کتابخانه تفاسیر
مفاتيح الغيب، ج26، ص: 247
و فيه من التحذير ما ليس في قوله و لا يلحق أو و لا يصل، و أما في قوله: بِأَهْلِهِ ففيه ما ليس في قول القائل و لا يحيق المكر السيء إلا بالماكر، كي لا يأمن المسيء فإن من أساء و مكره سيء آخر قد يلحقه جزاء على سيئه، و أما إذا لم يكن سيئا فلا يكون أهلا فيأمن المكر السيء، و أما في النفي و الإثبات ففائدته الحصر بخلاف ما يقول القائل المكر السيء يحيق بأهله، فلا ينبئ عن عدم الحيق بغير أهله، فإن قال قائل: كثيرا ما نرى أن الماكر يمكر و يفيده المكر و يغلب الخصم بالمكر و الآية تدل على عدم ذلك، فنقول الجواب عنه من وجوه أحدها: أن المكر المذكور في الآية هو المكر الذي مكروه مع النبي صلى اللّه عليه و آله و سلم من العزم على القتل و الإخراج و لم يحق إلا بهم، حيث قتلوا يوم بدر و غيره و ثانيها: هو أن نقول المكر السيء عام و هو الأصح فإن النبي عليه السلام نهى عن المكر و
أخبر عن النبي صلى اللّه عليه و آله و سلم أنه قال: «لا تمكروا و لا تعينوا ماكرا فإن اللّه يقول و لا يحيق المكر السيء/ إلا بأهله»
و على هذا فذلك الرجل الممكور به [لا] يكون أهلا فلا يرد نقضا و ثالثها: أن الأمور بعواقبها، و من مكر به غيره و نفذ فيه المكر عاجلا في الظاهر ففي الحقيقة هو الفائز و الماكر هو الهالك و ذلك مثل راحة الكافر و مشقة المسلم في الدنيا، و يبين هذا المعنى قوله تعالى: فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ يعني إذا كان لمكرهم في الحال رواج فالعاقبة للتقوى و الأمور بخواتيمها، فيهلكون كما هلك الأولون.
و قوله تعالى: فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ أي ليس لهم بعد هذا إلا انتظار الإهلاك و هو سنة الأولين و فيه مسائل:
المسألة الأولى: الإهلاك ليس سنة الأولين إنما هو سنة اللّه بالأولين، فنقول الجواب عنه من وجهين أحدهما: أن المصدر الذي هو المفعول المطلق يضاف إلى الفاعل و المفعول لتعلقه بهما من وجه دون وجه فيقال فيما إذا ضرب زيد عمرا عجبت من ضرب عمرو كيف ضرب مع ماله من العزم و القوة و عجبت من ضرب زيد كيف ضرب مع ماله من العلم و الحكمة فكذلك سنة اللّه بهم أضافها إليهم لأنها سنة سنت بهم و أضافها إلى نفسه بعدها بقوله:
فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا لأنها سنة من سنن اللّه، إذا علمت هذا فنقول أضافها في الأول إليهم حيث قال: سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ لأن سنة اللّه الإهلاك بالإشراك و الإكرام على الإسلام فلا يعلم أنهم ينتظرون أيهما فإذا قال سنة الأولين تميزت و في الثاني أضافها إلى اللّه، لأنها لما علمت فالإضافة إلى اللّه تعظمها و تبين أنها أمر واقع ليس لها من دافع و ثانيهما: أن المراد من سنة الأولين استمرارهم على الإنكار و استكبارهم عن الإقرار، و سنة اللّه استئصالهم بإصرارهم فكأنه قال: أنتم تريدون الإتيان بسنة الأولين و اللّه يأتي بسنة لا تبديل لها و لا تحويل عن مستحقها.
المسألة الثانية: التبديل تحويل فما الحكمة في التكرار؟ نقول بقوله: فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا حصل العلم بأن العذاب لا تبديل له بغيره، و بقوله: وَ لَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا حصل العلم بأن العذاب مع أنه لا تبديل له بالثواب لا يتحول عن مستحقه إلى غيره فيتم تهديد المسيء.
