کتابخانه تفاسیر
مفاتيح الغيب، ج27، ص: 563
المسألة الثانية: من الناس من قال المراد من قوله وَ مَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعا إِلَى اللَّهِ / هو الرسول صلى اللّه عليه و سلّم، و منهم من قال هم المؤذنون، و لكن الحق المقطوع به أن كل من دعا إلى اللّه بطريق من الطرق فهو داخل فيه، و الدعوة إلى اللّه مراتب:
فالمرتبة الأولى: دعوة الأنبياء عليهم السلام راجحة على دعوة غيرهم من وجوه أحدها: أنهم جمعوا بين الدعوة بالحجة أولا، ثم الدعوة بالسيف ثانيا، و قلما اتفق لغيرهم الجمع بين هذين الطريقين و ثانيها: أنهم هم المبتدئون بهذه الدعوة، و أما العلماء فإنهم يبنون دعوتهم على دعوة الأنبياء، و الشارع في إحداث الأمر الشريف على طريق الابتداء أفضل و ثالثها: أن نفوسهم أقوى قوة، و أرواحهم أصفى جوهرا، فكانت تأثيراتها في إحياء القلوب الميتة و إشراق الأرواح الكدرة أكمل، فكانت دعوتهم أفضل و رابعها: أن النفوس على ثلاثة أقسام:
ناقصة و كاملة لا تقوى على تكميل الناقصين و كاملة تقوى على تكميل الناقصين فالقسم الأول: العوام و القسم الثاني: هم الأولياء و القسم الثالث: هم الأنبياء، و لهذا السبب
قال صلى اللّه عليه و سلّم: «علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل»
و إذا عرفت هذا فنقول: إن نفوس الأنبياء حصلت لها مزيتان: الكمال في الذات، و التكميل للغير، فكانت قوتهم على الدعوة أقوى، و كانت درجاتهم أفضل و أكمل، إذا عرفت هذا فنقول: الأنبياء عليهم السلام لهم صفتان:
العلم و القدرة، أما العلماء، فهم نواب الأنبياء في العلم، و أما الملوك، فهم نواب الأنبياء في القدرة، و العلم يوجب الاستيلاء على الأرواح، و القدرة توجب الاستيلاء على الأجساد، فالعلماء خلفاء الأنبياء في عالم الأرواح، و الملوك خلفاء الأنبياء في عالم الأجساد. و إذا عرفت هذا ظهر أن أكمل الدرجات في الدعوة إلى اللّه بعد الأنبياء درجة العلماء، ثم العلماء على ثلاثة أقسام: العلماء باللّه، و العلماء بصفات اللّه، و العلماء بأحكام اللّه. أما العلماء باللّه، فهم الحكماء الذين قال اللّه تعالى في حقهم يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشاءُ وَ مَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً [البقرة: 229] و أما العلماء بصفات اللّه تعالى فهم أصحاب الأصول، و أما العلماء بأحكام اللّه فهم الفقهاء، و لكل واحد من هذه المقامات ثلاث درجات لا نهاية لها، فلهذا السبب كان للدعوة إلى اللّه درجات لا نهاية لها، و أما الملوك فهم أيضا يدعون إلى دين اللّه بالسيف، و ذلك بوجهين إما بتحصيله عند عدمه مثل المحاربة مع الكفار، و إما بإبقائه عند وجوده و ذلك مثل قولنا المرتد يقتل، و أما المؤذنون فهم يدخلون في هذا الباب دخولا ضعيفا، أما دخولهم فيه فلأن ذكر كلمات الأذان دعوة إلى الصلاة، فكان ذلك داخلا تحت الدعاء إلى اللّه، و أما كون هذه المرتبة ضعيفة فلأن الظاهر من حال المؤذن أنه لا يحيط بمعاني تلك الكلمات و بتقدير أن يكون محيطا بها إلا أنه لا يريد بذكرها تلك المعاني الشريفة، فهذا هو الكلام، في مراتب الدعوة إلى اللّه.
المسألة الثالثة: قوله وَ مَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعا إِلَى اللَّهِ يدل على أن الدعوة إلى اللّه أحسن من كل ما سواها، إذا عرفت هذا فنقول: كل ما كان أحسن الأعمال وجب أن يكون واجبا، لأن كل ما لا يكون واجبا فالواجب أحسن منه، فثبت أن كل ما كان أحسن الأعمال فهو/ واجب، إذا عرفت هذا فنقول الدعوة إلى اللّه أحسن الأعمال بمقتضى هذه الآية، و كل ما كان أحسن الأعمال فهو واجب، ثم ينتج أن الدعوة إلى اللّه واجبة، ثم نقول الأذان دعوة إلى اللّه و الدعوة إليه واجبة فينتج الأذان واجب، و اعلم أن الأكثرين من الفقهاء زعموا أن الأذان غير واجب، و زعموا أن الأذان غير داخل في هذه الآية، و الدليل القاطع عليه أن الدعوة المرادة بهذه الآية
مفاتيح الغيب، ج27، ص: 564
يجب أن تكون أحسن الأقوال، و ثبت أن الأذان ليس أحسن الأقوال، لأن الدعوة إلى دين اللّه سبحانه و تعالى بالدلائل اليقينية أحسن من الأذان، ينتج من الشكل الثاني أن الداخل تحت هذه الآية ليس هو الأذان.
المسألة الرابعة: اختلف الناس في أن الأولى أن يقول الرجل أنا المسلم أو الأولى أن يقول أنا مسلم إن شاء اللّه، فالقائلون بالقول الأول احتجوا على صحة قولهم بهذه الآية فإن التقدير و من أحسن قولا ممن قال إني من المسلمين، فحكم بأن هذا القول أحسن الأقوال، و لو كان قولنا إن شاء اللّه معتبرا في كونه أحسن الأقوال لبطل ما دل عليه ظاهر هذه الآية.
المسألة الخامسة: الآية تدل على أن أحسن الأقوال قول من جمع بين خصال ثلاثة أولها: الدعوة إلى اللّه و ثانيها: العمل الصالح و ثالثها: أن يكون من المسلمين، أما الدعوة إلى اللّه فقد شرحناها و هي عبارة عن الدعوة إلى اللّه بإقامة الدلائل اليقينية و البراهين القطعية.
و أما قوله وَ عَمِلَ صالِحاً فاعلم أن العمل الصالح إما أن يكون عمل القلوب و هو المعرفة، أو عمل الجوارح و هو سائر الطاعات.
و أما قوله وَ قالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ فهو أن ينضم إلى عمل القلب و عمل الجوارح الإقرار باللسان، فيكون هذا الرجل موصوفا بخصال أربعة أحدها: الإقرار باللسان و الثاني: الأعمال الصالحة بالجوارح و الثالث:
الاعتقاد الحق بالقلب و الرابع: الاشتغال بإقامة الحجة على دين اللّه، و لا شك أن الموصوف بهذه الخصال الأربعة أشرف الناس و أفضلهم، و كمال الدرجة في هذه المراتب الأربعة ليس إلا لمحمد صلى اللّه عليه و سلّم.
ثم قال تعالى: وَ لا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَ لَا السَّيِّئَةُ و اعلم أنا بينا أن الكلام من أول السورة ابتدئ من أن اللّه حكى عنهم أنهم قالوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ [فصلت: 5] فأظهروا من أنفسهم الإصرار الشديد على أديانهم القديمة و عدم التأثر بدلائل محمد صلى اللّه عليه و سلّم، ثم إنه تعالى أطنب في الجواب عنه و ذكر الوجوه الكثيرة و أردفها بالوعد و الوعيد، ثم حكى عنهم شبهة أخرى و هي قولهم لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَ الْغَوْا فِيهِ [فصلت: 26] و أجاب عنها أيضا بالوجوه الكثيرة، ثم إنه تعالى يعد الإطناب في الجواب عن تلك الشبهات رغب محمدا صلى اللّه عليه و سلّم في أن لا يترك الدعوة إلى اللّه فابتدأ أولا بأن قال: إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا فلهم الثواب العظيم ثم ترقى من تلك الدرجة إلى درجة أخرى و هي أن الدعوة إلى اللّه من أعظم الدرجات، فصار الكلام من أول السورة إلى/ هذا الموضع واقعا على أحسن وجوه الترتيب، ثم كأن سائلا سأل فقال إن الدعوة إلى اللّه و إن كانت طاعة عظيمة، إلا أن الصبر على سفاهة هؤلاء الكفار شديد لا طاقة لنا به، فعند هذا ذكر اللّه ما يصلح لأن يكون دافعا لهذا الإشكال فقال: وَ لا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَ لَا السَّيِّئَةُ و المراد بالحسنة دعوة الرسول صلى اللّه عليه و سلّم إلى الدين الحق، و الصبر على جهالة الكفار، و ترك الانتقام، و ترك الالتفات إليهم، و المراد بالسيئة ما أظهروه من الجلافة في قولهم قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ و ما ذكروه في قولهم لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَ الْغَوْا فِيهِ فكأنه قال يا محمد فعلك حسنة و فعلهم سيئة، و لا تستوي الحسنة و لا السيئة، بمعنى أنك إذا أتيت بهذه الحسنة تكون مستوجبا للتعظيم في الدنيا و الثواب في الآخرة، و هم بالضد من ذلك، فلا ينبغي أن يكون إقدامهم على تلك السيئة مانعا لك من الاشتغال بهذه الحسنة.
مفاتيح الغيب، ج27، ص: 565
ثم قال: ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ يعني ادفع سفاهتهم و جهالتهم بالطريق الذي هو أحسن الطرق، فإنك إذا صبرت على سوء أخلاقهم مرة بعد أخرى، و لم تقابل سفاهتهم بالغضب و لا إضرارهم بالإيذاء و الإيحاش استحيوا من تلك الأخلاق المذمومة و تركوا تلك الأفعال القبيحة.
ثم قال: فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَ بَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ يعني إذا قابلت إساءتهم بالإحسان، و أفعالهم القبيحة بالأفعال الحسنة تركوا أفعالهم القبيحة و انقلبوا من العداوة إلى المحبة و من البغضة إلى المودة، و لما أرشد اللّه تعالى إلى هذا الطريق النافع في الدين و الدنيا و الآخرة عظمة فقال: وَ ما يُلَقَّاها إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَ ما يُلَقَّاها إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ قال الزجاج: أي و ما يلقى هذه الفعلة إلا الذين صبروا على تحمل المكاره و تجرع الشدائد و كظم الغيظ و ترك الانتقام.
ثم قال: وَ ما يُلَقَّاها إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ من الفضائل النفسانية و الدرجة العالية في القوة الروحانية، فإن الاشتغال بالانتقام و الدفع لا يحصل إلا بعد تأثر النفس، و تأثر النفس من الواردات الخارجية لا يحصل إلا عند ضعف النفس فأما إذا كانت النفس قوية الجوهر لم تتأثر من الواردات الخارجية، و إذا لم تتأثر منها لم تضعف و لم تتأذ و لم تشتغل بالانتقام، فثبت أن هذه السيرة التي شرحناها لا يلقاها إلا ذو حظ عظيم من قوة النفس و صفاء الجوهر و طهارة الذات، و يحتمل أن يكون المراد: و ما يلقاها إلا ذو حظ عظيم من ثواب الآخرة، فعلى هذا الوجه قوله وَ ما يُلَقَّاها إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا مدح بفعل الصبر، و قوله وَ ما يُلَقَّاها إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ وعد بأعظم الحظ من الثواب.
و لما ذكر هذا الطريق الكامل في دفع الغضب و الانتقام، و في ترك الخصومة ذكر عقيبه طريقا آخر عظيم النفع أيضا في هذا الباب، فقال: وَ إِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ و هذه الآية مع ما فيها من الفوائد الجليلة مفسرة في آخر سورة الأعراف على الاستقصاء، قال صاحب «الكشاف» النزغ و النسغ بمعنى واحد و هو شبه النخس/ و الشيطان ينزغ الإنسان، كأنه ينخسه ببعثه على ما لا ينبغي و جعل النزغ نازغا، كما قيل: جد جده أو أريد وَ إِمَّا يَنْزَغَنَّكَ نازغ وصفا للشيطان بالمصدر، و بالجملة فالمقصود من الآية و إن صرفك الشيطان عما شرعت من الدفع بالتي هي أحسن، فاستعذ باللّه من شره، و امض على شأنك و لا تطعه، و اللّه أعلم.
[سورة فصلت (41): الآيات 37 الى 39]
اعلم أنه تعالى لما بيّن في الآية المتقدمة أن أحسن الأعمال و الأقوال هو الدعوة إلى اللّه تعالى أردفه بذكر الدلائل الدالة على وجود اللّه و قدرته و حكمته، تنبيها على أن الدعوة إلى اللّه تعالى عبارة عن تقرير الدلائل الدالة
مفاتيح الغيب، ج27، ص: 566
على ذات اللّه و صفاته، فهذه تنبيهات شريفة مستفادة من تناسق هذه الآيات، فكان العلم بهذه اللطائف أحسن علوم القرآن، و قد عرفت أن الدلائل الدالة على هذه المطالب العالية هي العالم بجميع ما فيه من الأجزاء و الأبعاض، فبدأ هاهنا بذكر الفلكيات و هي الليل و النهار و إنما قدم ذكر الليل على ذكر النهار تنبيها على أن الظلمة عدم، و النور وجود، و العدم سابق على الوجود، فهذا كالتنبيه على حدوث هذه الأشياء، و أما دلالة الشمس و القمر و الأفلاك و سائر الكواكب على وجود الصانع، فقد شرحناها في هذا الكتاب مرارا، لا سيما في تفسير قوله الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ* [الفاتحة: 2] و في تفسير قوله الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ [الأنعام: 1].
و لما بيّن أن الشمس و القمر محدثان، و هما دليلان على وجود الإله القادر قال: لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَ لا لِلْقَمَرِ يعني أنهما عبدان دليلان على وجود الإله، و السجدة عبارة عن نهاية التعظيم/ فهي لا تليق إلا بمن كان أشرف الموجودات، فقال: لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَ لا لِلْقَمَرِ لأنهما عبدان مخلوقان وَ اسْجُدُوا لِلَّهِ الخالق القادر الحكيم، و الضمير في قوله خَلَقَهُنَ لليل و النهار و القمر، لأن حكم جماعة ما لا يعقل حكم الأنثى أو الإناث، يقال للأقلام بريتها و بريتهن، و لما قال: وَ مِنْ آياتِهِ كن في معنى الإناث فقال: خَلَقَهُنَ و إنما قال: إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ لأن ناسا كانوا يسجدون للشمس و القمر كالصابئين في عبادتهم الكواكب و يزعمون أنهم يقصدون بالسجود لهما السجود للّه فنهوا عن هذه الواسطة و أمروا أن لا يسجدوا إلا للّه الذي خلق الأشياء، فإن قيل إذا كان لا بد في الصلاة من قبلة معينة، فلو جعلنا الشمس قبلة معينة عند السجود كان ذلك أولى، قلنا الشمس جوهر مشرق عظيم الرفعة عالي الدرجة، فلو أذن الشرع في جعلها قبلة في الصلوات، فعند اعتياد السجود إلى جانب الشمس ربما غلب على الأوهام أن ذلك السجود للشمس لا للّه، فلأجل الخوف من هذا المحذور نهى الشارع الحكيم عن جعل الشمس قبلة للسجود، بخلاف الحجر المعين فإنه ليس فيه ما يوهم الإلهية، فكان المقصود من القبلة حاصلا و المحذور المذكور زائلا فكان هذا أولى، و اعلم أن مذهب الشافعي رضي اللّه عنه أن موضع السجود هو قوله تَعْبُدُونَ لأجل أن قوله وَ اسْجُدُوا لِلَّهِ متصل به، و عند أبي حنيفة هو قوله وَ هُمْ لا يَسْأَمُونَ لأن الكلام إنما يتم عنده.
ثم إنه تعالى لما أمر بالسجود قال بعده فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَ النَّهارِ وَ هُمْ لا يَسْأَمُونَ و فيه سؤالات:
السؤال الأول: إن الذين يسجدون للشمس و القمر يقولون نحن أقل و أذل من أن يحصل لنا أهلية عبودية اللّه تعالى، و لكنا عبيد للشمس و هما عبدان للّه، و إذا كان قول هؤلاء هكذا، فكيف يليق أن يقال إنهم استكبروا عن السجود للّه؟ و الجواب: ليس المراد من لفظ الاستكبار ما ذكرتم، بل المراد فإن استكبروا عن قبول قولك يا محمد في النهي عن السجود للشمس و القمر.
السؤال الثاني: أن المشبهة تمسكوا بقوله فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ في إثبات المكان و الجهة للّه تعالى و الجواب: أنه يقال عند الملك من الجند كذا و كذا، و لا يراد به قرب المكان. فكذا هاهنا. و يدل عليه
قوله «أنا عند ظن عبدي بي و أنا عند المنكسرة قلوبهم لأجلي في مقعد صدق عند مليك مقتدر»
و يقال عند الشافعي رضي اللّه عنه إن المسلم لا يقتل بالذمي.
مفاتيح الغيب، ج27، ص: 567
السؤال الثالث: هل تدل هذه الآية على أن الملك أفضل من البشر؟ الجواب: نعم، لأنه إنما يستدل بحال الأعلى على حال الأدون، فيقال هؤلاء الأقوام إن استكبروا عن طاعة فلان فالأكابر يخدمونه و يعترفون بتقدمه، فثبت أن هذا النوع من الاستدلال إنما يحسن بحال الأعلى على حال الأدون.
السؤال الرابع: قال هاهنا في صفة الملائكة يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَ النَّهارِ فهذا يدل على/ أنهم مواظبون على التسبيح، لا ينفكون عنه لحظة واحدة، و اشتغالهم بهذا العمل على سبيل الدوام يمنعهم من الاشتغال بسائر الأعمال ككونهم ينزلون إلى الأرض كما قال: نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ* عَلى قَلْبِكَ [الشعراء: 193، 194] و قال:
وَ نَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ [الحجر: 51] و قوله تعالى: عَلَيْها مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدادٌ [التحريم: 6] الجواب:
إن الذين ذكرهم اللّه تعالى هاهنا بكونهم مواظبين على التسبيح أقوام معينون من الملائكة و هم الأشراف الأكابر منهم، لأنه تعالى وصفهم بكونهم عنده، و المراد من هذه العندية كمال الشرف و المنقبة، و هذا لا ينافي كون طائفة أخرى من الملائكة مشتغلين بسائر الأعمال، فإن قالوا هب أن الأمر كذلك إلا أنهم لا بد و أن يتنفسوا، فاشتغالهم بذلك التنفس يصدهم عن تلك الحالة من التسبيح قلنا كما أن التنفس سبب لصلاح حال الحياة بالنسبة إلى البشر فذكر اللّه تعالى سبب لصلاح حالهم في حياتهم، و لا يجب على العاقل المنصف أن يقيس أحوال الملائكة في صفاء جوهرها و إشراق ذواتها و استغراقها في معارج معارف اللّه بأحوال البشر، فإن بين الحالتين بعد المشرقين.
ثم قال تعالى: وَ مِنْ آياتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خاشِعَةً .
