کتابخانه تفاسیر
مفاتيح الغيب
الجزء الأول
سورة الفاتحة
[سورة الفاتحة(1): الآيات 1 الى 7]
مقدمة و ففيها فصول:
الكتاب الأول في العلوم المستنبطة من قوله: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
القسم الأول من هذا الكتاب في المباحث الأدبية المتعلقة بهذه الكلمة، و فيه أبواب.
القسم الثاني من هذا الكتاب المشتمل على تفسير(أعوذ بالله من الشيطان الرجيم) في المباحث النقلية و العقلية، و فيه أبواب: -.
الكتاب الثاني في مباحث بسم الله الرحمن الرحيم و فيه أبواب
الباب السابع في الأسماء الدالة على الصفات الحقيقية مع الإضافية، و فيه فصول:
الكتاب الثالث الكلام في سورة الفاتحة و في ذكر أسماء هذه السورة،
الباب الخامس في تفسير سورة الفاتحة، و فيه فصول
الكلام في تفسير مجموع هذه السورة، و فيه فصول
الجزء الثاني
سورة البقرة
الجزء الثالث
تتمة سورة البقرة
الجزء الرابع
تتمة سورة البقرة
الجزء الخامس
تتمة سورة البقرة
الجزء السادس
تتمة سورة البقرة
الجزء السابع
[سورة البقرة(2): الآيات 258 الى 259]
سورة آل عمران
الجزء الثامن
تتمة سورة آل عمران
الجزء التاسع
تتمة سورة آل عمران
سورة النساء
الجزء العاشر
تتمة سورة النساء
الجزء الحادي عشر
تتمة سورة النساء
سورة المائدة(5)
الجزء الثاني عشر
تتمة سورة المائدة
سورة الأنعام
الجزء الثالث عشر
تتمة سورة الأنعام
الجزء الرابع عشر
سورة الأعراف
الجزء الخامس عشر
تتمة سورة الأعراف
سورة الأنفال
الجزء السادس عشر
تتمة سورة التوبة
الجزء السابع عشر
سورة يونس
سورة هود
الجزء الثامن عشر
تتمة سورة هود
سورة يوسف
الجزء التاسع عشر
تتمة سورة الرعد
سورة إبراهيم
سورة الحجر
الجزء العشرون
تتمة سورة النحل
سورة الإسراء
الجزء الواحد و العشرون
تتمة سورة الإسراء
سورة الكهف
سورة مريم عليها السلام
الجزء الثاني و العشرون
سورة طه
سورة الأنبياء عليهم السلام
الجزء الثالث و العشرون
سورة الحج
سورة المؤمنون
سورة النور
الجزء الرابع و العشرون
تتمة سورة النور
سورة الفرقان
سورة الشعراء
سورة النمل
سورة القصص
الجزء الخامس و العشرون
تتمة سورة القصص
سورة العنكبوت
سورة الروم
سورة لقمان عليه السلام
سورة السجدة
سورة الأحزاب
سورة سبا
الجزء السادس و العشرون
سورة فاطر
سورة يس
سورة الصافات
سورة ص
سورة الزمر
الجزء السابع و العشرون
سورة المؤمن
سورة فصلت السجدة
سورة الشورى
سورة الزخرف
الجزء الثامن و العشرون
سورة الأحقاف
سورة محمد صلى الله عليه و سلم
سورة الفتح
سورة الحجرات
سورة ق
سورة الذاريات
سورة الطور
سورة النجم
الجزء التاسع و العشرون
تتمة سورة النجم
سورة القمر
سورة الرحمن
سورة الواقعة
سورة الحديد
سورة المجادلة
سورة الحشر
الجزء الثلاثون
سورة الملك
سورة القلم
سورة الحاقة
سورة المعارج
سورة نوح عليه السلام
سورة الجن
سورة المزمل عليه السلام
سورة المدثر
سورة القيامة
سورة الإنسان
سورة المرسلات
الجزء الواحد و الثلاثون
سورة النبأ
سورة النازعات
سورة عبس
سورة التكوير
سورة الانشقاق
سورة الأعلى
سورة الغاشية
سورة الفجر
سورة البلد
سورة الشمس
الجزء الثاني و الثلاثون
سورة العلق
سورة العاديات
مفاتيح الغيب، ج30، ص: 622
[سورة الحاقة (69): آية 7]
قوله تعالى: سَخَّرَها عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ وَ ثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً قال مقاتل: سلطها عليهم. و قال الزجاج:
أقلعها عليهم، و قال آخرون: أرسلها عليهم، هذه هي الألفاظ المنقولة عن المفسرين، و عندي أن فيه لطيفة، و ذلك لأن من الناس من قال: إن تلك الرياح إنما اشتدت، لأن اتصالا فلكيا نجوميا اقتضى ذلك، فقوله:
سَخَّرَها فيه إشارة إلى نفي ذلك المذهب، و بيان أن ذلك إنما حصل بتقدير اللّه و قدرته، فإنه لو لا هذه الدقيقة لما حصل منه التخويف و التحذير عن العقاب. و قوله: سَبْعَ لَيالٍ وَ ثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً الفائدة فيه أنه تعالى لو لم يذكر ذلك لما كان مقدار زمان هذا العذاب معلوما، فلما قال: سَبْعَ لَيالٍ وَ ثَمانِيَةَ أَيَّامٍ صار مقدار هذا الزمان معلوما، ثم لما كان يمكن أن يظن ظان أن ذلك العذاب كان متفرقا في هذه المدة أزال هذا الظن، بقوله:
حُسُوماً أي متتابعة متوالية، و اختلفوا في الحسوم على وجوه أحدها: و هو قول الأكثرين (حسوما)، أي متتابعة، أي هذه الأيام تتابعت عليهم بالريح المهلكة، فلم يكن فيها فتور و لا انقطاع، و على هذا القول: حسوم جمع حاسم. كشهود و قعود، و معنى هذا الحسم في اللغة القطع بالاستئصال، و سمي السيف حساما، لأنه يحسم العدو عما يريد، من بلوغ عداوته فلما كانت تلك الرياح متتابعة ما سكنت ساعة حتى أتت عليهم أشبه تتابعها عليهم تتابع فعل الحاسم في إعادة الكي، على الداء كرة بعد أخرى، حتى ينحسم و ثانيها: أن الرياح حسمت كل خير، و استأصلت كل بركة، فكانت حسوما أو حسمتهم، فلم يبق منهم أحد، فالحسوم على هذين القولين جمع حاسم و ثالثها: أن يكون الحسوم مصدرا كالشكور و الكفور، و على هذا التقدير فإما أن ينتصب بفعله مضمرا، و التقدير: يحسم حسوما، يعني استأصل استئصالا، أو يكون صفة، كقولك: ذات حسوم، أو يكون مفعولا له، أي سخرها عليهم للاستئصال، و قرأ السدي: حُسُوماً بالفتح حالا من الريح، أي سخرها عليهم مستأصلة، و قيل: هي أيام العجوز، و إنما سميت بأيام العجوز، لأن عجوزا من عاد توارت في سرب، فانتزعتها الريح في اليوم الثامن فأهلكتها، و قيل: هي أيام العجز و هي آخر الشتاء.
قوله تعالى: فَتَرَى الْقَوْمَ فِيها صَرْعى أي في مهابها، و قال آخرون: أي في تلك الليالي/ و الأيام صَرْعى جمع صريع. قال مقاتل: يعني موتى يريد أنهم صرعوا بموتهم، فهم مصرعون صرع الموت.
ثم قال: كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ أي كأنهم أصول نخل خالية الأجواف لا شيء فيها، و النخل يؤنث و يذكر، قال اللّه تعالى في موضع آخر: كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ [القمر: 20] و قرئ: (أعجاز نخيل)، ثم يحتمل أنهم شبهوا بالنخيل التي قلعت من أصلها، و هو إخبار عن عظيم خلقهم و أجسامهم و يحتمل أن يكون المراد به الأصول دون الجذوع، أي أن الريح قد قطعتهم حتى صاروا قطعا ضخاما كأصول النخل. و أما وصف النخل بالخواء، فيحتمل أن يكون وصفا للقوم، فإن الريح كانت تدخل أجوافهم فتصرعهم كالنخل الخاوية الجوف، و يحتمل أن تكون الخالية بمعنى البالية لأنها إذا بليت خلت أجوافها، فشبهوا بعد أن أهلكوا بالنخيل البالية ثم قال:
[سورة الحاقة (69): آية 8]
فَهَلْ تَرى لَهُمْ مِنْ باقِيَةٍ (8)
و فيه مسألتان:
مفاتيح الغيب، ج30، ص: 623
المسألة الأولى: في الباقية ثلاثة أوجه أحدها: إنها البقية و ثانيها: المراد من نفس باقية و ثالثها: المراد بالباقية البقاء، كالطاغية بمعنى الطغيان.
المسألة الثانية: ذهب قوم إلى أن المراد أنه لم يبق من نسل أولئك القوم أحد، و استدل بهذه الآية على قوله قال ابن جريج: كانوا سبع ليال و ثمانية أيام أحياء في عقاب اللّه من الريح، فلما أمسوا في اليوم الثامن ماتوا، فاحتملتهم الريح فألقتهم في البحر، فذاك هو قوله: فَهَلْ تَرى لَهُمْ مِنْ باقِيَةٍ و قوله: فَأَصْبَحُوا لا يُرى إِلَّا مَساكِنُهُمْ [الأحقاف: 25].
القصة الثانية قصة فرعون
[سورة الحاقة (69): آية 9]
وَ جاءَ فِرْعَوْنُ وَ مَنْ قَبْلَهُ وَ الْمُؤْتَفِكاتُ بِالْخاطِئَةِ (9)
أي و من كان قبله من الأمم التي كفرت كما كفر هو، و (من) لفظ عام و معناه خاص في الكفار دون المؤمنين، قرأ أبو عمرو و عاصم و الكسائي، و من قبله بكسر القاف و فتح الباء، قال سيبويه: قبل لما ولي الشيء تقول: ذهب قبل السوق، ولى قبلك حق، أي فيما يليك، و اتسع فيه حتى صار بمنزلة لي عليك، فمعنى مَنْ قَبْلَهُ أي من عنده من أتباعه و جنوده و الذي يؤكد هذه القراءة ما روي أن ابن مسعود و أبيا و أبا موسى قرءوا: و من تلقاءه روى عن أبي وحده أنه قرأ: و من معه أما قوله: وَ الْمُؤْتَفِكاتُ فقد تقدم تفسيرها، و هم الذين أهلكوا من قوم لوط، على معنى و الجماعات المؤتفكات، و قوله: بِالْخاطِئَةِ فيه وجهان الأول:
أن الخاطئة مصدر كالخطإ و الثاني: أن يكون المراد بالفعلة/ أو الأفعال ذات الخطأ العظيم.
[سورة الحاقة (69): آية 10]
فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رابِيَةً (10)
الضمير إن كان عائدا إلى فِرْعَوْنُ وَ مَنْ قَبْلَهُ [الحاقة: 9]، فرسول ربهم هو موسى عليه السلام، و إن كان عائدا إلى أهل المؤتفكات فرسول ربهم هو لوط، قال الواحدي: و الوجه أن يقال: المراد بالرسول كلاهما للخبر عن الأمتين بعد ذكرهما بقوله، فَعَصَوْا فيكون كقوله: إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ [الشعراء: 16] و قوله: فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رابِيَةً يقال: ربا الشيء يربو إذا زاد ثم فيه وجهان الأول: أنها كانت زائدة في الشدة على عقوبات سائر الكفار كما أن أفعالهم كانت زائدة في القبح على أفعال سائر الكفار الثاني: أن عقوبة آل فرعون في الدنيا كانت متصلة بعذاب الآخرة، لقوله: أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا ناراً [نوح: 25] و عقوبة الآخرة أشد من عقوبة الدنيا، فتلك العقوبة كأنها كانت تنمو و تربو.
القصة الثالثة قصة نوح عليه السلام
[سورة الحاقة (69): آية 11]
إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ حَمَلْناكُمْ فِي الْجارِيَةِ (11)
طغى الماء على خزانه فلم يدروا كم خرج و ليس ينزل من السماء قطرة قبل تلك الواقعة و لا بعدها إلا بكيل معلوم، و سائر المفسرين قالوا: طَغَى الْماءُ أي تجاوز حده حتى علا كل شيء و ارتفع فوقه، و حَمَلْناكُمْ أي حملنا آباءكم و أنتم في أصلابهم، و لا شك أن الذين خوطبوا بهذا هم أولاد الذين كانوا في
مفاتيح الغيب، ج30، ص: 624
السفينة، و قوله: فِي الْجارِيَةِ يعني في السفينة التي تجري في الماء، و هي سفينة نوح عليه السلام، و الجارية من أسماء السفينة، و منه قوله: وَ لَهُ الْجَوارِ [الرحمن: 24].
[سورة الحاقة (69): آية 12]
لِنَجْعَلَها لَكُمْ تَذْكِرَةً وَ تَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ (12)
قوله تعالى: لِنَجْعَلَها لَكُمْ تَذْكِرَةً الضمير في قوله: لِنَجْعَلَها إلى ماذا يرجع؟ فيه وجهان: الأول:
قال الزجاج إنه عائد إلى الواقعة التي هي معلومة، و إن كانت هاهنا غير مذكورة، و التقدير لنجعل نجاة المؤمنين و إغراق الكفرة عظة و عبرة الثاني: قال الفراء: لنجعل السفينة، و هذا ضعيف و الأول هو الصواب، و يدل على صحته قوله: وَ تَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ فالضمير في قوله: وَ تَعِيَها عائد إلى ما عاد إليه الضمير الأول، لكن الضمير في قوله: وَ تَعِيَها لا يمكن عوده إلى السفينة فكذا الضمير الأول.
قوله تعالى: وَ تَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ فيه مسألتان:
المسألة الأولى: يقال: لكل شيء حفظته في نفسك وعيته و وعيت العلم، و وعيت ما قلت و يقال: لكل ما حفظته في غير نفسك: أوعيته يقال: أوعيت المتاع في الوعاء، و منه قول الشاعر:
/ و الشر أخبث ما أوعيت من زاد و اعلم أن وجه التذكير في هذا أن نجاة قوم من الغرق بالسفينة و تغريق من سواهم يدل على قدرة مدبر العالم و نفاذ مشيئته، و نهاية حكمته و رحمته و شدة قهره و سطوته، و
عن النبي صلى اللّه عليه و سلم عند نزول هذه الآية: «سألت اللّه أن يجعلها أذنك يا علي، قال علي: فما نسيت شيئا بعد ذلك، و ما كان لي أن أنسى»
فإن قيل: لم قال أُذُنٌ واعِيَةٌ على التوحيد و التنكير؟ قلنا: للإيذان بأن الوعاة فيهم قلة، و لتوبيخ الناس بقلة من يعي منهم، و للدلالة على أن الأذن الواحدة إذا وعت و عقلت عن اللّه فهي السواد الأعظم عند اللّه، و أن ما سواه لا يلتفت إليهم، و إن امتلأ العالم منهم.
المسألة الثانية: قراءة العامة: وَ تَعِيَها بكسر العين، و روى عن ابن كثير وَ تَعِيَها ساكنة العين كأنه جعل حرف المضارعة مع ما بعده بمنزلة فخذ، فأسكن كما أسكن الحرف المتوسط من فخذ و كبد و كتف، و إنما فعل ذلك لأن حرف المضارعة لا ينفصل من الفعل، فأشبه ما هو من نفس الكلمة، و صار كقول من قال: و هو و هي و مثل ذلك قوله: وَ يَتَّقْهِ [النور: 52] في قراءة من سكن القاف.
و اعلم أنه تعالى لما حكى هذه القصص الثلاث و نبه بها عن ثبوت القدرة و الحكمة للصانع فحينئذ ثبت بثبوت القدرة إمكان القيامة، و ثبت بثبوت الحكمة إمكان وقوع القيامة.
