کتابخانه تفاسیر
مواهب الرحمان في تفسير القرآن، ج1، ص: 20
بحث فقهي:
البسملة في أول كل سورة إما جزء منها أو من السورة التي تسبقها، أو آية متكررة في القرآن، أو من غيره، ذكرت تبركا.
و الكل واضح البطلان كما يأتي سوى الأول و قد وردت النصوص على ذلك فتكون البسملة جزء من كل سورة التي افتتحت بها إلّا في سورة التوبة فإنه لا بسملة لها كما ستعرف.
فعن علي (عليه السّلام): «البسملة في أول كل سورة آية منها و إنما كان يعرف انقضاء السورة بنزولها ابتداء للأخرى و ما أنزل اللّه تعالى كتابا من السماء إلّا و هي فاتحته».
و عنه (عليه السّلام) أيضا: «أنها من الفاتحة و أنّ رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) كان يقرأها و يعدها آية منها و يقول فاتحة الكتاب هي السبع المثاني».
و عن أبي جعفر (عليه السّلام): «سرقوا أكرم آية من كتاب اللّه بسم اللّه الرحمن الرحيم».
و عن الرضا (عليه السّلام): «ما بالهم قاتلهم اللّه عمدوا إلى أعظم آية في كتاب اللّه فزعموا أنّها بدعة إذا أظهروها».
و في سنن أبي داود قال ابن عباس: «إن رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) كان لا يعرف فصل السورة- أي انقضاءها- حتّى ينزل عليه بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ».
و في صحيح ابن مسلم عن أنس قال رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله): «أنزل عليّ آنفا سورة فقرأ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ »
. و روى الدارقطني عن أبي هريرة: «إذا قرأتم الحمد فاقرؤا بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ فإنّها أم القرآن أم الكتاب، و السبع المثاني و بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ إحدى آياتها».
و الأخبار في كونها جزء من سور القرآن كثيرة من الفريقين.
مواهب الرحمان في تفسير القرآن، ج1، ص: 21
و يستحب الجهر بالبسملة مطلقا كما ورد النص بذلك و قد جعل ذلك من علامات المؤمن كما في الحديث و لعل السر في ذلك هو أن الجهر بها إجهار بالحق و إعلان لحقيقة الواقع.
كما تستحب الاستعاذة باللّه من الشيطان عند قراءة القرآن لقوله تعالى: فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ (*) إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (*) إِنَّما سُلْطانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَ الَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ [سورة النحل، الآية: 97- 100] بل يستفاد من بعض الآيات لا سيما سورة الناس استحباب الاستعاذة مطلقا. و هي إما قولية أو فعلية. و اجتماعهما في واحد هو من الكمال، و سيأتي التفصيل.
بحث روائي:
عن نبينا الأعظم فيما رواه الفريقان: «كل أمر ذي بال لم يبدأ فيه بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ فهو أبتر»
. و عن الصادق عليه السلام: «لا تدعها (أي البسملة) و لو كان بعدها شعر».
أقول: يحمل الخبر الأول على الأفضلية جمعا بينهما.
و عن أبي جعفر (عليه السّلام): «أول كل كتاب نزل من السماء بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ».
و عن الرضا (عليه السّلام): «إنها أقرب إلى اسم اللّه الأعظم من ناظر العين الى سوادها».
أقول: يأتي ما يتعلق بالاسم الأعظم و مراتبه. و آثاره و من هو العالم به.
و عن أبي جعفر (عليه السّلام): «إذا قرأتها فلا تبال أن لا تستعيذ و إذا قرأتها سترتك ما بين السماء و الأرض».
أقول: و يظهر منه إنه عند دوران الأمر بين البسملة و الاستعاذة تكون البسملة أولى.
و عن الصادق (عليه السّلام): «من تركها من شيعتنا امتحنه اللّه بمكروه
مواهب الرحمان في تفسير القرآن، ج1، ص: 22
لينبهه على الشكر و الثناء و يمحو عنه و صمة تقصيره عند تركه».
أقول: يظهر منه و من جملة من الأخبار ان ترك المندوب و فعل المكروه فيه آثار خاصة فضلا عن ترك الواجب و فعل المحرم.
و عن الرضا (عليه السّلام): «إنها الآية التي قال اللّه عزّ و جل: وَ إِذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلى أَدْبارِهِمْ نُفُوراً ».
و عنه (عليه السّلام) أيضا في تفسير البسملة: «يعني أسم بسمة من سمات اللّه تعالى و هي العبادة. قيل له: ما السمة؟ قال (عليه السّلام): العلامة».
أقول: العلامات الدالة على اللّه عزّ و جل كثيرة فإما جوهر خارجي كالمشاعر العظام، أو عمل خارجي كالصّلاة، أو ذكر قلبي كالتفكر في عظمة اللّه تعالى و التوجه إليه، أو ذكر لفظي كالبسملة و نحوها.
و في رواية أنّ كل واحد من أجزاء البسملة إشارة إلى اسم من أسمائه تعالى
فعن الصادق (عليه السّلام): «الباء بهاء اللّه، و السين سناء اللّه، و الميم مجد اللّه (ملك اللّه) و اللّه إله كل شيء الرحمن بجميع خلقه الرحيم بالمؤمنين خاصة».
أقول: المراد ببهاء اللّه جماله و جلاله و السناء بمعنى الرفعة، و أشار (عليه السّلام) في هذا التفسير إلى علم الحروف و هو علم شريف إلّا أنّه مكنون عند أهله و سيأتي البحث عنه إن شاء اللّه تعالى.
و عن نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله): «إنّ للّه عزّ و جل مائة رحمة أنزل منها واحدة إلى الأرض فقسمها بين خلقه فبها يتعاطفون و يتراحمون ادّخر تسعا و تسعين لنفسه يرحم بها عباده يوم القيامة».
أقول: رواه الفريقان.
و عن علي (عليه السّلام): «الرحمن العاطف على خلقه بالرزق لا ينقطع عنهم مواد رزقه و إن انقطعوا عن طاعته».
مواهب الرحمان في تفسير القرآن، ج1، ص: 23
أقول: المراد من مواد الرزق أسبابه.
و عن الصادق (عليه السّلام): «الرحمن اسم خاص لصفة عامة، و الرحيم اسم عام لصفة خاصة».
أقول: اسم خاص أي لا يطلق على غيره تعالى، و الصفة العامة لأن رحمته تعالى وسعت كل شيء، و الرحيم اسم عام لإطلاقه على غيره تعالى أيضا و الصفة الخاصة يعني مختص بالمؤمنين في الآخرة و تقدم أن هذا الإختصاص إضافي أي أن أفضل أقسام الرحيمية إنما تكون للمؤمنين فقط.
[سورة الفاتحة (1): الآيات 2 الى 4]
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (2) الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (3) مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4)
قوله تعالى: الْحَمْدُ لِلَّهِ : الألف و اللام للجنس أو الاستغراق، و المعنى واحد و الفرق بالاعتبار فإذا لوحظ الحمد من حيث طبعه و ذاته الشامل لجميع ما يدخل تحته من الأفراد يطلق عليه الجنس و إذا لوحظ من حيث الأفراد فهو استغراق، فالحقيقة واحدة و الفرق بالإجمال و التفصيل. و على أي تقدير يفيد الانحصار به تعالى، كما سيأتي.
التفسير
الحمد: هو الثناء على الجميل الاختياري، و المعنى أنّ كل حمد يصدر من أي حامد اختياريا كان أو غير اختياري (تكويني) فهو للّه تعالى لأنّ الكل مخلوق و مربوب له عزّ و جل فهو الخالق و المدبر لجميع ما سواه فيرجع ما سواه إليه سبحانه، قال تعالى: أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ [سورة الشورى، الآية: 53] فكما أنه تعالى مبدأ الكل يستلزم أن يكون حمد الكل له، و في الآيات دلالات واضحة عليه، قال تعالى: لَهُ الْمُلْكُ وَ لَهُ الْحَمْدُ [سورة التغابن، الآية: 1] و قال تعالى: وَ لَهُ الْحَمْدُ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ [سورة الروم، الآية: 18]، و قال تعالى: لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولى وَ الْآخِرَةِ [سورة القصص، الآية: 70].
ثم إنّ هناك عناوين أربعة: الحمد، و المدح، و الشكر، و التسبيح.
و نسب إلى أهل اللغة و جمع من الأدباء و المفسرين أنّ الأول- هو الثناء باللسان
مواهب الرحمان في تفسير القرآن، ج1، ص: 24
على الجميل الاختياري، و الثاني- هو الثناء باللسان على الجميل و لو لم يكن.
اختياريا، كما في قولك: مدحت اللؤلؤ على صفائها، و النجوم اللامعة على جلائها و بهائها، فيكون الفرق بينهما بالعموم و الخصوص. و لم يرد لفظ المدح في القرآن الكريم، كما أنّه لم يستعمل الحمد فيه إلّا للّه تبارك و تعالى. و الثالث ما أنبأ عن عظمة المنعم سواء أ كان بالقلب أو اللسان أو الأركان، فالتفكر في عظمته تعالى شكر له و ذكره باللسان و فعل الصّلاة شكر له أيضا، فالحمد أعم من الشكر من ناحية المتعلق، لأنّه الجميل الاختياري سواء أ كان للحامد أم لغيره، و أخص منه من ناحية المورد لأنّ مورده اللسان فقط في الإنسان، و الشكر بالعكس فإنّ متعلقه الإنعام على الشاكر فقط و مورده يعم القلب و اللسان و الأركان. و قد ورد الشكر في القرآن بالنسبة إليه تعالى كثيرا، قال تعالى:
وَ اشْكُرُوا لِي وَ لا تَكْفُرُونِ [سورة البقرة، الآية: 152]، و قال تعالى:
وَ اشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ [سورة البقرة، الآية: 172]، و قد يكون من اللّه عزّ و جل لعباده قال تعالى: فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً [سورة الإسراء، الآية: 19]، و قال تعالى: وَ كانَ اللَّهُ شاكِراً عَلِيماً [سورة النساء، الآية: 147]. و المراد بشكره تعالى هو الجزاء على الخير سواء كان في الدنيا، أو في الآخرة أو فيهما معا. كما يقع من الخلق للخلق قال تعالى: أَنِ اشْكُرْ لِي وَ لِوالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ [سورة لقمان، الآية: 14]. و التسبيح هو التنزيه عن كل نقص مطلقا و يختص ذلك باللّه تعالى كاختصاص الحمد به تعالى، قال تعالى:
سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ [سورة الصافات، الآية: 159]، و قال تعالى:
وَ إِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَ لكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ [الإسراء، الآية: 44] و يأتي التفصيل. هذا ما هو المعروف بينهم.
و هنا وجه آخر و هو أن مادة (ح م د) مع مادة (م د ح) واحدة في أصل المواد، و إنما الاختلاف بالتقديم و التأخير و هذا الاختلاف أوجب اختصاص لفظ الحمد باللّه تعالى، و إطلاق المدح على غيره أيضا، فيكون لفظ الحمد كلفظ (اللّه، و الرحمن) مختصا به تعالى فلا ينبغي إطلاقه بالنسبة إلى غيره عزّ و جل و لو أطلق يكون بمعنى المدح، بخلاف المدح فإنه يطلق على غيره
مواهب الرحمان في تفسير القرآن، ج1، ص: 25
تعالى إطلاقا شائعا هذا من ناحية الحصر اللفظي.
و أما من ناحية الحصر المعنوي فلا ريب في أن الممكنات له و منه و به تعالى و قد ثبت في محله أن كل ما بالغير يكون بذاته و كماله منه فكمال الكل و محمودية الكل ترجع إليه.
ثم إنّ الحمد يكون من اللّه تعالى لذاته المقدسة و هو كثير في القرآن، قال تعالى: وَ لَهُ الْحَمْدُ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ [سورة الروم، الآية:
18]، و قال تعالى: الْحَمْدُ لِلَّهِ فاطِرِ السَّماواتِ [سورة فاطر، الآية: 1] و قال تعالى: فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّماواتِ وَ رَبِّ الْأَرْضِ [سورة الجاثية، الآية:
36].
و يكون من خلقه له تعالى: وَ قالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا [سورة الأعراف، الآية: 43].
و أما التسبيح فيقع منه تعالى و من خلقه له، و لكن لا يقع من الخلق للخلق، كما يأتي التفصيل.
قوله تعالى: رَبِّ الْعالَمِينَ : لهذا الاسم [رب] الشريف منزلة عظيمة في الكتب السماوية لا سيما القرآن المهيمن على جميعها فهو من أمهات الأسماء المقدسة كالحي، و القيوم بل هو الأم وحده، لأنه ينطوي فيه الخالق و العليم و القدير و المدبر و الحكيم و غيرها، فإنه غير الخلق كما يستفاد من قوله تعالى: رَبُّ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَ [سورة الأنبياء، الآية: 56] أي خلقهنّ.
و قد ذكر بعض المفسرين تبعا لجمع من اللغويين أنّ الرب بمعنى المالك و الملك أو الصاحب. لكن التدبر في استعمالات هذا اللفظ يعطي أن الملك شيء و ربانيته شيء آخر قال تعالى: ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ [سورة الزمر، الآية: 6] و قال تعالى بِرَبِّ النَّاسِ مَلِكِ النَّاسِ إِلهِ النَّاسِ [سورة النّاس: الآية: 4] فإن فيه خصوصية- ليست هي في المالك و الملك و الصاحب- و هي الربوبية الحقيقية الناشئة عن الحكمة الكاملة التي لا يتصور
مواهب الرحمان في تفسير القرآن، ج1، ص: 26
النقص فيها بوجه، فالتكوين شيء و تنظيم عالم التكوين بتربيبه على النظام الأحسن شيء آخر، قال تعالى: وَ هُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ (سورة الأنعام، الآية: 164]. و يدل على ذلك مضافا إلى ما ذكر عدم صحة استعمال كل واحد منها مقام الآخر في الاستعمالات الصحيحة إلّا بالعناية.
و على أية حال فإنّ الرب مجمع جميع أسماء أفعال اللّه المقدسة لأن جميع أفعاله تبارك و تعالى متشعبة من جهة تدبيره تعالى، و تربيبه في كل موجود بحسبه فالرب مظهر الرحمة و الخلق و القدرة و التدبير و الحكمة فهو الشامل لما سواه تعالى، فإنهم المربوبون له تعالى على اختلاف مراتبهم.
فكم فرق بين الربوبية المتعلقة برسوله الأكرم (صلّى اللّه عليه و آله) أو سائر الأنبياء العظام أو الملائكة المقربين و ما تعلق بسائر النّاس.
فالربوبية لها مراتب تختلف باختلاف مراتب المربوب و المتعلق، قال تعالى:
اقْرَأْ وَ رَبُّكَ الْأَكْرَمُ [العلق، الآية 3]، و قال تعالى: وَ تَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ (سورة الزمر، الآية: 75] و قد ورد في الأثر عن الأئمة الهداة (عليهم السّلام): «رب الملائكة و الروح».
و قد قرن هذا اللفظ في القرآن الكريم بما يفيد عظمته و جلالته قال تعالى: سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ [سورة الصّافات، الآية: 180]، و قال تعالى: وَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ [سورة المؤمنون، الآية: 86]، و قال تعالى: اللَّهَ رَبَّكُمْ وَ رَبَّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ [سورة الصافات، الآية: 126]، و قال تعالى: سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ [سورة يس، الآية: 58]، و قال تعالى: بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَ رَبٌّ غَفُورٌ [سورة سبأ، الآية: 15] إلى غير ذلك من الآيات المباركة.