کتابخانه تفاسیر
مواهب الرحمان في تفسير القرآن، ج1، ص: 50
و عن نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله) في بيان مالك يوم الدين: «إنّ أكيس الكيّسين من حاسب نفسه و عمل لما بعد الموت و إنّ أحمق الحمقاء من أتبع نفسه هواها و تمنى على اللّه الأماني، و أحمق النّاس من باع آخرته بدنياه، و أحمق منه من باع آخرته بدنيا غيره».
و في معناه ورد كثير من الروايات،
و عنه (صلّى اللّه عليه و آله): «حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا أو زنوها قبل أن توزنوا».
أقول: هذه الروايات المتواترة تدل على أهمية المعاد و وجوب كثرة الاهتمام به.
و عن علي (عليه السّلام) في بيان اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ : «أدم لنا توفيقك الذي به أطعناك في ما مضى من أيامنا حتّى نطيعك كذلك في مستقبل أعمارنا».
أقول: و المراد من الإدامة تجدد مراتب الهداية بعد تحصيل كل سابق، كما تقدم.
و عن الصادق (عليه السّلام): يعني أرشدنا للزوم الطريق المؤدي الى محبتك و المبلغ الى جنتك و المانع من أن نتبع أهواءنا فنعطب أو نأخذ بآرائنا فنهلك».
و عنه (عليه السّلام) في الصراط : «هو الطريق الى معرفته عزّ و جل و هما صراطان: صراط في الدنيا و صراط في الآخرة. فأما الصراط الذي في الدنيا فهو الإمام المفترض الطاعة من عرفه في الدنيا و اقتدى به مرّ على الصراط الذي هو جسر جهنم في الآخرة، و من لم يعرفه في الدنيا زلت قدمه على الصراط في الآخرة فتردى في نار جهنم».
و عن الصادق (عليه السّلام) في قول اللّه تعالى: وَ لَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَ الْقُرْآنَ الْعَظِيمَ فقال: «فاتحة الكتاب من كنز العرش فيها (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) الآية التي تقول: وَ إِذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلى أَدْبارِهِمْ نُفُوراً ، (و الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) دعوى أهل الجنّة حين شكروا اللّه حسن الثواب. و (مالك يوم الدين). قال جبرائيل: ما قالها مسلم قط إلّا
مواهب الرحمان في تفسير القرآن، ج1، ص: 51
صدّقه اللّه و أهل سماواته (إِيَّاكَ نَعْبُدُ) إخلاص العبادة. (وَ إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) أفضل ما طلب به العباد حوائجهم (اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ) صراط الأنبياء و هم الذين أنعم اللّه عليهم (غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ) اليهود (وَ لَا الضَّالِّينَ) النصارى».
و عنه (عليه السّلام) أيضا في قوله تعالى: اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ .
قال: «صراط محمد و أهل بيته».
و عن ابن عباس كذلك قال: «قولوا معاشر العباد أرشدنا إلى حب محمد و أهل بيته».
أقول: الأخبار في ذلك كثيرة عن الفريقين، و هو تعبير عن الكلي بالفرد و بيان أحد المصاديق و مثل ذلك كثير في القرآن العظيم و السنة الشريفة.
بحث دلالي:
هذه السورة تتضمن أمورا-:
الأول: إثبات وحدة ذاته تعالى لأنّ لفظ الجلالة (اللّه) كما تقدم بمعنى الذات المسلوب عنها جميع النواقص الواقعية و الإدراكية و الشريك في الذات نقص بل من أخس أنحائه.
الثاني: إثبات وحدة فعله تعالى بذكر «رب العالمين» لأنّ العالمين بمعنى ما سواه و هو فاعل الكل و مربيه.
الثالث: إثبات وحدة المعبود بذكر «إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَ إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ» .
الرابع: المعاد الذي هو من أهم المعارف الإلهية و الإعتقاد به بذكره تعالى «مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ» .
الخامس: الإشارة إلى النبوات السماوية و الشرايع الإلهية بذكر «اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ» .
مواهب الرحمان في تفسير القرآن، ج1، ص: 52
فهذه السورة على اختصارها مشتملة على جميع المعارف الإلهية و المعتقدات الحقة المذكورة في الكتب السماوية، و يدل على فضل هذه السورة و كمالها مضافا إلى ذلك أمور أخرى:
منها: حسن نظمها و جمالها فإنها ابتدأت بالبسملة ثم الحمد و بعده ثناء اللّه عزّ و جل بأتم الصفات ثم إظهار العبودية للّه تعالى التي هي أعلى مقامات الإنسانية، فالاستعانة منه جل شأنه لدفع المهالك و جلب المنافع ثم طلب الهداية منه تعالى إلى طريق الصلاح، فقد تجلى اللّه سبحانه و تعالى في القرآن و تجلى القرآن في الفاتحة و لأجل ذلك استحقت السورة ان تسمى ب (أم الكتاب) لاحتوائها- على اختصارها- عامة ما يحويه القرآن من المعارف و هي من أهم جوامع الكلم التي فضل اللّه تعالى خاتم أنبيائه (صلّى اللّه عليه و آله) بها و ان شئت الظفر على بعض ما قلناه فانظر إلى ما يقرؤه أهل التوراة و الإنجيل و سائر الأديان في صلواتهم تجد الفرق بينهما كبيرا.
و منها: أنّها تبين أدب العبودية و تعلم العبد كيفية التكلم و المخاطبة معه جل شأنه، و التلقين منه تبارك و تعالى دليل على القبول و الاستجابة، و قد روى الفريقان
عن نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله) أنه يقول: «قال اللّه عزّ و جل قسمت فاتحة الكتاب بيني و بين عبدي»
. و قد تقدم في البحث الروائي.
ثم إنّ ابتداء هذه السورة بالحمد يدل على محبوبيته له تعالى و حسنه على كل حال سواء كان لذاته أو لفعله أو لصفاته. و الظاهر من إضافة الحمد إلى اللّه تعالى أن الذات الأقدس ذات محمودة و الذات المحمودة بالذات تستلزم محمودية الصفات- التي هي عين الذات- فما تعارف بين العلماء من أن الحمد هو الثناء على الجميل الاختياري- كما تقدم- إنما هو بحسب الغالب المتعارف بين المخلوق بحسب إدراكهم و الذات الأقدس خارج عن الاختيار، و الحمد على الذات الأقدس هو أعلى مراتب الحمد
و عن النبي (صلّى اللّه عليه و آله): «لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك».
نعم، لا بد و أن ينتهي الحمد إلى الذات الأقدس و الا لتسلسل، لأن إنشاء الحمد من الحامد نعمة منه تعالى فهو يحتاج الى حمد آخر و هكذا
مواهب الرحمان في تفسير القرآن، ج1، ص: 53
فيتسلسل،
و قال (عليه السّلام) في الصحيفة السجادية: «و كيف لي بتحصيل الشكر و شكري إياك يحتاج إلى شكر فكل ما قلت لك الحمد وجب عليّ لذلك أن أقول لك الحمد».
فمن لطائف القرآن ابتداؤه ب «الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ» و آخر دعوى المخلدين في الجنّة «الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ» قال تعالى: وَ تَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ وَ آخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ [سورة يونس، الآية: 10]، فترجع النهاية إلى البداية، و عليه شواهد من الكتاب و السنة تأتي الإشارة إليها إن شاء اللّه تعالى.
بحث فقهي:
يظهر من الروايات المستفيضة بين الفريقين أنّ قوام الصّلاة بفاتحة الكتاب
فعن نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله) أنّه: «لا صلاة إلّا بفاتحة الكتاب»
و قال: «كل صلاة لا يقرأ فيها بفاتحة الكتاب فهي خداج»
الى غير ذلك من الروايات الكثيرة.
و أما التأمين بعد الفاتحة فيبحث فيه تارة، بحسب الثبوت، و أخرى:
بحسب الإثبات.
