کتابخانه تفاسیر
مواهب الرحمان في تفسير القرآن، ج1، ص: 38
المصلين، أو باعتبار من معه في الاعتقاد رجاء أن يكون فيهم من يقبل عمله فيقبل منه أيضا، و لأجل تصغير ما يصدر عنه من العمل فإذا التفت إلى أن الكل يعبدونه و يستعينون به عزّ و جل فلا يغتر به و لا يحسب لنفسه وزنا.
و الأولى أن يقال: إن لفظ الجمع فيهما للتحريض إلى حفظ وحدة المجتمع الذين يعبدونه تعالى و يستعينون به فكما انهم مجتمعون في وحدة المعبود و العبادة و المستعان به لا بد أن يكونوا كذلك في جميع شؤونهم كما تدل عليه آيات كثيرة، و سيأتي التعرض لها إن شاء اللّه تعالى.
و إنما كرر لفظ «إياك» لتأكيد الحصر و تشديده في كل واحد من العبادة و الاستعانة، و إطلاقها و حصرها فيه تعالى يقتضي الاستعانة به في جميع الأمور مطلقا، و هي عبارة أخرى عن الاعتقاد ب «لا حول و لا قوة إلّا باللّه» و العمل بمقتضاه في جميع الأحوال.
قوله تعالى: اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ . هذا هو ثمرة العبادة و الغرض الأقصى من الاستعانة و أعلى المقامات الإنسانية. و هي الأمانة التي عرضت عَلَى السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ الْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَ أَشْفَقْنَ مِنْها وَ حَمَلَهَا الْإِنْسانُ [سورة الأحزاب، الآية: 72].
و الهداية: الدلالة سواء كانت إلى الحق أو الباطل، و كثيرا ما تستعمل في القرآن في الأول، و من الثاني قوله تعالى: وَ هَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ [سورة البلد، الآية: 10]، و قوله تعالى: فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ [سورة الصافات، الآية: 23].
و للهداية مراتب كثيرة متفاوتة يصح تعلق الطلب بجميع مراتبها كما يصح تعلقه بالمراتب الراقية و ان كان الشخص واجدا لها بالنسبة إلى المراتب السابقة، ففي كل مرتبة منها تطلب المرتبة الأرقى منها، فلا وجه للإشكال بأن الشخص إذا كان واجدا للهداية لا يصح أن يطلبها من اللّه تعالى ثانيا لأن إبقاء ما يكون واجدا له و تكميل مراتبه و طلب ما فوقه كلها من اللّه تعالى.
و الهداية من أفعاله تعالى و هي من صفات الفعل لا صفة الذات و قد
مواهب الرحمان في تفسير القرآن، ج1، ص: 39
اضطربت كلمات الفلاسفة المتألهين في الفرق بين ما هو صفة ذاته تعالى و ما هو صفة فعله فجعلوا بعض ما هو صفة الفعل صفة لذاته عزّ و جل و بذلك عسر الجواب عنه و لم ينهضوا بدليل يحسم الاشكال. لكن المستفاد من الآيات الشريفة- على ما سيأتي بيانها إن شاء اللّه تعالى- و السنة المقدسة قاعدة كلية و هي: كل ما يصح توصيف اللّه تعالى به و بنقيضه أو ضده فهو من صفة الفعل و كل ما لا يصح ذلك فيه فهو من صفة الذات.
و الأول- كالإرادة، قال تعالى: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَ لا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ [سورة البقرة، الآية: 185]، و قال تعالى: يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشاءُ وَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ [سورة المدثر، الآية: 31].
و الثاني- كالحياة و البقاء و العلم مثل: السميع و البصير و القدير، و سيأتي التفصيل في الآيات المناسبة إن شاء اللّه تعالى.
ثم إن الهداية إما تكوينية أو تشريعية:
و الأولى: ما يعم جميع ما سواه تعالى من المجردات و الماديات و يدل على ذلك قوله تعالى: رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى [سورة طه، الآية: 50] فالبلوغ إلى مرتبة الكمال في كل موجود هداية بالنسبة إليه.
و الثانية: تخص المؤمن و يطلبها منه عزّ و جل و قد جمعت في الإنسان الهدايتان التكوينية و التشريعية و هو يطلبهما معا أما الأولى بالاستعداد كما في سائر الموجودات و الثانية بالطلب الذي يختص به و أما الكافر فله الهداية التكوينية فقط كالنباتات و الحيوانات و إنما ترك الهداية التشريعية باختياره بعد ما تمت الحجة عليه.
الصراط: و هو الطريق المؤدي إلى المطلوب. و الاستقامة هي الاستواء في مقابل الانحراف و الاعوجاج. و إنّها تعم الجميع من الاعتقادات و الملكات بل و الخواطر النفسانية و أعمال الجوارح من العبادات و المعاملات و المجاملات فإنها إن تطابقت مع رضاء اللّه تبارك و تعالى كانت مستقيمة و إلّا فهي منحرفة قال تعالى: وَ مَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ [سورة آل عمران، الآية: 101] فبين تعالى معنى الهداية و الصراط المستقيم بل يتحقق
مواهب الرحمان في تفسير القرآن، ج1، ص: 40
الصراط المستقيم في جميع الموجودات فإنّها إن طابقت مع ما جعله اللّه تعالى لها في النظام الأحسن كانت على الصراط المستقيم و إلّا خرجت عنه بعدم بلوغها الى غاياتها للحوادث الطارئة.
فالهداية الى الصراط المستقيم متقومة بطرفين: المفيض و هو اللّه تعالى، و المستفيض و هو ما سواه تعالى، لأنّ جميع الموجودات في طريق الاستكمال الذي أعده الحكيم جل شأنه.
ثم إنّ الصراط المستقيم كلي واقعي له أنواع كثيرة متفاوتة في التجرد و التعلق بالمادة و غير ذلك و يتحد مع الجميع اتحاد الجنس مع أنواعه فالمجرد منه كالعقل الكلي و المتعلق بالمادة منه كنفوس الأنبياء و الأوصياء، و الأولياء و العرضية منه كالكتب السماوية و التشريعات الإلهية.
و قد بين اللّه تعالى معنى الصراط المستقيم الذي يطلبه الإنسان في عدة آيات، منها قوله تعالى: قُلْ إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً [سورة الأنعام، الآية: 161]، فجعل الدين هو الصراط المستقيم، و منها قوله تعالى: وَ اتَّبِعُونِ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ [سورة الزخرف، الآية: 61]، فجعل اتباع النبي (صلّى اللّه عليه و آله) هو الصراط المستقيم، و كذا في قوله تعالى:
وَ إِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ وَ إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّراطِ لَناكِبُونَ [سورة المؤمنون، الآية: 74]، و منها قوله تعالى: وَ أَنِ اعْبُدُونِي هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ [سورة يس، الآية: 61]، و جميع هذه الآيات المباركة بيان لأمر واحد و هو الدين الذي أراده اللّه تعالى لخلقه و عبّر عنه بالنور في الآيات الكثيرة كما سيأتي بيانها.
و الانحراف عن الصراط المستقيم وقوع في الظلمات التي لها أنواع كثيرة يجمعها قوله تعالى: «المغضوب عليهم و الضالين» على ما سيأتي، و ذكره تعالى المغضوب عليهم و الضالين بعنوان الجمع اشارة الى التعدد و الاختلاف و عدم الوحدة فيه بخلاف الصراط المستقيم فإنه واحد لا تعدد فيه بوجه و هو النور الذي لم يستعمل في القرآن إلّا مفردا بخلاف
مواهب الرحمان في تفسير القرآن، ج1، ص: 41
الظلمات، قال تعالى: اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُماتِ [سورة البقرة، الآية: 257] و قوله تعالى: يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ [سورة النور، الآية: 35] فالنور و الصراط المستقيم لا يعقل التعدد فيه لأن مبدأه منه تعالى كما أن بقاءه به و منتهاه إليه بخلاف الظلمات فإنها مختلفة حسب الإعتقادات و الأهواء الباطلة قال تعالى: قالَ فَبِما أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَ مِنْ خَلْفِهِمْ وَ عَنْ أَيْمانِهِمْ وَ عَنْ شَمائِلِهِمْ وَ لا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ [سورة الأعراف، الآية: 16].
نعم المستفاد من مجموع الآيات و الروايات أن الظلم و الشرك من الشيطان فهما حقيقة واحدة لها مراتب كثيرة و مظاهر متفاوتة و الاختلاف في التعبير دون الحقيقة و سيأتي تفصيل ذلك في بيان حقيقة الشيطان إن شاء اللّه تعالى.
[سورة الفاتحة (1): آية 7]
صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَ لا الضَّالِّينَ (7)
قوله تعالى: صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ . بيان للصراط المستقيم و إنما كرر لفظ «الصراط»، لأهمية الموضوع و أنّ المطلوب ليس مجرد حدوث الهداية فقط بل بقاؤها و إبقاؤها؛ و قد بيّن تعالى الصراط المستقيم بنفسه، لأن صراطا يكون مبدؤه من اللّه تعالى و منتهاه اليه كيف يمكن وصفه و بأي وجه يتحقق نعته؟!! فلا يقدر المخلوق أن يصفه إلّا بما وصفه الخالق بالقول الجامع في قوله: صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ فمن يقدر أن يحد هذه النعمة العظمى التي هي أجلّ مواهب اللّه تعالى في الدنيا و الآخرة و أعلى الكمالات الإنسانية في ما يرد عليه من العوالم كلها و أنّى للممكن المتناهي من كل جهة أن يحيط بحقيقة ما يكون كله منه تبارك و تعالى.
و عن جمع من اللغويين أن استعمال النعمة يختص بذوي العقول فلا يستعمل في غيرهم إلّا بالعناية و له وجه إن أريد منه أن الغاية من خلق النّعم هو الإنسان، كما في قوله تعالى: خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً [سورة
مواهب الرحمان في تفسير القرآن، ج1، ص: 42
البقرة، الآية: 29]. و أما لو أريد ملاحظة الوسائط بعضها مع البعض فلا كلية له، قال تعالى: أَ لَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ [سورة لقمان، الآية: 31].
و إنما اطلق لفظ النعمة في الآية المباركة، ليفيد التعميم من كل جهة تتصور من النّعم الظاهرية و الباطنية، قال تعالى: وَ أَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظاهِرَةً وَ باطِنَةً [سورة لقمان، الآية: 20].
كما بين تعالى بعض مصاديق نعمه في الآية المباركة: وَ مَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَ الرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَ الصِّدِّيقِينَ وَ الشُّهَداءِ وَ الصَّالِحِينَ [سورة النساء، الآية: 69] فإنهم نعم مطلقا و ان النّعم الواردة من المبدأ غير محدودة بحد خاص، قال تعالى: وَ إِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوها [سورة إبراهيم، الآية: 34].
ثم إنّ مادة (نعم) استعملت في القرآن العظيم بهيآت مختلفة كلها تشعر بالحنان و الرأفة و العطف و الرحمة قال تعالى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناعِمَةٌ لِسَعْيِها راضِيَةٌ [سورة الغاشية، الآية: 8]، و قال تعالى: اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَ أَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ [سورة البقرة، الآية: 47]، و قال تعالى: وَ نَعْمَةٍ كانُوا فِيها فاكِهِينَ [سورة الدخان، الآية: 27] إلى غير ذلك من الآيات المباركة الدالة على ما ذكرنا.
تلخيص ما تقدم في أمور:
الأول- لا ريب في أنّ تشريع الأديان السماوية و إنزال الكتب الإلهية و تكميل النفوس الإنسانية بل و تنظيم العالمين- الدنيا و الآخرة- متقوّم بهدايته تبارك و تعالى و لكثرة أهمية ذلك صارت الهداية من شؤونه المختصة به، قال تعالى: قُلْ إِنَّ الْهُدى هُدَى اللَّهِ [سورة آل عمران، الآية: 73] و قال جل شأنه: إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَ لكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ [سورة القصص، الآية: 56] و كما تكون نفس الهداية من فعله تعالى كذلك تكون مراتبها و أقسامها لأنّه حكيم عليم بخصوصياتها و لكنّها في الإنسان بتوسط الإختيار دون غيره من سائر المخلوقات.
مواهب الرحمان في تفسير القرآن، ج1، ص: 43
ثم إنّ هذه الهداية- بالمعنى الذي تقدم- واجبة في النظام عقلا لأنّ في تركها إهمالا للنفوس المستعدة و تضييعا لها و هما قبيحان عقلا و كل قبيح ممتنع بالنسبة إليه جل شأنه.
و سبل الهداية بالنسبة إلى اللّه تعالى كثيرة فكل ما يسوق العبد اليه عزّ و جل يكون من مظاهر هدايته و مصاديقها فالقرآن من هدايته تعالى لعباده قال تعالى: فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَ هُدىً وَ بُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ [سورة البقرة، الآية: 97]، و قال تعالى: شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَ بَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَ الْفُرْقانِ [سورة البقرة، الآية: 185]. و كذلك سائر الكتب السماوية، قال تعالى: وَ آتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدىً وَ نُورٌ وَ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ وَ هُدىً وَ مَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ [سورة المائدة، الآية: 46]، و قال تعالى: إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَ نُورٌ [سورة المائدة، الآية: 44]. و جعل الكعبة المشرفة أيضا من مظاهرها قال تعالى: إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً وَ هُدىً لِلْعالَمِينَ [سورة آل عمران، الآية: 96]. كما أن السنة الشريفة أيضا كذلك، لأنها أحسن سبيل لتكميل النفوس الإنسانية.
الثاني- إنّ هدايته جل شأنه لعباده على أنواع:
الأول: عام يشمل الجميع قال تعالى: إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَ إِمَّا كَفُوراً [سورة الدهر، الآية: 3]، و قال تعالى: وَ هَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ [سورة البلد، الآية: 10]. و لا ريب في شمولها لجميع أفراد الإنسان كما يستفاد من الآيات المباركة المتقدمة.
الثاني: الهداية الخاصة و هي تخص بجمع بذلوا وسعهم في العمل بالشريعة المقدسة فزادهم اللّه تعالى بذلك أنحاء الهداية لقوله تعالى: وَ الَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا [سورة العنكبوت، الآية: 69]، و قال تعالى: وَ جَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا [سورة السجدة، الآية: 24]، و قال تعالى: أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ [سورة الأنعام، الآية:
90] إلى غير ذلك من الآيات المباركة.
مواهب الرحمان في تفسير القرآن، ج1، ص: 44
الثالث: ما هو أخص من الثاني كما ورد في شأن رسوله و حبيبه (صلى اللّه عليه و آله): لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [سورة الإسراء، الآية: 1]، و قال تعالى: وَ كَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ لِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ [سورة الأنعام، الآية: 75]. و غير ذلك مما ورد في شأن أنبيائه الكرام و هذا مقام عظيم لا يليق لأحد إلّا لهؤلاء (صلوات اللّه عليهم أجمعين). و لكل من هذه الأنواع مراتب كثيرة أيضا.
(الثالث): حيث إنّ منشأ الصراط المستقيم- بكلا معنييه- من علمه تعالى و إبداع حكمته التامة و إحاطته به من جميع الجهات فهو الأصل في الكمالات و ينبعث منه سائر الكمالات في المخلوقات، فيكون مبدؤه علمه تعالى و بقاؤه بديع حكمته جل شأنه و منتهاه الخلود في جنته و في مثل هذا الأمر- الذي لا يدرك عظمته- لا يتصور فيه نقص و ينطوي فيه جميع المعارف الإلهية، و ما يتصور فيه من الاشتداد و الضعف إنما هو من ناحية المتعلق و يأتي تفصيل ذلك في الآيات المناسبة لها إن شاء اللّه تعالى.
(الرابع): تقدم أن الصراط هو الطريق المؤدي إلى المطلوب و استعمل في القرآن الكريم موصوفا بالاستقامة و الإستواء غالبا، و قد أضيف اليه تعالى بأنحاء الإضافة كقوله تعالى: وَ هذا صِراطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيماً [سورة الأنعام، الآية: 126]، و قوله تعالى: صِراطِ اللَّهِ [سورة الشورى، الآية: 53] و قال اللّه تعالى: إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ [سورة سبأ، الآية: 6].
و لم يضف الصراط الى غيره تعالى إلّا نادرا بخلاف السبيل فإنه أضيف إلى غيره تعالى كثيرا، كما أنّه ذكر بلفظ المفرد و الجمع، قال تعالى: وَ لا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ [سورة الأنعام، الآية: 153]، و قال تعالى: لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا [سورة العنكبوت، الآية: 69].