کتابخانه تفاسیر
مواهب الرحمان في تفسير القرآن، ج1، ص: 140
مانعا، و إن ائتمروا بمعصية فشاء أن يحول بينهم و بين ذلك فعل، و ان لم يحل و فعلوا فليس هو الذي أدخلهم فيه».
أقول: المراد أن إرادة الصرف عن مراد العبد من اللّه تعالى و هو محسوس لكل أحد، فكم من مريد لشيء يصرف عن إرادته و كم غير مريد يصادفه ما يشتهيه و هذه هي المنزلة بين المنزلتين.
و عن الصادق (عليه السّلام): «لا جبر و لا تفويض و لكن أمر بين الأمرين»
أقول: تقدم ما يتعلق بكل واحد منها.
و عن الرضا (عليه السّلام): «القائل بالجبر كافر، و القائل بالتفويض مشرك، و المراد من الأمر بين الأمرين هو وجود السبيل إلى إتيان ما أمروا، و ترك ما نهوا عنه، و الإرادة و المشية من اللّه تعالى في ذلك بالنسبة إلى الطاعات الأمر بها و الرضا لها، و بالنسبة إلى المعاصي النهي عنها، و السخط لها و الخذلان عليها، و ما من فعل يفعله العباد من خير، أو شر إلّا و للّه فيه قضاء، و القضاء هو الحكم عليهم بما يستحقونه من الثواب و العقاب في الدنيا و الآخرة».
أقول: أما أن القائل بالجبر كافر فلأنه نسب إلى اللّه تعالى الظلم، و مع ذلك يعاقب العبد عليه. و أما أن القائل بالتفويض مشرك فلأنه أثبت إرادة مستقلة في مقابل ارادة اللّه تعالى. و أما ما ذكره (عليه السّلام) في تفسير المنزلة بين المنزلتين فهو من باب المثال، و إلّا فهو عام لجميع الأفعال.
قوله تعالى: الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ النقض: هو الفت و الفك و الفسخ، و لا يستعمل غالبا إلّا فيما فيه القوة و استعداد البقاء، قال تعالى: وَ لا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ [سورة النحل، الآية: 92]، و يتعلق بالميثاق أيضا لأجل كونه محكما يعسر نقضه قال تعالى: فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ [سورة المائدة، الآية: 13].
و العهد: حفظ الشيء و مراعاته حالا بعد حال، و هذه المادة في أية هيئة
مواهب الرحمان في تفسير القرآن، ج1، ص: 141
استعملت تفيد الالتزام، و الثبات، و العزيمة.
و المراد بالميثاق: ما يوثق به الشيء، كالميقات لما يتحقق به الوقت.
و يجوز أن يضاف الميثاق إلى اللّه تعالى، إذ لا يتصور عهد أوثق مما عاهد به اللّه تعالى عباده، كما يجوز أن يضاف إلى العباد و هم الذين قبلوا عهد اللّه تعالى ظاهرا ثم نقضوه، فيكون المراد من بعد ما أوثقوه. و يصح الحمل على العموم الشامل لجميع ذلك.
و المعنى: إنّه لما وصف الضالين بالفسق أراد سبحانه و تعالى بيان حال هؤلاء الفاسقين الضالين فذكر لهم أوصافا ثلاثة: هي نقض العهد، و قطع ما يجب أن يوصل، و الإفساد في الأرض. و المراد بالعهد ما عاهد تعالى به على أنبيائه من المعارف و الشرايع الراجعة إلى تربية العباد، و هو من أعظم العهود الموثقة من قبله تعالى بالحجج و البراهين.
و يصح ان يراد به الأعم من ذلك و من العهد الفطري الموثق بالعقل الذي هو أعظم حجج اللّه تعالى، فالمراد بنقض العهد عدم الوفاء به قولا، أو عملا، أو اعتقادا كما هو وجداني.
قوله تعالى: وَ يَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ .
صلة كل شيء بحسبه. و المراد بالأمر الأعم من التكويني و التشريعي فصلة العقيدة باللّه و رسله جعلها راسخة في النفس، و صلة الأحكام الإلهية التكليفية العمل بها و المواظبة على إتيانها، و صلة النبي الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله) هو الاهتداء بهديه، و العمل بما جاء به من ربه وصلة الرحم التآلف و التودد معه، و كذلك صلة المؤمنين بعضهم مع بعض، وصلة الأمور التكوينية معرفة منافعها، و مضارها، و نتائجها المترتبة عليها. و تشمل الآية الشريفة جميع ذلك؛ و التفرقة- و لو في الجملة- نقض لعهد اللّه تعالى و ميثاقه، و قطع للصلة، فمن أنكر اللّه أو صفاته فقد قطع ما أمر به أن يوصل، و من أنكر النبوة و ما جاء به الأنبياء فقد قطع ما أمر به أن يوصل من هذه الجهة.
قوله تعالى: وَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ . الفساد خلاف الصّلاح و هو
مواهب الرحمان في تفسير القرآن، ج1، ص: 142
أعم من الفردي و الاجتماعي.، و ذكر الأرض قرينة للحمل على الأخير.
و الإفساد في الأرض هو إضلال الناس، مثل الظلم، و الغيبة، و سيأتي بيان ذلك في الآيات المناسبة إن شاء اللّه تعالى.
قوله تعالى: أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ . نتيجة واضحة للمقدمات المذكورة، فإن من اتصف بهذه الصفات فقد استحق الخزي في الدنيا، و عذاب الآخرة، و هذا هو الخسران المبين، إذ لا معنى لنقض العهد، أو قطع ما أمر اللّه به أن يوصل، أو الفساد إلّا الخسران المبين.
بحث روائي:
عن ابن عباس: «لما ضرب اللّه سبحانه هذين المثلين للمنافقين يعني مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً و قوله تعالى: أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ قالوا «إنّ اللّه أجل و أعلى من أن يضرب الأمثال فأنزل اللّه تعالى هذه الآية».
و في رواية أخرى عنه أيضا: «إنّه لما ذكر اللّه تعالى آلهة المشركين فقال؛ وَ إِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ و ذكر كيد الآلهة فجعله كبيت العنكبوت، قالوا: أ رأيت حيث ذكر اللّه الذباب و العنكبوت فيما أنزل من القرآن على محمد أي شيء يصنع؟ و ضحكت اليهود، و قالوا: ما يشبه هذا كلام اللّه؟ فأنزل اللّه هذه الآية».
أقول: قد تقدم أن ذلك من باب التطبيق.
[سورة البقرة (2): الآيات 28 الى 29]
ذكر سبحانه و تعالى في هاتين الآيتين حال الإنسان من مبدأ خلقه إلى ما يؤول اليه أمره، و أنّ جميع ما في الأرض مخلوق لأجله و معدّ له ليتمتع بما فيها، و إنما قدم التوبيخ و الملامة على التفضل و العناية لبيان أن كل ما يكون للإنسان من المراتب و الأطوار إنما هو من تفضّله تعالى، لا من اقتضاء
مواهب الرحمان في تفسير القرآن، ج1، ص: 143
ذاته، ثم عقب ذلك خلق السموات ليذكّرنا تمام قدرته و حكمته. و ربط هاتين الآيتين بالآيات السابقة ظاهر.
التفسير
قوله تعالى: كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ . تعيير و توبيخ؛ يعني أنه لا ينبغي لكم أن تكفروا باللّه و الحال ان موتكم و حياتكم تحت قدرته و إرادته. و إنما ذكرهما، لأنهما من الوجدانيات و إنكار خالقهما يرجع إلى إنكار الوجدان و الجمع بين النقيضين.
قوله تعالى: وَ كُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ . ذكر المفسرون في الموت و الحياة أقوالا:
منها: أن المراد بالموت هنا العدم السابق على الوجود أي: كنتم معدومين فأوجدكم، و ظاهر القرآن ينفي هذا الاحتمال.
و منها: عدم الحياة عمّا من شأنه الحياة، كالنطفة، و العلقة، و المضغة، و نحوها من الأطوار التي تعرض على الإنسان في بدء خلقه حتّى يصير خلقا جديدا.
