کتابخانه تفاسیر
مفاتيح الغيب، ج26، ص: 440
و إن طال عمره فلا بد له من الانتهاء إلى أن يصير مصفر اللون منحطم الأعضاء و الأجزاء، ثم تكون عاقبته الموت. فإذا كانت مشاهدة هذه الأحوال في النبات تذكره حصول مثل هذه الأحوال في نفسه و في حياته، فحينئذ تعظم نفرته في الدنيا و طيباتها. و الحاصل أنه تعالى في الآيات المتقدمة ذكر ما يقوى الرغبة في الآخرة، و ذكر في هذه الآية ما يقوي النفرة عن الدنيا، فشرح صفات القيامة يقوي الرغبة في طاعة اللّه، و شرح صفات الدنيا يقوي النفرة عن الدنيا، و إنما قدم الترغيب في الآخرة على التنفير عن الدنيا، لأن الترغيب في الآخرة مقصود بالذات، و التنفير عن الدنيا مقصود بالعرض، و المقصود بالذات مقدم على المقصود بالعرض، فهذا تمام الكلام في تفسير الآية، بقي هاهنا ما يتعلق بالبحث عن الألفاظ، قال الواحدي: و الينابيع جمع ينبوع و هو يفعول من نبع ينبع يقال نبع الماء ينبع و ينبع و ينبع ثلاث لغات ذكرها الكسائي و الفراء، و قوله يَنابِيعَ نصب بحذف الخافض لأن التقدير فسلكه في ينابيع ثم يهيج أي يخضر، و الحطام ما يجف و يتفتت و يكسر من النبت.
[سورة الزمر (39): الآيات 22 الى 28]
[في قوله تعالى أَ فَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ ] و فيه مسائل:
المسألة الأولى: اعلم أنه تعالى لما بالغ في تقرير البيانات الدالة على وجوب الإقبال على طاعة اللّه تعالى و وجوب الإعراض عن الدنيا بين بعد ذلك أن الانتفاع بهذه البيانات لا يكمل إلا إذا شرح اللّه الصدور و نور القلوب فقال: أَ فَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ .
و اعلم أنا بالغنا في سورة الأنعام في تفسير قوله: فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ [الأنعام: 125]/ في تفسير شرح الصدر و في تفسير الهداية، و لا بأس بإعادة كلام قليل هاهنا، فنقول إنه تعالى خلق جواهر النفوس مختلفة بالماهية فبعضها خيرة نورانية شريفة مائلة إلى الإلهيات عظيمة الرغبة في الاتصال بالروحانيات، و بعضها نذلة كدرة خسيسة مائلة إلى الجسمانيات و في هذا التفاوت أمر حاصل في جواهر النفوس البشرية، و الاستقراء يدل على أن الأمر كذلك، إذا عرفت هذا فنقول المراد بشرح الصدر هو ذلك الاستعداد الشديد الموجود في فطرة النفس، و إذا كان ذلك الاستعداد الشديد حاصلا كفى خروج تلك الحالة من القوة إلى
مفاتيح الغيب، ج26، ص: 441
الفعل بأدنى سبب، مثل الكبريت الذي يشتعل بأدنى نار، أما إذا كانت النفس بعيدة عن قبول هذه الجلايا القدسية و الأحوال الروحانية، بل كانت مستغرقة في طلب الجسمانيات قليلة التأثر عن الأحوال المناسبة للالهيات فكانت قاسية كدرة ظلمانية، و كلما كان إيراد الدلائل اليقينية و البراهين الباهرة عليها أكثر كانت قسوتها و ظلمتها أقل. إذا عرفت هذه القاعدة فنقول. أما شرح الصدر فهو ما ذكرناه، و أما النور فهو عبارة عن الهداية و المعرفة، و ما لم يحصل شرح الصدر أولا لم يحصل النور ثانيا، و إذا كان الحاصل هو القوة النفسانية لم يحصل الانتفاع ألبتة بسماع الدلائل، و ربما صار سماع الدلائل سببا لزيادة القسوة و لشدة النفرة فهذه أصول يقينية يجب أن تكون معلومة عند الإنسان حتى يمكنه الوقوف على معاني هذه الآيات، أما استدلال أصحابنا في مسألة الجبر و القدر و كلام الخصوم عليه فقد تقدم هناك و اللّه أعلم.
المسألة الثانية: من محذوف الخبر كما في قوله: أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ [الزمر: 9] و التقدير: أ فمن شرح اللّه صدره للإسلام فاهتدى كمن طبع على قلبه فلم يهتد لقسوته، و الجواب متروك لأن الكلام المذكور دل عليه و هو قوله تعالى: فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ .
المسألة الثالثة: قوله: فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ فيه سؤال، و هو أن ذكر اللّه سبب لحصول النور و الهداية و زيادة الاطمئنان كما قال: أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ [الرعد: 28] فكيف جعله في هذه الآية سببا لحصول قسوة القلب، و الجواب أن نقول إن النفس إذا كانت خبيثة الجوهر كدرة العنصر بعيدة عن مناسبة الروحانيات شديدة الميل إلى الطبائع البهيمية و الأخلاق الذميمة، فإن سماعها لذكر اللّه يزيدها قسوة و كدورة، و تقرير هذا الكلام بالأمثلة فإن الفاعل الواحد تختلف أفعاله بحسب اختلاف القوابل كنور الشمس يسود وجه القصار و يبيض ثوبه، و حرارة الشمس و تعقد الملح، و قد نرى إنسانا واحدا يذكر كلاما واحدا في مجلس واحد فيستطيبه واحد و يستكرهه غيره، و ما ذاك إلا ما ذكرناه من اختلاف جواهر النفوس، و من اختلاف أحوال تلك النفوس، و لما نزل قوله تعالى: وَ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ و كان قد حضر هناك عمر بن الخطاب و إنسان آخر فلما انتهى رسول اللّه عليه السّلام إلى قوله تعالى ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ قال كل واحد منهم فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ [المؤمنون: 12- 14]
فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلّم/ «اكتب فهكذا أنزلت»
فازداد عمر إيمانا على إيمان و ازداد ذلك الإنسان كفرا على كفر، إذا عرفت هذا لم يبعد أيضا أن يكون ذكر اللّه يوجب النور و الهداية و الاطمئنان في النفوس الطاهرة الروحانية، و يوجب القسوة و البعد عن الحق في النفوس الخبيثة الشيطانية، إذا عرفت هذا فنقول إن رأس الأدوية التي تفيد الصحة الروحانية و رئيسها هو ذكر اللّه تعالى، فإذا اتفق لبعض النفوس أن صار ذكر اللّه تعالى سببا لازدياد مرضها كان مرض تلك النفس مرضا لا يرجى زواله و لا يتوقع علاجه و كانت في نهاية الشر و الرداءة، فلهذا المعنى قال تعالى: فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ و هذا كلام كامل محقق، و لما بين تعالى ذلك أردفه بما يدل على أن القرآن سبب لحصول النور و الشفاء و الهداية و زيادة الاطمئنان، و المقصود منه بيان أن القرآن لما كان موصوفا بهذه الصفات، ثم إنه في حق ذلك الإنسان صار سببا لمزيد القسوة دل ذلك على أن جوهر تلك النفس قد بلغ في الرداءة و الخساسة إلى أقصى الغايات، فنقول إنه تعالى وصف القرآن بأنواع من صفات الكمال.
الصفة الأولى: قوله تعالى: اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ و فيه مسائل:
مفاتيح الغيب، ج26، ص: 442
المسألة الأولى: القائلون بحدوث القرآن احتجوا بهذه الآية من وجوه الأول: أنه تعالى وصفه بكونه حديثا في هذه الآيات و في آيات أخرى منها قوله تعالى: فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ [الطور: 34] و منها قوله تعالى: أَ فَبِهذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ [الواقعة: 81] و الحديث لا بد و أن يكون حادثا، قالوا بل الحديث أقوى في الدلالة على الحدوث من الحادث لأنه يصح أن يقال هذا حديث و ليس بعتيق، و هذا عتيق و ليس بحادث، فثبت أن الحديث هو الذي يكون قريب العهد بالحديث، و سمي الحديث حديثا لأنه مؤلف من الحروف و الكلمات، و تلك الحروف و الكلمات تحدث حالا فحالا و ساعة فساعة، فهذا تمام تقرير هذا الوجه.
أما الوجه الثاني: في بيان استدلال القوم أن قالوا: إنه تعالى وصفه بأنه نزله و المنزل يكون في محل تصرف الغير. و ما يكون كذلك فهو محدث و حادث.
و أما الوجه الثالث: في بيان استدلال القوم أن قالوا: إن قوله أَحْسَنَ الْحَدِيثِ يقتضي أن يكون هو من جنس سائر الأحاديث كما أن قوله زيد أفضل الإخوة يقتضي أن يكون زيد مشاركا لأولئك الأقوام في صفة الأخوة و يكون من جنسهم، فثبت أن القرآن من جنس سائر الأحاديث، و لما كان سائر الأحاديث حادثة وجب أيضا أن يكون القرآن حادثا.
أما الوجه الرابع: في الاستدلال أن قالوا: إنه تعالى وصفه بكونه كتابا و الكتاب مشتق من الكتبة و هي الاجتماع، و هذا يدل على أنه مجموع جامع و محل تصرف متصرف. و ذلك يدل على كونه محدثا و الجواب: أن نقول نحمل هذا الدليل على الكلام المؤلف من الحروف و الأصوات و الألفاظ و العبارات، و ذلك الكلام عندنا محدث مخلوق و اللّه أعلم.
المسألة الثانية: كون القرآن أحسن الحديث، إما أن يكون أحسن الحديث بحسب لفظه أو بحسب معناه.
القسم الأول: أن يكون أَحْسَنَ الْحَدِيثِ بحسب لفظه و ذلك من وجهين: الأول: أن يكون ذلك الحسن لأجل الفصاحة و الجزالة الثاني: أن يكون بحسب النظم في الأسلوب، و ذلك لأن القرآن ليس من جنس الشعر، و لا من جنس الخطب. و لا من جنس الرسائل، بل هو نوع يخالف الكل، مع أن كل ذي طبع سليم يستطيبه و يستلذه.
القسم الثاني: أن يكون كونه أحسن الحديث لأجل المعنى، و فيه وجوه: الأول: أنه كتاب منزه عن التناقض، كما قال تعالى: وَ لَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً [النساء: 82] و مثل هذا الكتاب إذا خلا عن التناقض كان ذلك من المعجزات الوجه الثاني: اشتماله على الغيوب الكثيرة في الماضي و المستقبل الوجه الثالث: أن العلوم الموجودة فيه كثيرة جدا.
و ضبط هذه العلوم أن نقول: العلوم النافعة هي ما ذكره اللّه في كتابه في قوله: وَ الْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَ مَلائِكَتِهِ وَ كُتُبِهِ وَ رُسُلِهِ، لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَ قالُوا سَمِعْنا وَ أَطَعْنا غُفْرانَكَ رَبَّنا وَ إِلَيْكَ الْمَصِيرُ [البقرة:
285] فهذا أحسن ضبط يمكن ذكره للعلوم النافعة.
أما القسم الأول: و هو الإيمان باللّه، فاعلم أنه يشتمل على خمسة أقسام: معرفة الذات و الصفات و الأفعال
مفاتيح الغيب، ج26، ص: 443
و الأحكام و الأسماء. أما معرفة الذات فهي أن يعلم وجود اللّه و قدمه و بقاءه. و أما معرفة الصفات فهي نوعان:
أحدهما: ما يجب تنزيهه عنه، و هو كونه جوهرا و مركبا من الأعضاء و الأجزاء و كونه مختصا بحيز و جهة، و يجب أن يعلم أن الألفاظ الدالة على التنزيه أربعة: ليس و لم و ما و لا، و هذه الأربعة المذكورة، مذكورة في كتاب اللّه تعالى لبيان التنزيه.
أما كلمة ليس فقوله: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى: 11] و أما كلمة لم، فقوله: لَمْ يَلِدْ وَ لَمْ يُولَدْ* وَ لَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ [الإخلاص: 3، 4] و أما كلمة ما فقوله: وَ ما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا [مريم: 64]، ما كانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ [مريم: 35] و أما كلمة لا، فقوله تعالى: لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَ لا نَوْمٌ [البقرة: 255]، وَ هُوَ يُطْعِمُ وَ لا يُطْعَمُ [الأنعام: 14]، وَ هُوَ يُجِيرُ وَ لا يُجارُ عَلَيْهِ [المؤمنون: 88]، و قوله في سبعة و ثلاثين موضعا من القرآن لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ* [محمد: 19].
