کتابخانه تفاسیر
مواهب الرحمان في تفسير القرآن، ج2، ص: 129
قوله تعالى: وَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ . هذا هو الأمر الثالث. و كلمة «لعل» بمعنى التوجي في جميع الموارد إلّا أنه بالنسبة إليه عزّ و جل يكون بداعي المحبة و الإيجاب لا بداعي الترجي الحقيقي حتّى يكون محالا عليه عزّ و جل، لأنه الكامل في ذاته و بذاته و لا يعقل النقص بالنسبة إليه تعالى، و التمني و الترجي إنما يتصوران بالنسبة إلى الناقص و أما إذا كانا بدواع أخرى غير داعي وقوع حقيقيّهما فلا محذور بالنسبة إليه عزّ و جل. و تستعمل في القرآن الكريم في كل فعل من أفعال الإنسان و كل غاية يقصدها باختياره.
هذه هي الغايات الشريفة في أمر القبلة و التعبد بها و كل غاية تشير إلى جانب من جوانب هذا الجعل الإلهي: جانب الحجة و الإحتجاج مع المخالفين و المعاندين و قطع حجتهم، و الجانب المادي و الفوائد التي يتوخاها الإنسان، و الجانب المعنوي و الروحي من التكاليف.
و كل واحد من هذه الغايات الشريفة و المنافع الجليلة قد ذكرت في جملة من الآيات الكريمة، و بذلك تتم نعمته على المسلمين و يظهر عظيم لطفه بهم في هذا التكليف.
بحوث المقام
بحث أدبي:
الشايع في المحاورات أن الاستثناء من الإثبات نفي و من النفي إثبات، و جرى عليه نظم القرآن الكريم، كما في قوله تعالى فيما تقدم من الآيات الشريفة إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ و لذلك تدل كلمة التوحيد على نفي الشرك و إثبات الوحدانية له تعالى.
و المعروف بين اللغويين و غيرهم أنّ كلمة «إلّا» تستعمل في الاستثناء المتصل و المنقطع، و تأتي بمعنى «لكن» و «غير» أيضا و المرجع في التعيين القرائن المعتبرة، و إذا كانت بمعنى «غير» تكون صفة. و قالوا: إنّ الأصل في «إلّا» أن تكون استثناء و الصفة عارضة، للقرينة، كما أنّ الأصل في «غير» أن تكون صفة و الاستثناء عارض، و في القرآن الكريم أمثلة على ذلك يأتي التعرض لها في محالها.
مواهب الرحمان في تفسير القرآن، ج2، ص: 130
ثم إنّه وقع الالتفات في الآيات الكريمة المتقدمة بأنحاء.
و هو: أسلوب كلامي يظهر غالبا في كلام العظماء و الملوك عند تكلمهم في مجلس واحد عن قضايا كثيرة على حسب سعة نفوذ أمرهم و سلطانهم، فينتقلون من الحاضر الى الماضي، أو إلى المستقبل، أو إلى الأمر و النهي و قضايا متعددة، فهو يدل على كثرة نفوذ كلام المتكلم وسعة مقصده.
و الحكمة فيه إثارة العقول إلى ما يتحقق من الحكمة و الإتقان و التدبر، و به يتحقق النظم البليغ، لأنه نقل الكلام و تغييره من حالة إلى أخرى، فهو من محاسن الكلام و بدائعه و يهتم الأدباء به اهتماما بليغا، كما وقع ذلك في القرآن الكريم كثيرا.
و المشهور بينهم انه يشترط فيه شروط ثلاثة:
أحدها: أن يكون الانتقال على غير ما يقتضيه الكلام الظاهر، أي أنّ مقتضى الظاهر أن يكون التعبير بغير الالتفات فينتقل إليه.
ثانيها: أن يكون الضمير في المنتقل اليه عائدا في نفس الأمر إلى المنتقل عنه، بخلاف ما إذا كان كل واحد من الضميرين يرجع إلى واحد من اثنين، كما في قول: «أنت صديقي».
ثالثها: أن يكون في جملتين.
و هو عند أهل المعاني و البديع على أنواع:
الأول: تعقيب الكلام بجملة مستقلة بعد ما فرغ المتكلم من المعنى تتلاقى الجملة الأخيرة مع الأولى في المعنى على طريق المثل أو الدعاء أو نحوهما، مثل قوله تعالى: وَ زَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً [سورة الإسراء، الآية: 81]، و قوله تعالى: ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ [سورة التوبة، الآية: 127]، و هو على سبيل الدعاء.
الثاني: أن يذكر المتكلم معنى فيتوهم ان السامع اعترض في قلبه شيء فليتفت في كلامه ليزيل ما وقع في قلبه من شك و نحوه ثم يرجع الى
مواهب الرحمان في تفسير القرآن، ج2، ص: 131
مقصوده، كما في قول الشاعر:
فلا صرمه يبدو و في اليأس راحة
و لا ودّه يصفو لنا فنكارمه
فإن في قوله: «فلا صرمه يبدو» إيهاما بأنه يريد هجر المحبوب إياه و هو غير لائق، فقال: «و في اليأس راحة» فكان هذا عذرا.
الثالث: التفات الضمائر و هو أن يقدر المتكلم في كلامه مذكورين مرتبين ثم يخبر عن الأول منهما ثم ينصرف عن الإخبار عنه إلى الأخبار عن الثاني ثم يعود إلى الإخبار عن الأول، نحو قوله تعالى: إِنَّ الْإِنْسانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ وَ إِنَّهُ عَلى ذلِكَ لَشَهِيدٌ وَ إِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ [سورة العاديات، الآية:
6].
الرابع: بناء فعل للمفعول بعد خطاب فاعله او تكلمه؛ نحو قوله تعالى: غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ [سورة الحمد، الآية: 7] بعد قوله تعالى: أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ فان المعنى غير الذين غضبت عليهم.
الخامس: الانتقال من المذكر إلى المؤنث أو العكس على طريقة الالتفات.
السادس: انتقال الكلام من خطاب الواحد او الإثنين أو الجمع إلى الآخر، و هذا على أقسام- كما يأتي- نحو قوله تعالى: وَ أَوْحَيْنا إِلى مُوسى وَ أَخِيهِ أَنْ تَبَوَّءا لِقَوْمِكُما بِمِصْرَ بُيُوتاً وَ اجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَ بَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ [سورة يونس، الآية: 87]، فاتسع في الخطاب فثنى ثم جمع ثم وحد، و نحو قوله تعالى: وَ ما لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [سورة يس، الآية: 22] فانه عدول عن خطاب الواحد إلى خطاب الجماعة.
السابع: التفات الأفعال، و هو الانتقال من الماضي أو المضارع أو الأمر إلى آخر و هو على أقسام أيضا و هذا كثير في القرآن الكريم و فيه لطائف دقيقة.
الثامن: الانتقال في الكلام من كل من التكلم و الخطاب و الغيبة إلى آخر و هو أشهر ما عرف في الالتفات عند علماء الأدب، و يكون ذلك على
مواهب الرحمان في تفسير القرآن، ج2، ص: 132
أقسام ستة:
الأول: من التكلم إلى الخطاب، نحو قوله تعالى: وَ أُمِرْنا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ وَ أَنْ أَقِيمُوا الصَّلاةَ [سورة الأنعام، الآية: 71].
الثاني: الالتفات من التكلم إلى الغيبة، نحو قوله تعالى: إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ [سورة الفتح، الآية: 1].
الثالث: من الخطاب إلى التكلم، كقوله تعالى: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتابَ مُفَصَّلًا وَ الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ [سورة الأنعام، الآية: 114].
الرابع: من الخطاب إلى الغيبة، نحو قوله تعالى: حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَ جَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَ فَرِحُوا بِها جاءَتْها رِيحٌ عاصِفٌ وَ جاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَ ظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ [سورة يونس، الآية: 22].
الخامس: من الغيبة إلى الخطاب، قال تعالى: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ - إلى قوله تعالى- إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَ إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [سورة الفاتحة، الآية: 4].
السادس: من الغيبة إلى التكلم، قال تعالى: وَ اللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَسُقْناهُ إِلى بَلَدٍ مَيِّتٍ [سورة فاطر، الآية: 9].
و للالتفات فوائد كثيرة مستفادة من الجملة الواقع فيها تليق بذلك الكلام الخاص، و تختلف باختلاف المقامات، فمنها دفع ما يشتمل الكلام على سوء أدب بالنسبة إلى المخاطب بالالتفات إلى الغائب. و منها توبيخ الحاضر لأنه أبلغ في الإهانة فيلتفت إلى الخطاب. و منها الالتفات إلى الماضي لإظهار الاستمرار، أو الالتفات إلى المستقبل للدلالة على الكثرة و التلبس بالفعل في كل وقت. و منها الالتفات إلى المضارع في مورد الماضي لأنه أبلغ و آكد و أعظم وقعا. و منها الالتفات إلى الماضي في مورد المضارع في الأمور الهائلة التي لم توجد أو الأمور العظيمة التي تحدث. و منها إظهار التفخيم، و تذكير السامع بما وقع الى غير ذلك من الفوائد.
مواهب الرحمان في تفسير القرآن، ج2، ص: 133
بحث روائي:
في تفسير القمي عن حريز عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال: «نزلت هذه الآية في اليهود و النصارى يقول اللّه تبارك و تعالى: الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ يعني: يعرفون رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ ، لأن اللّه عزّ و جل قد أنزل عليهم في التوراة و الإنجيل و الزبور صفة محمد (صلّى اللّه عليه و آله) و صفة أصحابه و مهاجرته، و هو قول اللّه عزّ و جل مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَ الَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَ رِضْواناً سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ وَ مَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ . و هذه صفة محمد رسول اللّه في التوراة و صفة أصحابه، فلما بعثه اللّه عزّ و جل عرفه أهل الكتاب، كما قال جلّ جلاله فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ . و قريب منه ما رواه في الكافي عن علي (عليه السلام).
أقول: هذه الرواية من الروايات التي وردت في بيان صفات رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) المختصة به المذكورة في القرآن و في جميع الكتب السماوية التي يتلوها أنبياء اللّه تعالى على أممهم.
و في الدر المنثور في الآية: الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ نزلت في مؤمني أهل الكتاب عبد اللّه بن سلام و أصحابه، كانوا يعرفون رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) بنعته و صفته و مبعثه في كتابهم، كما يعرف أحدهم ولده إذا رآه مع الغلمان. قال عبد اللّه بن سلام: لأنا أشد معرفة برسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) مني بابني، فقال له عمر بن الخطاب: كيف ذاك يا ابن سلام؟ قال: لأني أشهد أن محمدا رسول اللّه حقا يقينا و أنا لا أشهد بذلك على ابني لأني لا ادري ما أحدث النساء. فقال عمر: وفقك اللّه يا ابن سلام».
و في الكافي عن أبي جعفر (عليه السلام) في قوله تعالى: فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ قال (عليه السلام): «الخيرات الولاية».
أقول: هذا من باب التطبيق كما ذكرنا غير مرة، و يصح تطبيق الآية
مواهب الرحمان في تفسير القرآن، ج2، ص: 134
المباركة على القرآن و جميع المعارف الإلهية و قد تقدم الكلام فراجع.
و في الكافي أيضا عن أبي خالد الكابلي عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) في قول اللّه عزّ و جل: فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ أَيْنَ ما تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعاً . قال: «الخيرات الولاية. و قوله تعالى: أَيْنَ ما تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعاً يعني أصحاب القائم (عليه السلام) الثلاثمائة و البضعة عشر، قال: هم و اللّه الأمة المعدودة. قال: يجتمعون و اللّه في ساعة واحدة قزع كقزع الخريف».
و في تفسير العياشي عن الصادق (عليه السلام): «لقد نزلت هذه الآية في أصحاب القائم (عليه السلام) و انهم المفتقدون من فرشهم ليلا- الحديث-».
أقول: هذه الآية وردت في رجعة الحق إلى أهله، و الآيات في ذلك كثيرة كما تأتي. و أما الروايات الواردة في ذلك فهي متواترة بين الفريقين و عليه الإجماع أيضا، و سنثبت ذلك بالأدلة الكثيرة الآتية. و الرواية من باب التطبيق، كما تقدم.
و في تفسير القمي في قوله تعالى: إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا يعني: و لا الذين ظلموا منهم و «إلّا» في موضع «و لا» ليست هي استثناء».
أقول: هذا وجه حسن لا ينافي ما ذكرناه من صحة الاستثناء في الواقع، و قد تقدم في البحث الأدبي فراجع.
بحث فلسفي:
ذهب أكابر الفلاسفة إلى عدم الجعل التأليفي بين الماهية و ذاتياتها و تقدم في ضمن الآية الشريفة وَ مِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ بعض الأخبار التي تشعر بخلاف ذلك.
و استدلوا على البطلان بوجوه- ذكروها في كتبهم- أهمها:
أنّ ثبوت الشيء لنفسه ضروري، و سلبه عنه ممتنع فلا موضوع للجعل التأليفي حينئذ، لأن مناطه إنما هو الإمكان لا الضرورة
مواهب الرحمان في تفسير القرآن، ج2، ص: 135
و فيه: ان هذه القضية إنما تكون بعد الجعل و التحقق، و أما قبلهما فليس إلّا العدم المحض و يستوي الثبوت و عدمه بالنسبة إليه، و قد اشتهر بين الفلاسفة: ان الشيء من ذاته ليس، و من علته أيس (الوجود) فلا مجرى لتلك القضية و إن أطالوا القول فيها في الفلسفة.
بل قد نسب إلى بعض أكابرهم تعيين القول بذلك حذرا من تعدد القدماء، فان الذوات في مرتبة الذات متميزة فلو لم تكن مجعولة يلزم المحذور. و دفعه: بأن الشيئية مساوقة للوجود؛ و قبله لا شيء حتّى يلزم العدم. مخدوش: بأنّ اعتبار الذات أمر و اعتبار الوجود أمر آخر، و لا ربط لأحدهما بالآخر. و المسألة مشكلة تعرضوا لها في مواضع في الفلسفة: منها مسألة اصالة الوجود في التحقق، و اصالته في الجعل، و ربط الحادث بالقديم كما يأتي. و لا مفرّ عنه إلّا بما يظهر عن أئمة الدين (عليهم السلام) من أن قدرته التامة الأزلية تتعلق بتذويت الذوات و إخراجها من العدم إلى الوجود، و انه كان و لم يكن معه شيء- بأي معنى من معاني المعية و لو اعتبارا- و قدرته الكاملة على ما سواه بحيث لا يحيط بمعناها أحد و إنما عرّفها
أئمة الدين (عليهم السلام) بقولهم: «لا يعجزه شيء»
كل ذلك يقتضي ما ذكرناه.
إن قيل: إنّ الموضوع محال و قدرته تعالى لا تتعلق بالمحال. يقال: على فرض المحالية فهو محال اعتقادي لا محال واقعي، و ما لا تتعلق القدرة به هو الثاني دون الأول.
و قد نقل عن بعض الفلاسفة الأقدمين أنّ المبدأ مذوّت الذوات و جاعلها، و القدرة الكاملة الأزلية إنما تحصل بذلك.