و لما ثبت ذلك شرع سبحانه في تفاصيل أحوال القيامة فذكر أولا مقدماتها. فقال:
[سورة الحاقة (69): آية 13]
فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ واحِدَةٌ (13)
و فيه مسائل:
المسألة الأولى: قرئ نَفْخَةٌ بالرفع و النصب، وجه الرفع أسند الفعل إليها، و إنما حسن تذكير الفعل للفصل، و وجه النصب أن الفعل مسند إلى الجار و المجرور ثم نصب نَفْخَةٌ على المصدر.
مفاتيح الغيب، ج30، ص: 625
المسألة الثانية: المراد من هذه النفخة الواحدة هي النفخة الأولى لأن عندها يحصل خراب العالم، فإن قيل: لم قال بعد ذلك يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ [الحاقة: 18] و العرض إنما يكون عند النفخة الثانية؟ قلنا: جعل اليوم اسما للحين الواسع الذي تقع فيه النفختان، و الصعقة و النشور، و الوقوف و الحساب، فلذلك قال: يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ كما تقول: جئته عام كذا، و إنما كان مجيئك في وقت واحد من أوقاته.
[سورة الحاقة (69): آية 14]
وَ حُمِلَتِ الْأَرْضُ وَ الْجِبالُ فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً (14)
فيه مسألتان:
المسألة الأولى: رفعت الأرض و الجبال، إما بالزلزلة التي تكون في القيامة، و إما بريح بلغت من قوة عصفها أنها تحمل الأرض و الجبال، أو بملك من الملائكة أو بقدرة اللّه من غير/ سبب فدكتا، أي فدكت الجملتان جملة الأرض و جملة الجبال، فضرب بعضها ببعض، حتى تندق و تصير كثيبا مهيلا و هباء منبثا و الدك أبلغ من الدق، و قيل: فبسطتا بسطة واحدة فصارتا أرضا لا ترى فيها عوجا و لا أمتا من قولك: اندك السنام إذا انفرش، و بعير أدك و ناقة دكاء و منه الدكان.
المسألة الثانية: قال الفراء: لا يجوز في دكة هاهنا إلا النصب لارتفاع الضمير في دكتا، و لم يقل: فدككن لأنه جعل الجبال كالواحدة و الأرض كالواحدة، كما قال: أَنَّ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً [الأنبياء: 30] و لم يقل: كن ثم قال تعالى:
[سورة الحاقة (69): الآيات 15 الى 16]
فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْواقِعَةُ (15) وَ انْشَقَّتِ السَّماءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ واهِيَةٌ (16)
أي فيومئذ قامت القيامة الكبرى و انشقت السماء لنزول الملائكة. فَهِيَ يَوْمَئِذٍ واهِيَةٌ أي مسترخية ساقطة القوة كالعهن المنفوش بعد ما كانت محكمة شديدة.
[سورة الحاقة (69): آية 17]
وَ الْمَلَكُ عَلى أَرْجائِها وَ يَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ (17)
ثم قال تعالى: وَ الْمَلَكُ عَلى أَرْجائِها و فيه مسائل:
المسألة الأولى: قوله: وَ الْمَلَكُ لم يرد به ملكا واحدا، بل أراد الجنس و الجمع.
المسألة الثانية: الأرجاء في اللغة النواحي يقال: رجا و رجوان و الجمع الأرجاء، و يقال ذلك لحرف البئر و حرف القبر و ما أشبه ذلك، و المعنى أن السماء إذا انشقت عدلت الملائكة عن مواضع الشق إلى جوانب السماء، فإن قيل: الملائكة يموتون في الصعقة الأولى، لقوله: فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ مَنْ فِي الْأَرْضِ [الزمر: 68] فكيف يقال: إنهم يقفون على أرجاء السماء؟ قلنا: الجواب من وجهين: الأول: أنهم يقفون لحظة على أرجاء السماء ثم يموتون الثاني: أن المراد الذين استثناهم اللّه في قوله: إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ [الزمر: 68].
قوله تعالى: وَ يَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ فيه مسائل:
المسألة الأولى: هذا العرش هو الذي أراده اللّه بقوله الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ [غافر: 7] و قوله:
مفاتيح الغيب، ج30، ص: 626
وَ تَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ [الزمر: 75].
المسألة الثانية: الضمير في قوله: فَوْقَهُمْ إلى ما ذا يعود؟ فيه وجهان الأول: و هو الأقرب أن المراد فوق الملائكة الذين هم على الأرجاء و المقصود التمييز بينهم و بين الملائكة الذين هم حملة العرش الثاني: قال مقاتل: يعني أن الحملة يحملون العرش فوق رؤوسهم. و [مجيء] الضمير قبل الذكر جائز كقوله: في بيته يؤتي الحكم.
المسألة الثالثة: نقل عن الحسن رحمه اللّه أنه قال: لا أدري ثمانية أشخاص أو ثمانية آلاف أو ثمانية صفوف أو ثمانية آلاف صف. و اعلم أن حمله على ثمانية أشخاص أولى لوجوه: أحدها: ما
روى عن رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم: «هم اليوم أربعة فإذا كان يوم القيامة أيدهم اللّه بأربعة آخرين فيكونون ثمانية»
و
يروى: «ثمانية أملاك أرجلهم في تخوم الأرض السابعة و العرش فوق رؤوسهم و هم مطرقون مسبحون»
[و قيل: بعضهم على صورة الإنسان] «1» و قيل: بعضهم على صورة الأسد و بعضهم على صورة الثور و بعضهم على صورة النسر، و
روي ثمانية أملاك في صورة الأوعال ما بين أظلافها إلى ركبها مسيرة سبعين عاما،
و عن شهر بن حوشب أربعة منهم يقولون: سبحانك اللهم و بحمدك لك الحمد على عفوك بعد قدرتك، و أربعة يقولون: سبحانك اللهم و بحمدك لك الحمد على حلمك بعد علمك الوجه الثاني: في بيان أن الحمل على ثمانية أشخاص أولى من الحمل على ثمانية آلاف و ذلك لأن الثمانية أشخاص لا بد منهم في صدق اللفظ، و لا حاجة في صدق اللفظ إلى ثمانية آلاف، فحينئذ يكون اللفظ دالا على ثمانية أشخاص، و لا دلالة فيه على ثمانية آلاف فوجب حمله على الأول الوجه الثالث: و هو أن الموضع موضع التعظيم و التهويل فلو كان المراد ثمانية آلاف، أو ثمانية صفوف لوجب ذكره ليزداد التعظيم و التهويل، فحيث لم يذكر ذلك علمنا أنه ليس المراد إلا ثمانية أشخاص.
المسألة الرابعة: قالت المشبهة: لو لم يكن اللّه في العرش لكان حمل العرش عبثا عديم الفائدة، و لا سيما و قد تأكد ذلك بقوله تعالى: يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ [الحاقة: 18] و العرض إنما يكون لو كان الإله حاصلا في العرش، أجاب أهل التوحيد عنه بأنه لا يمكن أن يكون المراد منه أن اللّه جالس في العرش و ذلك لأن كل من كان حاملا للعرش كان حاملا لكل ما كان في العرش، فلو كان الإله في العرش للزم الملائكة أن يكونوا حاملين للّه تعالى و ذلك محال، لأنه يقتضي احتياج اللّه إليهم، و أن يكونوا أعظم قدرة من اللّه تعالى و كل ذلك كفر صريح، فعلمنا أنه لا بد فيه من التأويل فنقول: السبب في هذا الكلام هو أنه تعالى خاطبهم بما يتعارفونه، فخلق لنفسه بيتا يزورونه، و ليس أنه يسكنه، تعالى اللّه عنه و جعل في ركن البيت حجرا هو يمينه في الأرض، إذ كان من شأنهم أن يعظموا رؤساءهم بتقبيل أيمانهم، و جعل على العباد حفظة ليس لأن النسيان يجوز عليه سبحانه، لكن هذا هو المتعارف فكذلك لما كان من شأن الملك إذا أراد محاسبة عماله جلس إليهم على سرير و وقف الأعوان حوله أحضر اللّه يوم القيامة عرشا و حضرت الملائكة و حفت به، لا لأنه يقعد عليه أو يحتاج إليه بل لمثل ما قلناه في البيت و الطواف.
[سورة الحاقة (69): آية 18]
يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفى مِنْكُمْ خافِيَةٌ (18)
(1) زيادة من الكشاف 4/ 152 ط. دار الفكر.
مفاتيح الغيب، ج30، ص: 627
قوله تعالى: يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ العرض عبارة عن المحاسبة و المساءلة، شبه ذلك بعرض السلطان العسكر لتعرف أحواله، و نظيره قوله: وَ عُرِضُوا عَلى رَبِّكَ صَفًّا [الكهف: 48] و
روى: «أن في القيامة/ ثلاث عرضات، فأما عرضتان فاعتذار و احتجاج و توبيخ، و أما الثالثة ففيها تنثر الكتب فيأخذ السعيد كتابه بيمينه و الهالك كتابه بشماله».
ثم قال: لا تَخْفى مِنْكُمْ خافِيَةٌ و فيه مسألتان:
المسألة الأولى: في الآية وجهان الأول: تقرير الآية: تعرضون لا يخفى أمركم فإنه عالم بكل شيء، و لا يخفى عليه منكم خافية، و نظيره قوله: لا يَخْفى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ [غافر: 16] فيكون الغرض منه المبالغة في التهديد، يعني تعرضون على من لا يخفى عليه شيء أصلا الوجه الثاني: المراد لا يخفى يوم القيامة ما كان مخفيا منكم في الدنيا، فإنه تظهر أحوال المؤمنين فيتكامل بذلك سرورهم، و تظهر أحوال أهل العذاب فيظهر بذلك حزنهم و فضيحتهم، و هو المراد من قوله: يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ، فَما لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَ لا ناصِرٍ [الطارق: 9، 10] و في هذا أعظم الزجر و الوعيد و هو خوف الفضيحة.
المسألة الثانية: قراءة العامة لا تَخْفى بالتاء المنقطة من فوقها، و اختار أبو عبيدة الياء و هي قراءة حمزة، و الكسائي قال: لأن الياء تجوز للذكر و الأنثى و التاء لا تجوز إلا للأنثى، و هاهنا يجوز إسناد الفعل إلى المذكر و هو أن يكون المراد بالخافية شيء ذو خفاء. و أيضا فقد وقع الفصل هاهنا بين الاسم و الفعل بقوله:
و اعلم أنه تعالى لما ذكر ما ينتهي هذا العرض إليه قال:
[سورة الحاقة (69): آية 19]
فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ (19)
و فيه مسألتان:
المسألة الأولى: هاء صوت يصوت به، فيفهم منه معنى خذ كأف و حس، و قال أبو القاسم الزجاجي و فيه لغات و أجودها ما حكاه سيبويه عن العرب فقال: و مما يؤمر به من المبنيات قولهم: هاء يا فتى، و معناه تناول و يفتحون الهمزة و يجعلون فتحها على المذكر كما قالوا: هاك يا فتى، فتجعل فتحة الكاف علامة المذكر و يقال للإثنين: هاؤما، و للجمع هاؤموا و هاؤم و الميم في هذا الموضع كالميم في أنتما و أنتم و هذه الضمة التي تولدت في همزة هاؤم إنما هي ضمة ميم الجمع لأن الأصل فيه هاؤمو و أنتمو فاشبعوا الضمة و حكموا للإثنين بحكم الجمع لأن الإثنين عندهم في حكم الجمع في كثير من الأحكام.
المسألة الثانية: إذا اجتمع عاملان على معمول واحد، فإعمال الأقرب جائز بالاتفاق و إعمال الأبعد هل يجوز أم لا؟ ذهب الكوفيون إلى جوازه و البصريون منعوه، و احتج البصريون على قولهم: بهذه الآية، لأن قوله: هاؤُمُ ناصب، و قوله: اقْرَؤُا ناصب أيضا، فلو كان/ الناصب هو الأبعد، لكان التقدير: هاؤم كتابيه، فكان يجب أن يقول: اقرءوه، و نظيره آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً [الكهف: 96] و اعلم: أن هذه الحجة ضعيفة لأن هذه الآية دلت على أن الواقع هاهنا إعمال الأقرب و ذلك لا نزاع فيه إنما النزاع في أنه هل يجوز إعمال الأبعد أم لا؟
و ليس في الآية تعرض لذلك، و أيضا قد يحذف الضمير لأن ظهوره يغني عن التصريح به كما في قوله:
مفاتيح الغيب، ج30، ص: 628
وَ الذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَ الذَّاكِراتِ [الأحزاب: 35] فلم لا يجوز أن يكون هاهنا كذلك، ثم احتج الكوفيون بأن العامل الأول متقدم في الوجود على العامل الثاني، و العامل الأول حين وجد اقتضى معمولا لامتناع حصول العلة دون المعمول، فصيرورة المعمول معمولا للعامل الأول متقدم على وجود العامل الثاني، و العامل الثاني إنما وجد بعد أن صار معمولا للعامل الأول فيستحيل أن يصير أيضا معمولا للعامل الثاني، لامتناع تعليل الحكم الواحد بعلتين، و لامتناع تعليل ما وجد قبل بما يوجد بعد، و هذه المسألة من لطائف النحو.
المسألة الثالثة: الهاء للسكت في كِتابِيَهْ و كذا في حِسابِيَهْ [الحاقة: 20] و مالِيَهْ [الحاقة: 28] و سُلْطانِيَهْ [الحاقة: 29] و حق هذه الهاءات أن تثبت في الوقف و تسقط في الوصل، و لما كانت هذه الهاءات مثبتة في المصحف و المثبتة في المصحف لا بد و أن تكون مثبتة في اللفظ، و لم يحسن إثباتها في اللفظ إلا عند الوقف، لا جرم استحبوا الوقف لهذا السبب. و تجاسر بعضهم فأسقط هذه الهاءات عند الوصل، و قرأ ابن محيصن بإسكان الياء بغيرها. و قرأ جماعة بإثبات الهاء في الوصل و الوقف جميعا لاتباع المصحف.
المسألة الرابعة: اعلم أنه لما أوتي كتابيه بيمينه، ثم إنه يقول: هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ دل ذلك على أنه بلغ الغاية في السرور لأنه لما أعطى كتابه بيمينه علم أنه من الناجين و من الفائزين بالنعيم، فأحب أن يظهر ذلك لغيره حتى يفرحوا بما ناله. و قيل: يقول ذلك لأهل بيته و قرابته.
ثم إنه تعالى حكى عنه أنه يقول:
[سورة الحاقة (69): آية 20]
إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ (20)
و فيه وجوه الأول: المراد منه اليقين الاستدلالي و كل ما ثبت بالاستدلال فإنه لا ينفك من الخواطر المختلفة، فكان ذلك شبيها بالظن الثاني: التقدير: إني كنت أظن أني ألاقي حسابي فيؤاخذني اللّه بسيئاتي، فقد تفضل علي بالعفو و لم يؤاخذني بها فهاؤم اقرؤا كتابيه و ثالثها:
روى أبو هريرة أنه عليه السلام قال: «إن الرجل يؤتى به يوم القيامة و يؤتى كتابه فتظهر حسناته في ظهر كفه و تكتب سيئاته في بطن كفه فينظر إلى سيئاته فيحزن، فيقال له: اقلب كفك فينظر فيه فيرى حسناته فيفرح،
ثم يقول: هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ إِنِّي ظَنَنْتُ - عند النظرة الأولى- أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ على سبيل الشدة، و أما الآن فقد فرّج اللّه عني ذلك الغم، و أما في حق الأشقياء فيكون ذلك على الضد مما ذكرنا و رابعها: ظننت: أي علمت، و إنما أجرى مجرى العلم. لأن الظن الغالب يقام مقام العلم في/ العادات و الأحكام، يقال: أظن ظنا كاليقين أن الأمر كيت و كيت و خامسها: المراد إني ظننت في الدنيا أن بسبب الأعمال التي كنت أعملها في الدنيا سأصل في القيامة إلى هذه الدرجات و قد حصلت الآن على اليقين فيكون الظن على ظاهره، لأن أهل الدنيا لا يقطعون بذلك.
ثم بين تعالى عاقبة أمره فقال:
[سورة الحاقة (69): آية 21]
فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ (21)
و فيه مسألتان: