کتابخانه تفاسیر
مواهب الرحمان في تفسير القرآن، ج1، ص: 45
مستفيض من البحر و كلها موصوفة بالاستقامة و الرشاد و بإزائها الاعوجاج و الانحراف و السبل المنحرفة المتفرقة هي سبل الشيطان كما تقدم.
(الخامس): للصراط المستقيم مراتب من الوجود. (الأولى): مرتبة البيان و إتمام الحجة و هي من اللّه تبارك و تعالى و أنبيائه العظام و أوصيائهم (عليهم السّلام) و يدخل في ذلك جميع الشرايع الإلهية و الرسالات السماوية. (الثانية): مرتبة الاعتقاد. (الثالثة): مرتبة العمل و هما من وظائف العبد إلّا أن الثاني أشقهما عليه (الرابعة): مرتبة ظهوره في النشأة الآخرة و من هذه المرتبة الصراط في يوم القيامة الذي لا بد من العبور عليه للوصول إلى محل الخلود.
فالعبور وضعي لا أن يكون تكليفيا، إذ لا تكليف في يوم القيامة و ان اختلف زمان العبور و كيفيته تبعا لاختلاف درجات العابرين و معنوياتهم.
قوله تعالى: غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَ لَا الضَّالِّينَ . بيان للآية السابقة اهتماما بصراط المنعم عليهم و اعتناء بشأنهم و أنه يباين طريق المغضوب عليهم و طريق الضالين فالجملة الأولى وقعت في مقام المدح لعباد الرحمن و الأخيرة كأنها وردت في مقام رجم الشيطان و من تبعه.
و الغضب: هو الشدة، و رجل غضوب أي: شديد الخلق. و غضب اللّه تعالى عقابه دنيويا كان أو أخرويا أو هما معا، كما أن رضاه ثوابه، و هما من صفات الفعل لا من صفات الذات و تقدم بيان الفرق بينهما.
الضلال بمعنى التحير و يستلزمه الهلاك و الغيبة عن المقصود الحقيقي و العقاب و الهلاك متلازمان، و إنما ذكرهما معا بيانا للمبدأ و الأثر، فالضلال مبدأ العقاب و منشأ استحقاقه و العقاب مترتب على الضلال ترتب المقتضى (بالفتح) على المقتضي (بالكسر) و إنما قدم الغضب و العقاب على الضلال إرشادا للإنسان بأن لا يرتكب ما يوجب غضب اللّه تعالى.
و الغضب استعمل في القرآن مع اللعن و مع الرجس و مع العذاب كما في قوله تعالى: مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَ غَضِبَ عَلَيْهِ [سورة المائدة، الآية: 60]، و قوله تعالى: قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَ غَضَبٌ [سورة الأعراف،
مواهب الرحمان في تفسير القرآن، ج1، ص: 46
الآية: 71]، و قال تعالى: فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ [سورة النحل، الآية: 106]، و قال تعالى: وَ غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَ لَعَنَهُمْ وَ أَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ [سورة الفتح، الآية: 6] بل ورد في مورد بعض المحرمات أيضا:
وَ مَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها وَ غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَ لَعَنَهُ [سورة النساء، الآية: 93].
و يستفاد من ذلك كله شموله لكل من انحرف عن الصراط المستقيم بالكفر سواء كان مشركا أو غيره من أي ملة كان.
و أما الضلال فهو بمعنى التحير كما عرفت فيشمل مطلق الكفر أيضا، قال تعالى: وَ مَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَ مَلائِكَتِهِ وَ كُتُبِهِ وَ رُسُلِهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا بَعِيداً [سورة النساء، الآية: 136] فتفسير الأول باليهود و الثاني بالنصارى من باب التطبيق لا التخصيص حتّى أنه أطلق الضلال على مطلق العصيان أيضا قال تعالى: وَ مَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا مُبِيناً [سورة الأحزاب، الآية: 36].
بحوث المقام
بحث روائي:
وردت روايات كثيرة متفق عليها بين المسلمين في فضل فاتحة الكتاب- المسماة ب (السبع المثاني)، و (أم الكتاب) أيضا، كما في روايات كثيرة- و يكشف ذلك عن امتياز هذه السورة عن سائر السور
فعن نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله): «أن فاتحة الكتاب أفضل سورة أنزلها اللّه تعالى في كتابه و هي شفاء من كل داء إلّا الموت»
و يحمل ذلك على الموت الحتمي الذي لا بداء فيه و إلّا فيمكن أن يكون شفاء عن الموت غير الحتمي أيضا
لقول أبي عبد اللّه (عليه السّلام): «إنها من كنوز العرش و انها لو قرئت على ميت سبعين مرة ثم ردت فيه الروح ما كان عجبا»
.
مواهب الرحمان في تفسير القرآن، ج1، ص: 47
أقول: لا يتصور محل أرقى من كنوز العرش الذي نزلت منه هذه السورة المباركة و سيأتي إن شاء اللّه تعالى بيان العرش و ما يتعلق به في الآيات المناسبة له.
و عن النبي (صلّى اللّه عليه و آله): «إن فاتحة الكتاب أشرف ما في كنوز العرش»
، و عن علي (عليه السّلام): «نزلت فاتحة الكتاب بمكة من كنز تحت العرش».
و عن النبي (صلّى اللّه عليه و آله): «انه قال لجابر: ألا أعلّمك أفضل سورة أنزلها اللّه تعالى في كتابه؟ قال: بلى علمنيها فعلمه الحمد للّه أم الكتاب ثم قال هي شفاء من كل داء».
أقول: الأم هي الأصل في كل شيء بحيث يتفرع منها الأشياء، فأم الكتاب أي: أصل الكتاب.
كما أن أم القرى أصلها أيضا بحيث تفرعت عنها سائر القرى، كما ورد في النصوص، و سيأتي بيانها عند قوله تعالى: لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَ مَنْ حَوْلَها [سورة الشورى، الآية: 7]، تكون الفاتحة كذلك، لاشتمالها على كثير من معارف القرآن على نحو الإجمال، كما سيأتي في البحث الدلالي.
و عن ابن عباس في قوله تعالى: وَ لَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي قال هي: أم القرآن تثنى في كل صلاة.
أقول: سميت الفاتحة أما لأصالتها و تفرع سائر القرآن منها، كما تقدم.
و أما تسميتها بالسبع المثاني فلما ورد عن الفريقين
أنّه (صلّى اللّه عليه و آله) قال: «أعطيت الطول مكان التوراة، و أعطيت المئين مكان الإنجيل، و أعطيت المثاني مكان الزبور، و فضلت بالمفصل سبع و ستين سورة».
أقول: المراد من الطول من سورة البقرة إلى سورة التوبة، و المئين هي السور التي تتضمن أكثر من مأة آية. و المثاني- التي هي جمع مثنى- مثل المعاني جمع معنى- أي: ما كرر فيه شيء، و هي السور التي تقصر عن المئين، أي: ما كانت على نحو مأة آية أو أقل، و أما المفصل فهي السور التي
مواهب الرحمان في تفسير القرآن، ج1، ص: 48
تفصل بينها البسملة كثيرا و تقصر آياتها.
و في ذلك أقوال أخر: (الأول) إنها سميت ب (المثاني) لتكررها في الصّلاة. (الثاني): إنما سميت بذلك لنزولها مرتين مرة بمكة، كما تقدم عن علي (عليه السّلام)، و أخرى بالمدينة، لعظمة شأنها، و نسب ذلك إلى مجاهد، و لكن المشهور على خلافه و يقتضيه الإعتبار أيضا. (الثالث): أنّ المثاني جميع القرآن و فاتحة الكتاب سبعة آيات من أعظم آيات القرآن؛ قال تعالى: وَ لَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَ الْقُرْآنَ الْعَظِيمَ [سورة الحجر، الآية: 87]، و يشهد له ما تقدم في تفسير الآية المباركة عن ابن عباس.
و يصح أن يقال: إن المثاني من الأمور الإضافية، كما عرفت و إطلاقها على فاتحة الكتاب بكل معنى يتصور بالنسبة إلى عنوان المثاني صحيح؛ فهذه الأقوال من باب تطبيق الكلي على الفرد.
و قد روى الفريقان
عن نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله): قال: «قال اللّه عزّ و جل: قسّمت فاتحة الكتاب بيني و بين عبدي، فنصفها لي و نصفها لعبدي، و لعبدي ما سأل؛ إذا قال العبد: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قال اللّه جلّ جلاله: بدأ عبدي باسمي و حق عليّ ان أتمم له أموره و أبارك له في أحواله، فإذا قال: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ ، قال اللّه جلّ جلاله: حمدني عبدي، و علم أن النعم التي له من عندي و أنّ البلايا التي دفعت عنه بتطولي، أشهدكم اني أضيف له إلى نعم الدنيا نعم الآخرة و أدفع عنه بلايا الآخرة كما دفعت عنه بلايا الدنيا، و إذا قال: الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ، قال اللّه جلّ جلاله: شهد لي عبدي أنّي الرحمن الرحيم أشهدكم لأوفّرن من رحمتي حظه و لأجزلنّ من عطائي نصيبه، فإذا قال: مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ ، قال اللّه تعالى: أشهدكم كما اعترف بأني أنا المالك يوم الدين لاسهلنّ يوم الحساب حسابه و لأتقبلنّ حسناته و لأتجاوزنّ عن سيئاته فإذا قال: إِيَّاكَ نَعْبُدُ ، قال اللّه عزّ و جل صدق عبدي إياي يعبد أشهدكم لأثيبنه على عبادته ثوابا يغبطه كل من خالفه في عبادته لي فإذا قال: وَ إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ، قال اللّه تعالى: بي استعان عبدي
مواهب الرحمان في تفسير القرآن، ج1، ص: 49
و إليّ التجأ أشهدكم لأعيننه على أمره و لأغيثنه في شدائده و لآخذن بيده يوم نوائبه، فإذا قال: اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ إلى آخر السورة قال اللّه عزّ و جل: هذا لعبدي و لعبدي ما سأل و قد استجبت لعبدي و أعطيته ما أمل و آمنته مما منه و جل». و قريب منه عن ابن عباس عنه (صلّى اللّه عليه و آله) أيضا.
أقول: هذه الرواية تكشف عن أهمية سورة الفاتحة بالنسبة إلى سائر آيات القرآن، فإنه (أولا): جعل عبده شريكا لنفسه في المخاطبة و المكالمة (و ثانيا): قسّم السورة بين نفسه جل شأنه و بين عبده نصفين. (و ثالثا): جعل على نفسه الوفاء بما جعله لعبده. (و رابعا): إنها أوثق رابطة بين العابد و المعبود و توجه كل منهما إلى الآخر. (و خامسا): حنان خاص من المعبود الحقيقي إلى عابديه.
فهذه السورة المباركة- التي جعلها اللّه تعالى في صلاة المسلمين- هي كمرآة لجميع معارف القرآن بأخصر البيان.
و عن علي (عليه السّلام) في تفسير الحمد للّه: «إنّ اللّه عرّف عباده بعض نعمه عليهم جملا، إذ لا يقدرون على معرفة جميعها بالتفصيل، لأنّها أكثر من أن تحصى أو تعرف فقال لهم: قولوا: الحمد للّه على ما أنعم به علينا».
أقول: و يدل عليه قوله تعالى: وَ إِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوها [سورة النحل، الآية: 18].
و عنه (عليه السّلام) في تفسير رب العالمين: «مالك الجماعات من كل مخلوق من الجمادات و الحيوانات و خالقهم و سائق أرزاقهم إليهم من حيث يعلمون و من حيث لا يعلمون يقلّب الحيوانات بقدرته و يغذوها من رزقه و يحوطها بكنفه و يدير كلا منها بمصلحته، و يمسك الجمادات بقدرته و يمسك المتصل منها ان يتهافت و يمسك المتهافت منها أن يتلاصق و يمسك السماء أن تقع على الأرض إلّا بإذنه و الأرض أن تنخسف إلّا بأمره.
أقول: الحديث ظاهر في عموم ربوبيته تعالى لجميع الموجودات بتمام شؤونها، و يدل على ذلك ما تقدم في معنى الرب.
مواهب الرحمان في تفسير القرآن، ج1، ص: 50
و عن نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله) في بيان مالك يوم الدين: «إنّ أكيس الكيّسين من حاسب نفسه و عمل لما بعد الموت و إنّ أحمق الحمقاء من أتبع نفسه هواها و تمنى على اللّه الأماني، و أحمق النّاس من باع آخرته بدنياه، و أحمق منه من باع آخرته بدنيا غيره».
و في معناه ورد كثير من الروايات،
و عنه (صلّى اللّه عليه و آله): «حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا أو زنوها قبل أن توزنوا».
أقول: هذه الروايات المتواترة تدل على أهمية المعاد و وجوب كثرة الاهتمام به.
و عن علي (عليه السّلام) في بيان اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ : «أدم لنا توفيقك الذي به أطعناك في ما مضى من أيامنا حتّى نطيعك كذلك في مستقبل أعمارنا».
أقول: و المراد من الإدامة تجدد مراتب الهداية بعد تحصيل كل سابق، كما تقدم.
و عن الصادق (عليه السّلام): يعني أرشدنا للزوم الطريق المؤدي الى محبتك و المبلغ الى جنتك و المانع من أن نتبع أهواءنا فنعطب أو نأخذ بآرائنا فنهلك».
و عنه (عليه السّلام) في الصراط : «هو الطريق الى معرفته عزّ و جل و هما صراطان: صراط في الدنيا و صراط في الآخرة. فأما الصراط الذي في الدنيا فهو الإمام المفترض الطاعة من عرفه في الدنيا و اقتدى به مرّ على الصراط الذي هو جسر جهنم في الآخرة، و من لم يعرفه في الدنيا زلت قدمه على الصراط في الآخرة فتردى في نار جهنم».
و عن الصادق (عليه السّلام) في قول اللّه تعالى: وَ لَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَ الْقُرْآنَ الْعَظِيمَ فقال: «فاتحة الكتاب من كنز العرش فيها (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) الآية التي تقول: وَ إِذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلى أَدْبارِهِمْ نُفُوراً ، (و الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) دعوى أهل الجنّة حين شكروا اللّه حسن الثواب. و (مالك يوم الدين). قال جبرائيل: ما قالها مسلم قط إلّا
مواهب الرحمان في تفسير القرآن، ج1، ص: 51
صدّقه اللّه و أهل سماواته (إِيَّاكَ نَعْبُدُ) إخلاص العبادة. (وَ إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) أفضل ما طلب به العباد حوائجهم (اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ) صراط الأنبياء و هم الذين أنعم اللّه عليهم (غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ) اليهود (وَ لَا الضَّالِّينَ) النصارى».
و عنه (عليه السّلام) أيضا في قوله تعالى: اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ .
قال: «صراط محمد و أهل بيته».
و عن ابن عباس كذلك قال: «قولوا معاشر العباد أرشدنا إلى حب محمد و أهل بيته».
أقول: الأخبار في ذلك كثيرة عن الفريقين، و هو تعبير عن الكلي بالفرد و بيان أحد المصاديق و مثل ذلك كثير في القرآن العظيم و السنة الشريفة.
بحث دلالي:
هذه السورة تتضمن أمورا-:
الأول: إثبات وحدة ذاته تعالى لأنّ لفظ الجلالة (اللّه) كما تقدم بمعنى الذات المسلوب عنها جميع النواقص الواقعية و الإدراكية و الشريك في الذات نقص بل من أخس أنحائه.
الثاني: إثبات وحدة فعله تعالى بذكر «رب العالمين» لأنّ العالمين بمعنى ما سواه و هو فاعل الكل و مربيه.
الثالث: إثبات وحدة المعبود بذكر «إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَ إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ» .
الرابع: المعاد الذي هو من أهم المعارف الإلهية و الإعتقاد به بذكره تعالى «مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ» .