و أما النوع الثاني: و هي الصفات التي يجب كونه موصوفا بها من القرآن فأولها العلم باللّه، و العلم بكونه محدثا خالقا، قال تعالى: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ [الأنعام: 1] و ثانيها: العلم بكونه قادرا، قال تعالى في أول سورة القيامة بَلى قادِرِينَ عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ [القيامة: 4] و قال في آخر هذه السورة أَ لَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى [القيامة: 40] و ثالثها: العلم بكونه تعالى عالما، قال تعالى:
هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ عالِمُ الْغَيْبِ وَ الشَّهادَةِ [الحشر: 22] و رابعها: العلم بكونه عالما بكل المعلومات، قال تعالى: وَ عِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ [الأنعام: 59] و قوله تعالى: اللَّهُ يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى [الرعد: 8] و خامسها: العلم/ بكونه حيا، قال تعالى: هُوَ الْحَيُّ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ [غافر: 65] و سادسها: العلم بكونه مريدا، قال اللّه تعالى: فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ [الأنعام: 125] و سابعها: كونه سميعا بصيرا، قال تعالى: وَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [الشورى: 11] و قال تعالى: إِنَّنِي مَعَكُما أَسْمَعُ وَ أَرى [طه: 46] و ثامنها: كونه متكلما، قال تعالى: وَ لَوْ أَنَّ ما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَ الْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللَّهِ [لقمان: 27] و تاسعها: كونه أمرا، قال تعالى: لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَ مِنْ بَعْدُ [الروم: 4] و عاشرها: كونه رحمانا رحيما مالكا، قال تعالى: الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ* مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ [الفاتحة: 3، 4] فهذا ما يتعلق بمعرفة الصفات التي يجب اتصافه بها.
و أما القسم الثالث: و هو الأفعال، فاعلم أن الأفعال إما أرواح و إما أجسام. أما الأرواح فلا سبيل للوقوف عليها إلا للقليل، كما قال تعالى: وَ ما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ [المدثر: 31] و أما الأجسام، فهي إما العالم الأعلى و إما العالم الأسفل. أما العالم الأعلى فالبحث فيه من وجوه أحدها: البحث عن أحوال السموات، و ثانيها: البحث عن أحوال الشمس و القمر كما قال تعالى: إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَ الشَّمْسَ وَ الْقَمَرَ وَ النُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ [الأعراف: 54] و ثالثها: البحث عن أحوال الأضواء، قال اللّه تعالى: اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ [النور:
35] و قال تعالى: هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَ الْقَمَرَ نُوراً [يونس: 5] و رابعها: البحث عن أحوال الظلال، قال اللّه تعالى: أَ لَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَ لَوْ شاءَ لَجَعَلَهُ ساكِناً [الفرقان: 45] و خامسها:
اختلاف الليل و النهار، قال اللّه تعالى: يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ وَ يُكَوِّرُ النَّهارَ عَلَى اللَّيْلِ [الزمر: 5]
مفاتيح الغيب، ج26، ص: 444
و سادسها: منافع الكواكب، قال تعالى: وَ هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِها فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَ الْبَحْرِ [الأنعام: 97] و سابعها: صفات الجنة، قال تعالى: وَ جَنَّةٍ عَرْضُها كَعَرْضِ السَّماءِ وَ الْأَرْضِ [الحديد: 21] و ثامنها: صفات النار، قال تعالى: لَها سَبْعَةُ أَبْوابٍ لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ [الحجر: 44] و تاسعها:
صفة العرش، قال تعالى: الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَ مَنْ حَوْلَهُ [غافر: 7] و عاشرها: صفة الكرسي، قال تعالى: وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ [البقرة: 255] و حادي عشرها: صفة اللوح و القلم. أما اللوح، فقوله تعالى: بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ* فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ [البروج: 21، 22] و أما القلم، فقوله تعالى: ن وَ الْقَلَمِ وَ ما يَسْطُرُونَ [القلم: 1].
و أما شرح أحوال العالم الأسفل فأولها: الأرض، و قد وصفها بصفات كثيرة إحداها: كونه مهدا، قال تعالى: الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً [طه: 53] و ثانيها: كونه مهادا، قال تعالى: أَ لَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً [النبأ: 6] و ثالثها: كونه كفاتا، قال تعالى: كِفاتاً* أَحْياءً وَ أَمْواتاً [المرسلات: 24، 25] و رابعها: الذلول، قال تعالى: هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا [الملك: 15] و خامسها: كونه بساطا، قال تعالى: وَ اللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِساطاً* لِتَسْلُكُوا مِنْها سُبُلًا فِجاجاً [نوح: 19، 20] و الكلام فيه طويل و ثانيها: البحر، قال تعالى: وَ هُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيًّا [النحل: 14] و ثالثها: الهواء و الرياح. قال تعالى:/ وَ هُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ [الأعراف: 57] و قال تعالى:
وَ أَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ [الحجر: 22] و رابعها: الآثار العلوية كالرعد و البرق، قال تعالى: وَ يُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَ الْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ [الرعد: 13] و قال تعالى: فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ* [النور: 43] و من هذا الباب ذكر الصواعق و الأمطار و تراكم السحاب و خامسها: أحوال الأشجار و الثمار و أنواعها و أصنافها، و سادسها: أحوال الحيوانات، قال تعالى: وَ بَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ* [البقرة: 164] و قال: وَ الْأَنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ [النحل: 5] و سابعها: عجائب تكوين الإنسان في أول الخلقة، قال: وَ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ [المؤمنون: 12] و ثامنها: العجائب في سمعه و بصره و لسانه و عقله و فهمه و تاسعها: تواريخ الأنبياء و الملوك و أحوال الناس من أول خلق العالم إلى آخر قيام القيامة، و عاشرها ذكر أحوال الناس عند الموت و بعد الموت، و كيفية البعث و القيامة، و شرح أحوال السعداء و الأشقياء، فقد أشرنا إلى عشرة أنواع من العلوم في عالم السموات، و إلى عشرة أخرى في عالم العناصر، و القرآن مشتمل على شرح هذه الأنواع من العلوم العالية الرفيعة.
و أما القسم الرابع: و هو شرح أحكام اللّه تعالى و تكاليفه، فنقول هذه التكاليف إما أن تحصل في أعمال القلوب أو في أعمال الجوارح.
أما القسم الأول: فهو المسمى بعلم الأخلاق و بيان تمييز الأخلاق الفاضلة و الأخلاق الفاسدة و القرآن يشتمل على كل ما لا بد منه في هذا الباب، قال اللّه تعالى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَ الْإِحْسانِ وَ إِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَ يَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَ الْمُنْكَرِ وَ الْبَغْيِ [النحل: 90]، و قال: خُذِ الْعَفْوَ وَ أْمُرْ بِالْعُرْفِ وَ أَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ [الأعراف: 199].
مفاتيح الغيب، ج26، ص: 445
و أما الثاني: فهو التكاليف الحاصلة في أعمال الجوارح و هو المسمى بعلم الفقه و القرآن مشتمل على جملة أصول هذا العلم على أكمل الوجوه.
و أما القسم الخامس: و هو معرفة أسماء اللّه تعالى فهو مذكور في قوله تعالى: وَ لِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها [الأعراف: 180] فهذا كله يتعلق بمعرفة اللّه.
و أما القسم الثاني: من الأصول المعتبرة في الإيمان الإقرار بالملائكة كما قال تعالى: وَ الْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَ مَلائِكَتِهِ [البقرة: 285] و القرآن يشتمل على شرح صفاتهم تارة على سبيل الإجمال و أخرى على طريق التفصيل، أما بالإجمال فقوله: وَ مَلائِكَتِهِ و أما بالتفصيل فمنها ما يدل على كونهم رسل اللّه قال تعالى:
جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا [فاطر: 1] و منها أنها مدبرات لهذا العالم، قال تعالى: فَالْمُقَسِّماتِ أَمْراً [الذاريات: 4] فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً [النازعات: 5] و قال تعالى: وَ الصَّافَّاتِ صَفًّا [الصافات: 1] و منها حملة العرش قال: وَ يَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ [الحاقة: 17] و منها الحافون حول العرش قال:
وَ تَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ [الزمر: 75] و منها خزنة النار قال تعالى: عَلَيْها مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدادٌ [التحريم: 6] و منها الكرام الكاتبون قال: وَ إِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ* كِراماً كاتِبِينَ [الإنفطار: 10، 11] و منها المعقبات قال تعالى: لَهُ مُعَقِّباتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ مِنْ خَلْفِهِ [الرعد: 11] و قد يتصل بأحوال الملائكة أحوال الجن و الشياطين.
و أما القسم الثالث: من الأصول المعتبرة في الإيمان معرفة الكتب و القرآن يشتمل على شرح أحوال كتاب آدم عليه السلام قال تعالى: فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ [البقرة: 37] و منها أحوال صحف إبراهيم عليه السلام قال تعالى: وَ إِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَ [البقرة: 124] و منها أحوال التوراة و الإنجيل و الزبور.