و اعلم أنه تعالى لما ذكر الآيات الأربع الفلكية و هي الليل و النهار و الشمس و القمر، أتبعها بذكر آية أرضية فقال: وَ مِنْ آياتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خاشِعَةً و الخشوع التذلل و التصاغر، و استعير هذا اللفظ لحال الأرض حال خلوها عن المطر و النبات فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَ رَبَتْ أي تحركت بالنبات، و ربت: انتفخت لأن النبت إذا قرب أن يظهر ارتفعت له الأرض و انتفخت، ثم تصدعت عن النبات، ثم قال: إِنَّ الَّذِي أَحْياها لَمُحْيِ الْمَوْتى يعني أن القادر على إحياء الأرض بعد موتها هو القادر على إحياء هذه الأجساد بعد موتها، و قد ذكرنا تقرير هذا الدليل مرارا لا حصر لها، ثم قال: إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ و هذا هو الدليل الأصلي و تقريره إن عودة التأليف و التركيب إلى تلك الأجزاء المتفرقة ممكن لذاته، و عود الحياة و العقل و القدرة إلى تلك الأجزاء بعد اجتماعها أيضا أمر ممكن لذاته، و اللّه تعالى قادر على الممكنات، فوجب أن يكون قادرا على إعادة التركيب و التأليف و الحياة و القدرة و العقل و الفهم إلى تلك الأجزاء، و هذا يدل دلالة واضحة على أن حشر الأجساد ممكن لا امتناع فيه ألبتة، و اللّه أعلم.
[سورة فصلت (41): الآيات 40 الى 42]
مفاتيح الغيب، ج27، ص: 568
اعلم أنه تعالى لما بيّن أن الدعوة إلى دين اللّه تعالى أعظم المناصب و أشرف المراتب، ثم بيّن أن الدعوة إلى دين اللّه تعالى، إنما تحصل بذكر دلائل التوحيد و العدل و صحة البعث و القيامة، عاد إلى تهديد من ينازع في تلك الآيات، و يحاول إلقاء الشبهات فيها، فقال: إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آياتِنا يقال ألحد الحافر و لحد إذا مال عن الاستقامة فحفر في شق، فالملحد هو المنحرف، ثم بحكم العرف اختص بالمنحرف عن الحق إلى الباطل، و قوله لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنا تهديد كما إذا قال الملك المهيب: إن الذين ينازعونني في ملكي أعرفهم، فإنه يكون ذلك تهديدا، ثم قال: أَ فَمَنْ يُلْقى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيامَةِ و هذا استفهام بمعنى التقرير، و الغرض التنبيه على أن الذين يلحدون في آياتنا يلقون في النار، و الذين يؤمنون بآياتنا يأتون آمنين يوم القيامة. ثم قال: اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ و هذا أيضا تهديد ثالث، و نظيره ما يقوله الملك المهيب عند الغضب الشديد إذا أخذ يعاتب بعض عبيده ثم يقول لهم اعملوا ما شئتم فإن هذا مما يدل على الوعيد الشديد.
ثم قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جاءَهُمْ و هذا أيضا تهديد، و في جوابه وجهان: أحدهما: أنه محذوف كسائر الأجوبة المحذوفة في القرآن على تقدير: إن الذين كفروا بالذكر لما جاءهم يجازون بكفرهم أو ما أشبه و الثاني: أن جوابه قوله أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ و الأول أصوب، و لما بالغ في تهديد الذين يلحدون في آيات القرآن أتبعه ببيان تعظيم القرآن، فقال: وَ إِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ و العزيز له معنيان أحدهما:
الغالب القاهر و الثاني: الذي لا يوجد نظيره، أما كون القرآن عزيزا بمعنى كونه غالبا، فالأمر كذلك لأنه بقوة حجته غلب على كل ما سواه، و أما كونه عزيزا بمعنى عديم النظير، فالأمر كذلك لأن الأولين و الآخرين عجزوا عن معارضته، ثم قال: لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ لا مِنْ خَلْفِهِ و فيه وجوه: الأول: لا تكذبه الكتب المتقدمة كالتوراة و الإنجيل و الزبور، و لا يجيء كتاب من بعده يكذبه الثاني: ما حكم القرآن بكونه حقا لا يصير باطلا، و ما حكم بكونه باطلا لا يصير حقا الثالث: معناه أنه محفوظ من أن ينقص منه فيأتيه الباطل من بين يديه، أو يزاد فيه فيأتيه الباطل من خلفه. و الدليل عليه قوله وَ إِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ* [الحجر: 9] فعل هذا الباطل هو الزيادة و النقصان الرابع: يحتمل أن يكون المراد أنه لا يوجد في المستقبل كتاب يمكن جعله معارضا له و لم يوجد فيما تقدم/ كتاب يصلح جعله معارضا له الخامس: قال صاحب «الكشاف» هذا تمثيل، و المقصود أن الباطل لا يتطرق إليه، و لا يجد إليه سبيلا من جهة من الجهات حتى يتصل إليه.
و اعلم أن لأبي مسلم الأصفهاني أن يحتج بهذه الآية على أنه لم يوجد النسخ فيه لأن النسخ إبطال فلو دخل النسخ فيه لكان قد أتاه الباطل من خلفه و إنه على خلاف هذه الآية.
ثم قال تعالى: تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ أي حكيم في جميع أحواله و أفعاله، حميد إلى جميع خلقه بسبب كثرة نعمه، و لهذا السبب جعل الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ [الفاتحة: 2] فاتحة كلامه، و أخبر أن خاتمة كلام أهل الجنة، و هو قوله الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ [الزمر: 75].
[سورة فصلت (41): الآيات 43 الى 46]
مفاتيح الغيب، ج27، ص: 569
و اعلم أنه تعالى لما هدد الملحدين في آيات اللّه، ثم بيّن شرف آيات اللّه، و علو درجة كتاب اللّه رجع إلى أمر رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلّم بأن يصبر على أذى قومه و أن لا يضيق قلبه بسبب ما حكاه عنهم في أول السورة من أنهم قالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ إلى قوله فَاعْمَلْ إِنَّنا عامِلُونَ [فصلت: 5]/ فقال: ما يُقالُ لَكَ إِلَّا ما قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ و فيه وجهان: الأول: و هو الأقرب أن المراد ما تقول لك كفار قومك إلا مثل ما قد قال للرسل كفار قومهم من الكلمات المؤذية و المطاعن في الكتب المنزّلة وَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ للمحقين وَ ذُو عِقابٍ أَلِيمٍ للمبطلين ففوض هذا الأمر إلى اللّه و اشتغل بما أمرت به و هو التبليغ و الدعوة إلى اللّه تعالى الثاني: أن يكون المراد ما قال اللّه لك إلا مثل ما قال لسائر الرسل و هو أنه تعالى أمرك و أمر كل الأنبياء بالصبر على سفاهة الأقوام فمن حقه أن يرجوه أهل طاعته و يخافه أهل معصيته، و قد ظهر من كلامنا في تفسير هذه السورة أن المقصود من هذه السورة، هو ذكر الأجوبة عن قولهم وَ قالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَ فِي آذانِنا وَقْرٌ وَ مِنْ بَيْنِنا وَ بَيْنِكَ حِجابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنا عامِلُونَ فتارة ينبه على فساد هذه الطريقة، و تارة يذكر الوعد و الوعيد لمن لم يؤمن بهذا القرآن و لم يعرض عنه، و امتد الكلام إلى هذا الموضع من أول السورة على الترتيب الحسن و النظم الكامل، ثم إنه تعالى ذكر جوابا آخر عن قولهم وَ قالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَ فِي آذانِنا وَقْرٌ فقال: وَ لَوْ جَعَلْناهُ قُرْآناً أَعْجَمِيًّا لَقالُوا لَوْ لا فُصِّلَتْ آياتُهُ ءَ أَعْجَمِيٌّ وَ عَرَبِيٌ و فيه مسائل:
المسألة الأولى: قرأ حمزة و الكسائي و أبو بكر عن عاصم: أ أعجمي بهمزتين على الاستفهام، و الباقون بهمزة واحدة و مدة على أصلهم في أمثاله، كقوله أَ أَنْذَرْتَهُمْ* [البقرة: 6] و نحوها على الاستفهام، و روي عن ابن عباس بهمزة واحدة، و أما القراءة بهمزتين: فالهمزة الأولى همزة إنكار، و المراد أنكروا و قالوا قرآن أعجمي و رسول عربي، أو مرسل إليه عربي، و أما القراءة بغير همزة الاستفهام، فالمراد الإخبار بأن القرآن أعجمي و المرسل إليه عربي.