المسألة الثالثة: المخاطب بقوله: فَلَنْ تَجِدَ يحتمل وجهين و قد تقدم مرارا أحدهما: أن يكون عاما كأنه قال فلن تجد أيها السامع لسنة اللّه تبديلا و الثاني: أن يكون مع محمد صلى اللّه عليه و آله و سلم و على هذا فكأنه قال: سنة اللّه أنه لا يهلك ما بقي في القوم من كتب اللّه إيمانه، فإذا/ آمن من في علم اللّه أنه يؤمن يهلك الباقين كما قال نوح:
مفاتيح الغيب، ج26، ص: 248
إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ [نوح: 27] أي تمهل الأمر و جاء وقت سنتك.
[سورة فاطر (35): آية 44]
ثم قال تعالى: أَ وَ لَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَ كانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً .
لما ذكر أن للأولين سنة و هي الإهلاك نبههم بتذكير حال الأولين فإنهم كانوا مارين على ديارهم رائين لآثارهم و أملهم كان فوق أملهم و عملهم كان دون عملهم، أما الأول فلطول أعمارهم و شدة اقتدارهم، و أما عملهم فلأنهم لم يكذبوا مثل محمد و لا محمدا و أنتم يا أهل مكة كذبتم محمدا و من تقدمه، و قوله تعالى:
وَ كانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً قد ذكرناه في سورة الروم، بقي فيه أبحاث:
الأول: قال هناك: كانُوا أَشَدَّ [الروم: 9] من غير واو، و قال هاهنا بالواو فما الفرق؟ نقول قول القائل: أما رأيت زيدا كيف أكرمني و أعظم منك، يفيد أن القائل يخبره بأن زيدا أعظم، و إذا قال: أما رأيته كيف أكرمني هو أعظم منك يفيد أنه تقرر أن كلا المعنيين حاصل عند السامع كأنه رآه أكرمه و رآه أكبر منه و لا شك أن هذه العبارة الأخيرة تفيد كون الأمر الثاني في الظهور مثل الأول بحيث لا يحتاج إلى إعلام من المتكلم و لا إخبار، إذا علمت هذا فنقول المذكور هاهنا كونهم أشد منهم قوة لا غير، و لعل ذلك كان ظاهرا عندهم فقال بالواو أي نظركم كما يقع على عاقبة أمرهم يقع على قوتهم، و أما هناك فالمذكور أشياء كثيرة فإنه قال: كانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَ أَثارُوا الْأَرْضَ وَ عَمَرُوها [الروم: 9] و في موضع آخر قال: أَ فَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَ أَشَدَّ قُوَّةً وَ آثاراً فِي الْأَرْضِ [غافر: 82] و لعل علمهم لم يحصل بإثارتهم الأرض أو بكثرتهم و لكن نفس القوة و رجحانهم فيما عليهم كان معلوما عندهم فإن كل طائفة تعتقد فيمن تقدمهم أنهم أقوى منهم و لا نزاع فيه.
و قوله تعالى: وَ ما كانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّماواتِ وَ لا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ عَلِيماً قَدِيراً يحتمل وجهين أحدهما: أن يكون بيانا لهم أي أن الأولين مع شدة قوتهم ما أعجزوا اللّه و ما فاتوه فهم أولى بأن لا يعجزوه و الثاني: أن يكون قطعا لأطماع الجهال فإن قائلا لو قال: هب أن الأولين كانوا أشد قوة و أطول أعمارا لكنا نستخرج بذكائنا ما يزيد على قواهم و نستعين/ بأمور أرضية لها خواص أو كواكب سماوية لها آثار فقال تعالى: وَ ما كانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّماواتِ وَ لا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ عَلِيماً بأفعالهم و أقوالهم قَدِيراً على إهلاكهم و استئصالهم. ثم قال تعالى:
[سورة فاطر (35): آية 45]
لما خوف اللّه المكذبين بمن مضى و كانوا من شدة عنادهم و فساد اعتقادهم يستعجلون بالعذاب و يقولون عجل لنا عذابنا فقال اللّه: للعذاب أجل و اللّه لا يؤاخذ اللّه الناس بنفس الظلم فإن الإنسان ظلوم جهول، و إنما
مفاتيح الغيب، ج26، ص: 249
يؤاخذ بالإصرار و حصول يأس الناس عن إيمانهم و وجود الإيمان ممن كتب اللّه إيمانه فإذا لم يبق فيهم من يؤمن يهلك المكذبين و لو آخذهم بنفس الظلم لكان كل يوم إهلاك و فيه مسائل:
المسألة الأولى: إذا كان اللّه يؤاخذ الناس بما كسبوا فما بال الدواب يهلكون؟ نقول الجواب من وجوه أحدها: أن خلق الدواب نعمة فإذا كفر الناس يزيل اللّه النعم و الدواب أقرب النعم لأن المفرد أولا ثم المركب و المركب إما أن يكون معدنيا و إما أن يكون ناميا و النامي إما أن يكون حيوانا و إما أن يكون نباتا، و الحيوان إما إنسان و إما غير إنسان فالدواب أعلى درجات المخلوقات في عالم العناصر للإنسان الثاني: هو أن ذلك بيان لشدة العذاب و عمومه فإن بقاء الأشياء بالإنسان كما أن بقاء الإنسان بالأشياء و ذلك لأن الإنسان يدبر الأشياء و يصلحها فتبقى الأشياء ثم ينتفع بها الإنسان فيبقى الإنسان فإذا كان الهلاك عاما لا يبقى من الإنسان من يعمر فلا تبقى الأبنية و الزروع فلا تبقى الحيوانات الأهلية لأن بقاءها بحفظ الإنسان إياها عن التلف و الهلاك بالسقي و العلف الثالث: هو أن إنزال المطر هو إنعام من اللّه في حق العباد فإذا لم يستحقوا الإنعام قطعت الأمطار عنهم فيظهر الجفاف على وجه الأرض فتموت جميع الحيوانات و قوله تعالى: ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ الوجه الثالث: لأن بسبب انقطاع الأمطار تموت حيوانات البر، أما حيوانات البحر فتعيش بماء البحار.
المسألة الثانية: قوله تعالى: عَلى ظَهْرِها كناية عن الأرض و هي غير مذكورة فكيف علم؟ نقول مما تقدم و مما تأخر، أما ما تقدم فقوله: وَ ما كانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّماواتِ وَ لا فِي الْأَرْضِ [فاطر: 44] فهو أقرب المذكورات الصالحة لعود الهاء إليها، و أما ما تأخر فقوله: مِنْ دَابَّةٍ لأن الدواب على ظهر الأرض، فإن قيل كيف يقال لما عليه الخلق من الأرض وجه الأرض/ و ظهر الأرض، مع أن الوجه مقابل الظهر كالمضاد؟ نقول من حيث إن الأرض كالدابة الحاملة للأثقال و الحمل يكون على الظهر يقال له ظهر الأرض، و من حيث إن ذلك هو المقابل للخلق المواجه لهم يقال له وجهها، على أن الظهر في مقابلة البطن و الظهر و الظاهر من باب و البطن و الباطن من باب، فوجه الأرض ظهر لأنه هو الظاهر و غيره منها باطن و بطن.
المسألة الثالثة: في قوله تعالى: وَ لكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى وجوه أحدها: إلى يوم القيامة و هو مسمى مذكور في كثير من المواضع ثانيها: يوم لا يوجد في الخلق من يؤمن على ما تقدم ثالثها: لكل أمة أجل و لكل أجل كتاب و أجل قوم محمد صلى اللّه عليه و آله و سلم أيام القتل و الأسر كيوم بدر و غيره.
المسألة الرابعة: قوله تعالى: فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ، فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِعِبادِهِ بَصِيراً تسلية للمؤمنين، و ذلك لأنه تعالى لما قال: ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ و قال: لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً [الأنفال: 25] قال: فإذا جاء الهلاك فاللّه بالعباد بصير، إما أن ينجيهم أو يكون توفيهم تقريبا من اللّه لا تعذيبا، لا يقال قد ذكرت أن اللّه لا يؤاخذ بمجرد الظلم، و إنما يؤاخذ حين يجتمع الناس على الضلال و نقول بأنه تعالى عند الإهلاك يهلك المؤمن فكيف هذا، نقول قد ذكرنا أن الإماتة و الإفناء إن كان للتعذيب فهو مؤاخذة بالذنب و إهلاك، و إن كان لإيصال الثواب فليس بإهلاك و لا بمؤاخذة، و اللّه لا يؤاخذ الناس إلا عند عموم الكفر، و قوله: بَصِيراً اللفظ أتم في التسلية من العليم و غيره لأن البصير بالشيء الناظر إليه أولى بالإنجاء من العالم بحالة دون أن يراه و اللّه أعلم. و صلى اللّه على سيدنا محمد و على آله و صحبه أجمعين.
مفاتيح الغيب، ج26، ص: 250
سورة يس
ثمانون و ثلاث آيات مكية بسم اللّه الرحمن الرحيم
[سورة يس (36): الآيات 1 الى 2]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
يس (1) وَ الْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (2)
قد ذكرنا كلاما كليا في حروف التهجي في سورة العنكبوت و ذكرنا أن في كل سورة بدأ اللّه فيها بحروف التهجي كان في أوائلها الذكر أو الكتاب أو القرآن و لنذكر هاهنا أبحاثا:
البحث الأول: هو أن في ذكر هذه الحروف في أوائل السور أمورا تدل على أنها غير خالية عن الحكمة و لكن علم الإنسان لا يصل إليها بعينها فنقول ما هو الكلي من الحكمة فيها، أما بيان أن فيها ما يدل على الحكمة فهو أن اللّه تعالى ذكر من الحروف نصفها و هي أربعة عشر حرفا و هي نصف ثمانية و عشرين حرفا، و هي جميع الحروف التي في لسان العرب على قولنا الهمزة ألف متحركة، ثم إنه تعالى قسم الحروف ثلاثة أقسام تسعة أحرف من الألف إلى الذال و تسعة أحرف أخر في آخر الحروف من الفاء إلى الياء و عشرة من الوسط من الراء إلى الغين، و ذكر من القسم الأول حرفين هما الألف و الحاء و ترك سبعة و ترك من القسم الآخر حرفين هما الفاء و الواو و ذكر سبعة، و لم يترك من القسم الأول من حروف الحلق و الصدر إلا واحدا لم يذكره و هو الخاء، و لم يذكر من القسم الآخر من حروف الشفة إلا واحدا لم يتركه و هو الميم، و العشر الأواسط ذكر منها حرفا و ترك حرفا فذكر الراء و ترك الزاي و ذكر السين و ترك الشين و ذكر الصاد و ترك الضاد و ذكر الطاء و ترك الظاء و ذكر العين و ترك الغين، و ليس هذا أمرا يقع اتفاقا بل هو ترتيب مقصود فهو لحكمة، و أما أن عينها غير معلومة فظاهر وهب أن واحدا يدعى فيها شيئا فماذا يقول في كون بعض السور مفتتحة بحرف كسورة ن و ق و ص و بعضها بحرفين كسورة حم* و يس و طس و طه و بعضها بثلاثة أحرف كسورة الم* و طسم* و الر* و بعضها بأربعة كسورتي المر و المص و بعضها بخمسة أحرف كسورتي حم عسق و كهيعص ؟؟ وهب أن قائلا يقول إن هذا إشارة إلى أن الكلام، إما حرف، و إما فعل، و إما اسم، و الحرف كثيرا ما جاء على حرف كواو العطف وفاء التعقيب و همزة الاستفهام و كاف التشبيه و باء الإلصاق/ و غيرها و جاء على حرفين كمن للتبعيض و أو للتخيير و أم للاستفهام المتوسط و أن للشرط و غيرها و الاسم و الفعل و الحرف جاء على ثلاثة أحرف كإلى و على في الحرف و إلى و على في الاسم و ألا يألو و علا يعلو في الفعل، و الاسم و الفعل جاء على أربعة، و الاسم خاصة جاء على ثلاثة و أربعة و خمسة كفجل و سجل و جردحل فما جاء في القرآن إشارة إلى أن تركيب العربية من هذه الحروف على هذه الوجوه، فماذا يقول هذا القائل في تخصيص بعض السور
مفاتيح الغيب، ج26، ص: 251
بالحرف الواحد و البعض بأكثر فلا يعلم تمام السر إلا اللّه و من أعلمه اللّه به، إذا علمت هذا فنقول اعلم أن العبادة منها قلبية، و منها لسانية، و منها جارحية، و كل واحدة منها قسمان قسم عقل معناه و حقيقته و قسم لم يعلم، أما القلبية مع أنها أبعد عن الشك و الجهل ففيها ما لم يعلم دليله عقلا، و إنما وجب الإيمان به و الاعتقاد سمعا كالصراط الذي [هو] أرق من الشعرة و أحد من السيف و يمر عليه المؤمن و الموقن كالبرق الخاطف و الميزان الذي توزن به الأعمال التي لا ثقل لها في نظر الناظر و كيفيات الجنة و النار فإن هذه الأشياء وجودها لم يعلم بدليل عقلي، و إنما المعلوم بالعقل إمكانها و وقوعها معلوم مقطوع به بالسمع و منها ما علم كالتوحيد و النبوة و قدرة اللّه و صدق الرسول، و كذلك في العبادات الجارحية ما علم معناه و ما لم يعلم كمقادير النصب و عدد الركعات، و قد ذكرنا الحكمة فيه و هي أن العبد إذا أتى بما أمر به من غير أن يعلم ما فيه من الفائدة لا يكون إلا آتيا بمحض العبادة بخلاف ما لو علم الفائدة فربما يأتي به للفائدة و إن لم يؤمن كما لو قال السيد لعبده انقل هذه الحجارة من هاهنا و لم يعلم بما في النقل فنقلها و لو قال انقلها فإن تحتها كنزا هو لك ينقلها و إن لم يؤمن، إذا علم هذا فكذلك في العبادات اللسانية الذكرية وجب أن يكون منها ما لا يفهم معناه حتى إذا تكلم به العبد علم منه أنه لا يقصد غير الانقياد لأمر المعبود الآمر الناهي فإذا قال: حم* ، يس ، الم* ، طس علم أنه لم يذكر ذلك لمعنى يفهمه أو يفهمه فهو يتلفظ به إقامة لما أمر به.
البحث الثاني: قيل في خصوص يس إنه كلام هو نداء معناه يا إنسان، و تقريره هو أن تصغير إنسان أنيسين فكأنه حذف الصدر منه و أخذ العجز و قال: يس أي أنيسين، و على هذا يحتمل أن يكون الخطاب مع محمد صلى اللّه عليه و آله و سلم و يدل عليه قوله تعالى بعده: إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ [يس: 3].
البحث الثالث: قرئ يس إما بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف هو قوله هذه كأنه قال: هذه يس، و إما بالضم على نداء المفرد أو على أنه مبني كحيث، و قرئ يس إما بالنصب على معنى اتل يس و إما بالفتح كأين و كيف، و قرئ يس بالكسر كجير لإسكان الياء و كسرة ما قبلها و لا يجوز أن يقال بالجر لأن إضمار الجار غير جائز و ليس فيه حرف قسم ظاهر و قوله تعالى: وَ الْقُرْآنِ الْحَكِيمِ أي ذي الحكمة كعيشة راضية أي ذات رضا أو على أنه ناطق بالحكمة فهو كالحي المتكلم. و قوله تعالى:
[سورة يس (36): آية 3]
إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (3)
مقسم عليه و فيه مسائل:
المسألة الأولى: الكفار أنكروا كون محمد مرسلا و المطالب تثبت بالدليل لا بالقسم فما الحكمة في الإقسام؟ نقول فيه وجوه الأول: هو أن العرب كانوا يتوقون الأيمان الفاجرة و كانوا يقولون إن اليمين الفاجرة توجب خراب العالم و صحح النبي صلى اللّه عليه و آله و سلم ذلك
بقوله: «اليمين الكاذبة تدع الديار بلاقع»
ثم إنهم كانوا يقولون إن النبي صلى اللّه عليه و آله و سلم يصيبه من آلهتهم عذاب و هي الكواكب فكان النبي صلى اللّه عليه و آله و سلم يحلف بأمر اللّه و إنزال كلامه عليه و بأشياء مختلفة، و ما كان يصيبه عذاب بل كان كل يوم أرفع شأنا و أمنع مكانا فكان ذلك يوجب اعتقاد أنه ليس بكاذب الثاني: هو أن المتناظرين إذا وقع بينهما كلام و غلب أحدهما الآخر بتمشية دليله و أسكته يقول المطلوب إنك قررت هذا بقوة جدالك و أنت خبير في نفسك بضعف مقالك و تعلم أن الأمر ليس كما تقول و إن أقمت عليه
مفاتيح الغيب، ج26، ص: 252
صورة دليل و عجزت أنا عن القدح فيه، و هذا كثير الوقوع بين المتناظرين فعند هذا لا يجوز أن يأتي هو بدليل آخر، لأن الساكت المنقطع يقول في الدليل الآخر ما قاله في الأول فلا يجد أمرا إلا اليمين، فيقول و اللّه إني لست مكابرا و إن الأمر على ما ذكرت و لو علمت خلافه لرجعت إليه فههنا يتعين اليمين، فكذلك النبي صلى اللّه عليه و آله و سلم لما أقام البراهين و قالت الكفرة: ما هذا إِلَّا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ ... وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ [سبأ: 43] تعين التمسك بالأيمان لعدم فائدة الدليل الثالث: هو أن هذا ليس مجرد الحلف، و إنما هو دليل خرج في صورة اليمين لأن القرآن معجزة و دليل كونه مرسلا هو المعجزة و القرآن كذلك فإن قيل فلم لم يذكر في صورة الدليل؟ و ما الحكمة في ذكر الدليل في صورة اليمين؟ قلنا الدليل أن ذكره «1» في صورة اليمين قد لا يقبل عليه سامع فلا يقبله فؤاده فإذا ابتدئ به على صورة اليمين و اليمين لا يقع لا سيما من العظيم الأعلى أمر عظيم و الأمر العظيم تتوفر الدواعي على الإصغاء إليه فلصورة اليمين تشرئب إليه الأجسام، و لكونه دليلا شافيا يتشربه الفؤاد فيقع في السمع و ينفع في القلب.
المسألة الثانية: كون القرآن حكيما عندهم لكون محمد رسولا، فلهم أن يقولوا إن هذا ليس بقسم، نقول الجواب عنه من وجهين أحدهما: أن كون القرآن معجزة بين إن أنكروه قيل لهم فأتوا بسورة من مثله و الثاني:
أن العاقل لا يثق بيمين غيره إلا إذا حلف بما يعتقد عظمته، فالكافر إن حلف بمحمد لا نصدقه كما نصدقه لو حلف بالصليب و الصنم، و لو حلف بديننا الحق لا يوثق بمثل ما يوثق به لو حلف بدينه الباطل و كان من المعلوم أن النبي صلى اللّه عليه و آله و سلم و أصحابه يعظمون القرآن فحلفه به هو الذي يوجب ثقتهم به. و قوله تعالى:
[سورة يس (36): آية 4]
خبر بعد خبر أي إنك على صراط مستقيم و المستقيم/ أقرب الطرق الموصلة إلى المقصد و الدين كذلك فإنه توجه إلى اللّه تعالى و تولى عن غيره و المقصد هو اللّه و المتوجه إلى المقصد أقرب إليه من المولى عنه و المتحرف منه و لا يذهب فهم أحد إلى أن قوله إنك منهم على صراط مستقيم مميز له عن غيره كما يقال إن محمدا من الناس مجتبى لأن جميع المرسلين على صراط مستقيم، و إنما المقصود بيان كون النبي صلى اللّه عليه و آله و سلم على الصراط المستقيم الذي يكون عليه المرسلون و قوله: عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ فيه معنى لطيف يعلم منه فساد قول المباحية الذين يقولون المكلف يصير واصلا إلى الحق فلا يبقى عليه تكليف و ذلك من حيث إن اللّه بين أن المرسلين ما داموا في الدنيا فهم سالكون سائحون مهتدون منتهجون إلى السبيل المستقيم فكيف ذلك الجاهل العاجز. و قوله تعالى:
[سورة يس (36): آية 5]
تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (5)
قرئ بالجر على أنه بدل من القرآن كأنه قال: و القرآن الحكيم تنزيل العزيز الرحيم إنك لمن المرسلين لتنذر و قرئ بالنصب و فيه وجهان أحدهما: أنه مصدر فعله منوي كأنه قال نزل تنزيل العزيز الرحيم لتنذر و يكون تقديره نزل القرآن أو الكتاب الحكيم و الثاني: أنه مفعول فعل منوي كأنه قال و القرآن الحكيم أعني
(1) في الأصل «أن ذكر لا» و لما كان لا معنى لها فمما لا شك فيه أنها مصحفة عما ذكرناه، لأن كتابة الهاء المربوطة في الخط قريبة من «لا» في الصورة فهي مصحفة عنها.
مفاتيح الغيب، ج26، ص: 253
تنزيل العزيز الرحيم إنك لمن المرسلين لتنذر، و هذا ما اختاره الزمخشري و قرئ بالرفع على أنه خبر مبتدأ منوي كأنه قال هذا تنزيل العزيز الرحيم لتنذر و يحتمل وجها آخر على هذه القراءة و هو أن يكون مبتدأ خبره لتنذر كأنه قال تنزيل العزيز للإنذار و قوله: الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ إشارة إلى أن الملك إذا أرسل رسولا فالمرسل إليهم إما أن يخالفوا المرسل و يهينوا المرسل و حينئذ لا يقدر الملك على الانتقام منهم إلا إذا كان عزيزا أو يخافوا المرسل و يكرموا المرسل و حينئذ يرحمهم الملك، أو نقول المرسل يكون معه في رسالته منع عن أشياء و إطلاق لأشياء فالمنع يؤكد العزة و الإطلاق يدل على الرحمة. و قوله تعالى:
[سورة يس (36): آية 6]
لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ فَهُمْ غافِلُونَ (6)
قد تقدم تفسيره في قوله: لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ* [القصص: 46] و قيل المراد الإثبات و هو على وجهين أحدهما: لتنذر قوما ما أنذر آباؤهم، فتكون ما مصدرية الثاني: أن تكون موصولة معناه: لتنذر قوما الذين أنذر آباؤهم فهم غافلون، فعلى قولنا ما نافية تفسيره ظاهر فإن من لم ينذر آباؤه و بعد الإنذار عنه فهو يكون غافلا، و على قولنا هي للإثبات كذلك لأن معناه لتنذرهم إنذار آبائهم فإنهم غافلون، و فيه مسائل:
المسألة الأولى: كيف يفهم التفسيران و أحدهما يقتضي أن لا يكون آباؤهم منذرين و الآخر يقتضي أن يكونوا منذرين و بينهما تضاد؟ نقول على قولنا ما نافية معناه ما أنذر آباؤهم و إنذار آبائهم الأولين لا ينافي أن يكون المتقدمون من آبائهم منذرين و المتأخرون منهم غير منذرين.
المسألة الثانية: قوله: لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ يقتضي أن لا يكون النبي صلى اللّه عليه و آله و سلم مأمورا بإنذار اليهود لأن آباءهم أنذروا، نقول ليس كذلك، أما على قولنا ما للإثبات لا للنفي فظاهر، و أما على قولنا هي نافية فكذلك، و قد بينا ذلك في قوله تعالى: بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ [السجدة: 3] و قلنا إن المراد أن آباءهم قد أنذروا بعد ضلالهم و بعد إرسال من تقدم فإن اللّه إذا أرسل رسولا فما دام في القوم من يبين دين ذلك النبي و يأمر به لا يرسل الرسول في أكثر الأمر، فإذا لم يبق فيهم من يبين و يضل الكل و يتباعد العهد و يفشو الكفر يبعث رسولا آخر مقررا لدين من كان قبله أو واضعا لشرع آخر، فمعنى قوله تعالى: لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ أي ما أنذروا بعد ما ضلوا عن طريق الرسول المتقدم و اليهود و النصارى دخلوا فيه لأنهم لم تنذر آباؤهم الأدنون بعد ما ضلوا، فهذا دليل على كون النبي صلى اللّه عليه و آله و سلم مبعوثا بالحق إلى الخلق كافة.
المسألة الثالثة: قوله: فَهُمْ غافِلُونَ دليل على أن البعثة لا تكون إلا عند الغفلة، أما إن حصل لهم العلم بما أنزل اللّه بأن يكون منهم من يبلغهم شريعة و يخالفونه فحق عليهم الهلاك و لا يكون ذلك تعذيبا من قبل أن يبعث اللّه رسولا، و كذلك من خالف الأمور التي لا تفتقر إلى بيان الرسل يستحق الإهلاك من غير بعثة، و ليس هذا قولا بمذهب المعتزلة من التحسين و التقبيح العقلي بل معناه أن اللّه تعالى لو خلق في قوم علما بوجوب الأشياء و تركوه لا يكونون غافلين فلا يتوقف تعذيبهم على بعثة الرسل. ثم قال تعالى:
[سورة يس (36): آية 7]