و أما القسم الرابع: من الأصول المعتبرة في الإيمان معرفة الرسل و اللّه تعالى قد شرح أحوال البعض و أبهم أحوال الباقين قال: مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنا عَلَيْكَ وَ مِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ [غافر: 78].
القسم الخامس: ما يتعلق بأحوال المكلفين و هي على نوعين الأول: أن يقروا بوجوب هذه التكاليف عليهم و هو المراد من قوله: وَ قالُوا سَمِعْنا وَ أَطَعْنا ، الثاني: أن يعترفوا بصدور التقصير عنهم في تلك الأعمال ثم طلبوا المغفرة و هو المراد من قوله: غُفْرانَكَ رَبَّنا ثم لما كانت مقادير رؤية التقصير في مواقف العبودية بحسب المكاشفات في مطالعة عزة الربوبية أكثر، كانت المكاشفات في تقصير العبودية أكثر و كان قوله: غُفْرانَكَ رَبَّنا أكثر.
القسم السادس: معرفة المعاد و البعث و القيامة و هو المراد من قوله: وَ إِلَيْكَ الْمَصِيرُ [البقرة: 285] و هذا هو الإشارة إلى معرفة المطالب المهمة في طلب الدين، و القرآن بحر لا نهاية له في تقرير هذه المطالب و تعريفها و شرحها و لا ترى في مشارق الأرض و مغاربها كتابا يشتمل على جملة هذه العلوم كما يشتمل القرآن عليها. و من تأمل في هذا التفسير علم أنا لم نذكر من بحار فضائل القرآن إلا قطرة، و لما كان الأمر على هذه الجملة، لا جرم مدح اللّه عز و جل القرآن فقال تعالى: اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ و اللّه أعلم.
مفاتيح الغيب، ج26، ص: 446
الصفة الثانية: من صفات القرآن قوله تعالى كِتاباً مُتَشابِهاً أما الكتاب فقد فسرناه في قوله تعالى: ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ [البقرة: 2] و أما كونه متشابها فاعلم أن هذه الآية تدل على أن القرآن كله متشابه. و قوله: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَ أُخَرُ مُتَشابِهاتٌ [آل عمران: 7] يدل على كون البعض متشابها دون البعض. و أما كونه كله متشابها كما في هذه الآية، فقال ابن عباس: معناه أنه يشبه بعضه بعضا، و أقول هذا التشابه يحصل في أمور أحدها: أن الكاتب البليغ إذا كتب كتابا طويلا، فإنه يكون بعض كلماته فصيحا، و يكون البعض غير فصيح، و القرآن يخالف ذلك فإنه فصيح كامل الفصاحة بجميع أجزائه و ثانيها: أن الفصيح إذا كتب كتابا في واقعة بألفاظ فصيحة فلو كتب كتابا آخر في غير تلك الواقعة كان الغالب أن كلامه في الكتاب الثاني غير كلامه في الكتاب الأول، و اللّه تعالى حكى قصة موسى عليه السلام في مواضع كثيرة من القرآن و كلها متساوية متشابهة في الفصاحة و ثالثها: أن كل ما فيه من الآيات و البيانات فإنه يقوي بعضها بعضا و يؤكد بعضها بعضا و رابعها: أن هذه الأنواع الكثيرة من العلوم التي عددناها متشابهة متشاركة في أن المقصود منها بأسرها الدعوة إلى/ الدين و تقرير عظمة اللّه، و لذلك فإنك لا ترى قصة من القصص إلا و يكون محصلها المقصود الذي ذكرناه، فهذا هو المراد من كونه متشابها، و اللّه الهادي.
الصفة الثالثة: من صفات القرآن كونه مثاني و قد بالغنا في تفسير هذه اللفظة عند قوله تعالى: وَ لَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي [الحجر: 87] و بالجملة فأكثر الأشياء المذكورة وقعت زوجين زوجين مثل: الأمر و النهي، و العام و الخاص، و المجمل و المفصل، و أحوال السموات و الأرض، و الجنة و النار، و الظلمة و الضوء، و اللوح و القلم، و الملائكة و الشياطين، و العرش و الكرسي، و الوعد و الوعيد، و الرجاء و الخوف، و المقصود منه بيان أن كل ما سوى الحق زوج و يدل على أن كل شيء مبتلى بضده و نقيضه و أن الفرد الأحد الحق هو اللّه سبحانه.
الصفة الرابعة: من صفات القرآن قوله: تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَ قُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللَّهِ و فيه مسائل: