لم يذكر الأرض كما قال في موضع آخر: وَ فِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ [الرعد: 4] مع أن هذا الدليل مثل ذلك، و ذلك لأن اللّه تعالى لما ذكر في الأول: فَأَخْرَجْنا بِهِ ثَمَراتٍ كان نفس إخراج الثمار دليلا على القدرة ثم زاد عليه بيانا، و قال مختلفا كذلك في الجبال في نفسها دليل للقدرة و الإرادة، لأن كون الجبال
مفاتيح الغيب، ج26، ص: 236
في بعض نواحي الأرض دون بعضها و الاختلاف الذي في هيئة الجبل فإن بعضها يكون أخفض و بعضها أرفع دليل القدرة و الاختيار، ثم زاده بيانا و قال جُدَدٌ بِيضٌ ، أي مع دلالتها بنفسها هي دالة باختلاف ألوانها، كما أن إخراج الثمرات في نفسها دلائل و اختلاف/ ألوانها دلائل.
المسألة الرابعة: مُخْتَلِفٌ أَلْوانُها ، الظاهر أن الاختلاف راجع إلى كل لون أي بيض مختلف ألوانها و حمر مختلف ألوانها، لأن الأبيض قد يكون على لون الجص، و قد يكون على لون التراب الأبيض دون بياض الجص، و كذلك الأحمر، و لو كان المراد أن البيض و الحمر مختلف الألوان لكان مجرد تأكيد و الأول أولى، و على هذا فنقول لم يذكر مختلف ألوانها بعد البيض و الحمر و السود، بل ذكره بعد البيض و الحمر و أخر السود الغرابيب، لأن الأسود لما ذكره مع المؤكد و هو الغرابيب يكون بالغا غاية السواد فلا يكون فيه اختلاف.
المسألة الخامسة: قيل بأن الغربيب مؤكد للأسود، يقال أسود غربيب و المؤكد لا يجيء إلا متأخرا فكيف جاء غرابيب سود؟ نقول قال الزمخشري: غرابيب مؤكد لذي لون مقدر في الكلام كأنه تعالى قال سواد غرابيب، ثم أعاد السود مرة أخرى و فيه فائدة و هي زيادة التأكيد لأنه تعالى ذكره مضمرا و مظهرا، و منهم من قال هو على التقديم و التأخير، ثم قال تعالى: وَ مِنَ النَّاسِ وَ الدَّوَابِّ وَ الْأَنْعامِ استدلالا آخر على قدرته و إرادته، و كأن اللّه تعالى قسم دلائل الخلق في العالم الذي نحن فيه و هو عالم المركبات قسمين: حيوان و غير حيوان، و غير الحيوان إما نبات و إما معدن، و النبات أشرف، و أشار إليه بقوله: فَأَخْرَجْنا بِهِ ثَمَراتٍ ثم ذكر المعدن بقوله: وَ مِنَ الْجِبالِ ثم ذكر الحيوان و بدأ بالأشرف منها و هو الإنسان فقال: وَ مِنَ النَّاسِ ثم ذكر الدواب، لأن منافعها في حياتها و الأنعام منفعتها في الأكل منها، أو لأن الدابة في العرف تطلق على الفرس و هو بعد الإنسان أشرف من غيره، و قوله: مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ القول فيه كما أنها في أنفسها دلائل، كذلك في اختلافها دلائل. و أما قوله مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ فذكر لكون الإنسان من جملة المذكورين، و كون التذكير أعلى و أولى.
ثم قال تعالى: إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ .
الخشية بقدر معرفة المخشي، و العالم يعرف اللّه فيخافه و يرجوه. و هذا دليل على أن العالم أعلى درجة من العابد، لأن اللّه تعالى قال: إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ [الحجرات: 13] فبين أن الكرامة بقدر التقوى، و التقوى بقدر العلم. فالكرامة بقدر العلم لا بقدر العمل، نعم العالم إذا ترك العمل قدح ذلك في علمه، فإن من يراه يقول: لو علم لعمل. ثم قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ ذكر ما يوجب الخوف و الرجاء، فكونه عزيزا ذا انتقام يوجب الخوف التام، و كونه غفورا لما دون ذلك يوجب الرجاء البالغ. و قراءة من قرأ بنصب العلماء و رفع اللّه، معناها إنما يعظم و يبجل.
[سورة فاطر (35): آية 29]
ثم قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتابَ اللَّهِ .
لما بين العلماء باللّه و خشيتهم و كرامتهم بسبب خشيتهم ذكر العالمين بكتاب اللّه العالمين بما فيه. و قوله:
يَتْلُونَ كِتابَ اللَّهِ إشارة إلى الذكر.
مفاتيح الغيب، ج26، ص: 237
و قوله تعالى: وَ أَقامُوا الصَّلاةَ إشارة إلى العمل البدني.
و قوله: وَ أَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ إشارة إلى العمل المالي، و في الآيتين حكمة بالغة، فقوله: إنما يخشى اللّه إشارة إلى عمل القلب، و قوله: إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ إشارة إلى عمل اللسان. و قوله: وَ أَقامُوا الصَّلاةَ وَ أَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ إشارة إلى عمل الجوارح، ثم إن هذه الأشياء الثلاثة متعلقة بجانب تعظيم اللّه و الشفقة على خلقه، لأنا بينا أن من يعظم ملكا إذا رأى عبدا من عباده في حاجة يلزمه قضاء حاجته و إن تهاون فيه يخل بالتعظيم، و إلى هذا أشار بقوله: عبدي مرضت فما عدتني، فيقول العبد: كيف تمرض و أنت رب العالمين، فيقول اللّه مرض عبدي فلان و ما زرته و لو زرته لوجدتني عنده، يعني التعظيم متعلق بالشفقة فحيث لا شفقة على خلق اللّه لا تعظيم لجانب اللّه.
و قوله تعالى: سِرًّا وَ عَلانِيَةً حث على الإنفاق كيفما يتهيأ، فإن تهيأ سرا فذاك و نعم و إلا فعلانية و لا يمنعه ظنه أن يكون رياء، فإن ترك الخير مخافة أن يقال فيه إنه مراء عين الرياء و يمكن أن يكون المراد بقوله:
سِرًّا أي صدقة وَ عَلانِيَةً أي زكاة، فإن الإعلان بالزكاة كالإعلان بالفرض و هو مستحب.
و قوله تعالى: يَرْجُونَ تِجارَةً لَنْ تَبُورَ إشارة إلى الإخلاص، أي ينفقون لا ليقال إنه كريم و لا لشيء من الأشياء غير وجه اللّه، فإن غير اللّه بائر و التاجر فيه تجارته بائرة.
[سورة فاطر (35): آية 30]
لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَ يَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ (30)
و قوله تعالى: لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ أي ما يتوقعونه و لو كان أمرا بالغ الغاية وَ يَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ أي يعطيهم ما لم يخطر ببالهم عند العمل، و يحتمل أن يكون يزيدهم النظر إليه كما جاء في تفسير الزيادة إِنَّهُ غَفُورٌ عند إعطاء الأجور شَكُورٌ عند إعطاء الزيادة.
[سورة فاطر (35): آية 31]
ثم قال تعالى: وَ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ هُوَ الْحَقُ .
لما بين الأصل الأول و هو وجود اللّه الواحد بأنواع الدلائل من قوله: وَ اللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ [فاطر: 9]/ و قوله: وَ اللَّهُ خَلَقَكُمْ [فاطر: 11] و قوله: أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ [فاطر: 27] ذكر الأصل الثاني و هو الرسالة، فقال: وَ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ هُوَ الْحَقُ و أيضا كأنه قد ذكر أن الذين يتلون كتاب اللّه يوفيهم اللّه فقال: وَ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ هُوَ الْحَقُ تقريرا لما بين من الأجر و الثواب في تلاوة كتاب اللّه فإنه حق و صدق فتاليه محق و محقق و في تفسيرها مسائل:
المسألة الأولى: قوله: مِنَ الْكِتابِ يحتمل أن يكون لابتداء الغاية كما يقال أرسل إلى كتاب من الأمير أو الوالي و على هذا فالكتاب يمكن أن يكون المراد منه اللوح المحفوظ يعني الذي أوحينا من اللوح المحفوظ إليك حق، و يمكن أن يكون المراد هو القرآن يعني الإرشاد و التبيين الذي أوحينا إليك من القرآن و يحتمل أن يكون للبيان كما يقال أرسل إلى فلان من الثياب و القماش جملة.