أما الأول: إنّ الهداية إما أن تلحظ من حيث إضافتها إلى اللّه تعالى فهو الهادي فحينئذ لا رجحان لذكر آمين بعدها، كما في جميع صفاته تعالى الفعلية، و إما أن تلحظ من حيث اضافتها إلى العبد أي: طلب الهداية منه تعالى فكذلك أيضا لفرض حصول جميع مناشئ الهداية و أسبابها و موجبات إتمام الحجة منه عزّ و جل فقد حصل المطلوب خارجا فلا يعقل معنى صحيح للتأمين على ما وقع و حصل.
و إن كان المراد بها بحسب البقاء لا أصل الحدوث فإن أضيف البقاء إليه عزّ و جل فهي باقية لأنّ حجته تامة و باقية ببقاء الإنسان و لا وجه للتأمين عليه أيضا و إن أضيف الى العبد فهو من فعله و لا معنى لتأمين الشخص على فعله.
و إن أريد به أن يوفق اللّه عبده لإدامة الهداية لنفسه في المستقبل كما
مواهب الرحمان في تفسير القرآن، ج1، ص: 54
و فقه في الماضي، فهو خروج عن ظاهر اللفظ بلا دليل.
و أما الثاني: فقد نسب إلى نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله) بأسناد غير نقية قول: «آمين» بعد تمام الحمد. فالمقام مقام الحمد للّه تعالى على هذه النعمة العظيمة من وقوف العبد بين يدي اللّه تعالى و مخاطبته معه جل شأنه، و يرشد الى ذلك قوله تعالى: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا وَ ما كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْ لا أَنْ هَدانَا اللَّهُ [سورة الأعراف، الآية: 43]،
و قد ورد عن الصادق (عليه السّلام): «إذا قال الامام و لا الضالين فقولوا الحمد للّه رب العالمين».
ثم إنّه يجوز قصد الإنشاء بجملة «الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ» و «إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَ إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ» و نحوها من الآيات الكريمة مع قصد القرآنية أيضا لأنّ المتكلم في مقام إيجاد مفاهيم هذه الألفاظ لفظا و البناء على العمل طبقها خارجا.
و قد أشكل عليه جمع من المفسرين بأنّه من استعمال اللفظ في معنيين، و هو غير جائز. (و هو مردود): لأنّ الاستعمال الممتنع على فرض امتناعه إنما هو في ما إذا كان المعنيان فردين مستقلين في الإرادة الاستعمالية كل منهما في عرض الآخر لا في ما إذا كان أحدهما استقلاليا و الآخر تبعيا. و إلّا فهو واقع كثيرا في المحاورات الصحيحة، و المقام من هذا القبيل فيقصد القارئ القرآنية استقلالا و الإنشائية تبعا و المسألة أصولية تعرضنا لها في [تهذيب الأصول].
بحث فلسفي:
المعروف بين جمع من الفلاسفة لزوم السنخية بين العلة و المعلول، فالمباين من كل جهة لا يمكن أن يصير علة للمباين كذلك كما أنّ المباين من كل جهة لا يصدر من المباين كذلك و بنوا عليه مباحث فلسفية و عرفانية.
و لكن ظاهر قوله تعالى: رَبِّ الْعالَمِينَ و غيره من الآيات المباركة
مواهب الرحمان في تفسير القرآن، ج1، ص: 55
- الكثيرة التي يأتي بيانها- ينفي ذلك فإنّ موجد العوالم و مربّيها لا سنخية بينه و بينها إذ لا سنخية بين الممكن بالذات و الفقير المحض و بين الواجب بالذات و الغني المطلق كذلك.
و دعوى: انّ السنخية في مفهوم الموجودية متحققة. (مردودة): بأنّه لا علية و لا معلولية في المفاهيم و إنّما هما من شؤون الحقائق فما هو مشترك لا يتصور العلية و المعلولية فيه و ما هو علة و معلول لا يتحقق الاشتراك فيه، و سيأتي تفصيل هذا البحث في الآيات المناسبة له إن شاء اللّه تعالى.