و منها: أنّ المراد بها الموت الحكمي، لا الحقيقي، إذ الإنسان حين ولادته لا اسم له، و لا شهرة له عند النّاس ثم يصير مشهورا عندهم، و لم يأت كل منهم في ما ذكروه بدليل يدل عليه.
و الأولى الحمل على الجميع، فإن للحياة بمراتبها المختلفة من النباتية و الحيوانية و الإنسانية جامعا قريبا و هو الحركة و الحس، و للموت أيضا بمراتبه الكثيرة جامعا قريبا، و هو الوقف و السكون، و اللّه تعالى هو القادر على إيجاد أصلهما و سائر جهاتهما و خصوصياتهما، فإن الإنسان من بدء خلقه إلى نشوره و وقوفه بين يدي رب العالمين، و في جميع أطواره و حالاته، بل جميع شؤونه و تبدلاته مورد علمه و قدرته و إرادته و هذا هو معنى الربوبية العظمى التي أشرنا إليها في قوله تعالى: رَبِّ الْعالَمِينَ [سورة الحمد، الآية: 1] و إذا كان هذا شأنه معكم، و كان لكم التفات إلى هذه الجهة و لو إجمالا كيف تكفرون
مواهب الرحمان في تفسير القرآن، ج1، ص: 144
باللّه، فتكون هذه الآية الشريفة مثل قوله تعالى: فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً وَ أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [سورة البقرة، الآية: 22].
قوله تعالى: ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ . أي يميتكم بقبض الأرواح حين انقضاء الآجال، ثم يحييكم حياة ثانية ثم اليه ترجعون لأخذ جزاء أعمالكم، هذا بحسب كليات الموت و الحياة و الرجوع إليه تعالى. و أما بحسب الخصوصيات- كالزمان الفاصل بينهما- فلا يعلمها إلّا اللّه تعالى.
و الفرق بين الحياة الأولى و الحياة الثانية بعد اتحاد المبدأ و المرجع فيهما، و عدم الفرق بينهما من هذه الجهة: أن الحياة الأولى مؤقتة و الثانية أبدية دائمية، و أن التبدل في الصورة فالأعمال في الدنيا- خيرا كانت أو شرا- عرض قائم بالغير، و في الآخرة جوهر قائم بالذات فالعامل و العمل فيهما واحد؛ و الاختلاف إنما هو في صورة العمل. و أن الحياة الأخرى أكمل من الأولى للإنسان إن عمل صالحا في الدنيا و أدون إن كان شرا، و سيأتي تتمة الكلام في الآيات المناسبة إن شاء اللّه تعالى.
و بعد أن بيّن سبحانه بعض آياته في الأنفس فتفضل على الإنسان بنعمة الإيجاد، ثم بنعمة الموت، ثم الحياة، ثم الرجوع اليه ليصل كل واحد إلى ما أعده لنفسه من الأعمال ذكر سبحانه بعض نعمه في الآفاق.
قوله تعالى: هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً . بيان لما مر من قوله تعالى: جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً [سورة البقرة، الآية: 24]، لأن من لوازم جعل الأرض فراشا للإنسان أن يكون جميع ما في الفراش مهيئا للانتفاع به، و كذا قوله تعالى: سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ [سورة الحج، الآية: 65].
و الخلق بمعنى التقدير المستقيم، و يستعمل في الإبداع أيضا، كقوله تعالى: خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ [سورة الفرقان، الآية: 59] بقرينة قوله تعالى: بَدِيعُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ [سورة البقرة، الآية: 117]؛ و في إيجاد شيء من شيء كقوله تعالى: خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ [سورة
مواهب الرحمان في تفسير القرآن، ج1، ص: 145
النحل، الآية: 4]، و كذا قوله تعالى: خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ [سورة العلق، الآية: 2] و جميع هذه الاستعمالات من المشترك المعنوي لوجود الجامع القريب فيها، و هو التقدير المستقيم. و المراد بالخلق هنا التقدير أي: قدّر اللّه تعالى أن يكون ما في الأرض لأجل انتفاع الإنسان، و التقدير مقدم عن الإيجاد و كل موجود مقدر، و ليس كل مقدر موجودا، لجريان البداء في مرتبة التقدير و القضاء، كما يأتي.
و خلق ما في الأرض إما لأجل الانتفاع به انتفاعا ماديا صحيحا بكل وجه يتصور، أو عقليا كالنظر و الاعتبار،
كما قال علي (عليه السّلام): «خلق لكم ما في الأرض جميعا لتعتبروا به، و تتوصلوا به الى رضوانه، و تتوقوا به من عذاب نيرانه».
ثم إنه يستفاد من هذه الآية المباركة، و غيرها من الآيات كثرة عناية اللّه تعالى بالإنسان، و قد افتخر به على سائر خلقه كما في قوله تعالى: فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ [سورة المؤمنون، الآية: 14]، بل جعله غاية خلق الموجودات، و جعل الطبيعة مسخرة بين يديه، و أفاض عليه من علومها و أسرارها لأن ينتفع بها و يستفيد من جميع ما يمكن الاستفادة منه.
قوله تعالى: ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ . مادة (س و ي) تدل على المساواة و المعادلة، و تختلف الخصوصيات باختلاف الاستعمالات، فإذا عديت ب (على) أفادت معنى الاستيلاء عن عدل و حكمة، كما في قوله تعالى: الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى [سورة طه، الآية: 5] أي استيلاء علم و حكمة و تدبير و إتقان، فيكون ما سواه من صنع اللّه الذي أتقن كل شيء، و إذا عديت ب (إلى) اقتضى القصد و الشروع، و الأخذ المشتمل على أتم أنحاء التدبير،
قال علي (عليه السّلام): «أخذ في خلقها و إتقانها».
و قد استعملت هذه المادة بهيئاتها المختلفة في القرآن الكريم قال تعالى: الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى [سورة الأعلى، الآية: 2] و قال تعالى: فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَ نَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي [سورة ص، الآية: 72] و الخلق أعم من التسوية.
مواهب الرحمان في تفسير القرآن، ج1، ص: 146
و المعنى: أنه قصد خلق السماء، و أراد ذلك بأتم أنحاء التدبير و أحسن جهات التنظيم فجعلهنّ سبع سموات متقنات، و سيأتي بيان عدد السبع في الآيات المناسبة إن شاء اللّه تعالى.
و في هذه الآية إشارة إلى أن خلق الأرض قبل خلق السماء. و لكن عرفت أن الخلق غير التسوية، فإن في الأرض جهات كثيرة و في السماء أيضا كذلك، فكل منهما من الأمور الإضافية و يصير خلق تلك الجهات أيضا كذلك. و حينئذ لا منافاة بين ذلك، و قوله تعالى: أَ أَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ بَناها رَفَعَ سَمْكَها فَسَوَّاها وَ أَغْطَشَ لَيْلَها وَ أَخْرَجَ ضُحاها وَ الْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها [سورة النازعات، الآية: 27- 31]، فإن خلق السماء في هذه الآية المباركة مقدم من حيث الاستواء و الإتمام. و خلق الأرض مؤخر من حيث فعلية نظمها، و جري أنهارها و دحوها و نحو ذلك. و في الآية السابقة أن خلق الأرض مقدم من حيث أصل التقدير فلا تضاد بينهما.
قوله تعالى: وَ هُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ . الشيء من ألفاظ العموم بل لا أعم منه. و عن بعض اللغويين إن لفظ عليم للمبالغة و ليس لمجرد الوصف الثابت. و قد عدّي بلفظ (باء)، مع أنه متعد بنفسه، لقوله تعالى: فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ [سورة الممتحنة، الآية: 10] لإظهار الزيادة في العلم و المعلوم.
و في القرآن آيات كثيرة دالة على إحاطته بما سواه علما و قدرة و من سائر الجهات و لعل أبلغ هذه التعبيرات بالنسبة إلى المخاطبين قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً [سورة النساء، الآية: 33]، إذ الشهود و العيان أخص عندهم من العلم و إن كان لا فرق بينهما بالنسبة إليه تعالى.
بحث فقهي: