کتابخانه تفاسیر
مواهب الرحمان في تفسير القرآن، ج2، ص: 218
شرعا، و عدم الارتباط بينها كذلك، سواء كانت الذنوب التي يتوب عنها موافقة بالنوع مع الذنوب التي لا يريد التوبة عنها، أو مخالفة لها كأن يريد التوبة عن الكذب دون الغيبة، أو يتوب عن شرب الخمر دون الزنا مثلا، و الدليل عليه مضافا إلى ذلك إطلاقات الأدلة و عموماتها، و تسمى هذه بالتوبة المفصلة.
و ذهب بعض العلماء الى عدم صحة التوبة كذلك بل يجب العموم- كما هو مذهب المسيحيين- في التوبة، لأنها إنما تكون لسقوط استحقاق العقاب، و مع ثبوت الاستحقاق الفعلي لسائر المعاصي لا موضوع للتوبة حينئذ.
و هو مردود بأن اختلاف الجهة يدفع ذلك فيرتفع الاستحقاق من جهة، و يبقى من جهة أخرى و لا تنافي بين الجهتين، كما لا يخفى.
نعم، لو كان بقاؤه على بعض المعاصي كاشفا عن عدم تحقق الندامة بالنسبة إلى ما تاب عنها فلا تتحقق التوبة حينئذ، و به يمكن الجمع بين الكلمات فراجع.
و من جميع ما تقدم يظهر أيضا صحة التوبة الموقتة بأن يتوب عن الذنب مدة معينة و لا يذنب فيها.
صيغ التوبة:
للتوبة عبارات متعددة، منها «أتوب إلى اللّه»، و «استغفر اللّه»، و «استغفر اللّه و أتوب إليه» و غير ذلك مما تثبت التوبة بكل واحدة منها بعد تحقق الندم من مرتكب المعصية، كما تقدم. و ليست فيها صيغة خاصة.
أقسام التوبة و مراتبها:
التوبة على أنواع، منها توبة الإنابة، و هي عبارة عن الخوف من اللّه جلّ شأنه لأجل قدرته على العاصي.
و منها: توبة الاستجابة، و هي عبارة عن الحياء من اللّه لقربه من العبد.
و منها: توبة العوام، و هي ناشئة عن الخوف من عذاب اللّه تعالى.
مواهب الرحمان في تفسير القرآن، ج2، ص: 219
و منها: توبة الخواص من الغفلة، و توبة الأنبياء من ترك الأولى و العجز عن ما ناله غيره، و هي أخص الخواص كما تقدم في آية- 37 من هذه السورة.
و أما مراتبها فهي ثلاثة:
الأولى: أن يتوب العبد عن الذنوب كلها و يستقيم على التوبة إلى آخر عمره و لا تصدر عنه المعاصي إلّا اللمم و الزلات التي لا يخلو عنها غير المعصومين، و هي التوبة النصوح المعبر عنها
في الروايات «أن يكون ظاهره كباطنه».
الثانية: أن يتوب عن الذنوب و يستقيم على الطاعات إلّا أنه لا يخلو في حياته عن بعض ذنوب قد تصدر منه و لكنه يندم و يأسف على كل ما صدر عنه، و هذا هو معنى التواب.
الثالثة: مثل السابقة و لكنه لا يحدث نفسه بالتوبة و لا يتأسف على ما صدر عنه.
التوبة في الأديان السماوية:
لا تختص التوبة و التطهير عن الأدناس و الخطايا بدين الإسلام فقط بل تعم جميع الأديان كلها و ان اختلفت في الكيفية و الشروط، و قد ورد في القرآن الكريم توبة آدم (عليه السلام)، قال تعالى: فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ فَتابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ [سورة البقرة، الآية: 37] و قول موسى (عليه السلام): فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ [سورة البقرة، الآية: 54] و قال تعالى حكاية عن هود (عليه السلام): وَ يا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ [سورة هود، الآية: 52] إلى غير ذلك من الآيات المباركة الدالة على ذلك، و لكن التوبة عند أكثر المسيحيين أحد أسرار الكنيسة السبعة على تفصيل مذكور عندهم.
[سورة البقرة (2): الآيات 163 الى 164]
مواهب الرحمان في تفسير القرآن، ج2، ص: 220
الآيات مرتبطة بالآيات السابقة فانها بمنزلة التعليل لجملة كثيرة من ما ورد في الآيات السابقة كجعل الإمامة، و بناء البيت، و تشريع بعض أعمال الحج، و جعل القبلة، و لعن الذين يكتمون ما أنزل اللّه من البينات، و قبول توبتهم، فذكر سبحانه و تعالى أوّلا أنّ المعبود واحد و رحمته عامة تشمل الجميع و إن اختلف متعلقها من حيث الرحمة الرحمانية و الرحمة الرحيمية، ثم شرح ذلك في الآية الثانية بذكر آيات عظام ينتظم بها أمور العالم و يعيش بها كل ذي حياة. و مجموعها تدل على أنّ من كانت صفاته هكذا فهو مبدأ كل خير و منتهى كل أمر.
التفسير
قوله تعالى: وَ إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ . تقدم ما يتعلق بلفظ الإله في البسملة من سورة الفاتحة و المستفاد من ما ذكرناه هناك أنه محبوب كل الأشياء، قال تعالى: وَ إِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ [سورة الإسراء، الآية: 44] و لا ريب أنّ التسبيح فرع المحبة.
و الواحد مبدأ التكثرات، أي أنه واحد الذات و الصفات و الأفعال و في عين ذلك هو مبدأ التكثرات و مفنيها، كما يكون الواحد كذلك
و قد نسب إلى مولانا الجواد (عليه السلام) في بيان معنى الواحد فقال (عليه السلام): «إجماع الألسنة عليه بالوحدانية،
لقوله تعالى: وَ لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فجعل (عليه السلام) مناط الوحدانية الخلاقية العظمى التي اجتمعت الألسن عليها دون سائر جهات الوحدانية التي تقصر العقول عن درك بعضها فضلا عن جميعها.
و قد فرق العلماء بين الواحد و الأحد- بعد كون الأخير هو الواحد أبدلت الواو همزة ثم خفف اللفظ فصار أحدا- بوجوه تقدمت في آية 133 من هذه
مواهب الرحمان في تفسير القرآن، ج2، ص: 221
السورة أهمها امور:
الأول: أنّ الواحد هو المتفرد بالذات، و الأحد أعم منه.
الثاني: أنّ الواحد يطلق على ذوي العقول و غيرهم، و الأحد لا يطلق إلّا على الأول، و قد يطلق على غيره.
الثالث: أنّ الواحد يدخل في الضرب في العدد دون الأحد كما مر.
و إنّما اطلق سبحانه لفظ الواحد ليفيد العموم فيشمل الوحدة في الذات فلا جزء له، و الوحدة في الألوهية و العبادة فلا شريك له، و الوحدة في الصفات، و الوحدة في الأفعال فينتفي بذلك أنواع الشرك فهو واحد من جميع الجهات ليس كمثله شيء.
و كرر لفظ الإله لإفادة أن استحقاق العبادة و المعبودية إنما هو الوحدة في الألوهية فهو متقوم بها، فلو قال تعالى: «و إلهكم واحد» لما أفاد هذا المعنى.
ثم إنّ الألوهية إما أن تكون واقعية حقيقية، و أما أن تكون اعتقادية، و ما هو متقوم بالوحدة إنما هي الأولى دون الثانية، فإنها تحصل من التكثرات و تتنافى مع الوحدة، قال تعالى: أَ جَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ [سورة ص، الآية: 5]، و قد حصل لهم التعجب، لأنها اعتقادية خيالية تابعة لأهوائهم. قال تعالى: أَ رَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ [سورة الفرقان، الآية: 43]. و الآيات و الروايات و الأدلة العقلية تدل على كثرة هذا الإله و تعدده بحيث لا حصر له و لا عد.
قوله تعالى: لا إِلهَ إِلَّا هُوَ . هذه العبارة من أوضح العبارات الدالة على وجود اللّه و توحيده و نفي ما عداه، و هي كلمة نابعة من ينبوع الفطرة المستقيمة.
قوله تعالى: الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ . تقدم تفسيرهما في بسملة الفاتحة، و ذكر هما في المقام لتقوم الربوبية العظمى بهما.
ثم إنّ ما ورد في هذه الاية الشريفة من البيّنات الواضحة الدالة على وجود اللّه تعالى و وحدانيته و بديع صنعه الناشئ من رحمته التي وسعت كل
مواهب الرحمان في تفسير القرآن، ج2، ص: 222
شيء، و مضمونها من أقرب الأشياء إلى الفطرة، و أوضح الأمور التي يقبلها العقل السليم و لا يحتاج إلى البرهان، لكنه تبارك و تعالى بعظيم لطفه و سابق منّه شاء أن يرشد الإنسان إلى ذلك بإقامة الحجة القيمة ليستفيد منها العالم و غيره كل بحسب استعداده، و ليكون العلم بذلك بالبرهان المتين، فذكر جلّت آلاؤه بعض الآيات من خليقته و ظواهر الكون الدالة على وحدانيته و رحمته.
قوله تعالى: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ . مادة خلق تأتي لمعان منها: إبداع الشيء من غير مثال، كقوله تعالى: وَ هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ [سورة الأنعام، الآية: 73]، فهو مثل البديع، قال تعالى: بَدِيعُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ [سورة البقرة، الآية: 117]، و فاطر قال تعالى:
الْحَمْدُ لِلَّهِ فاطِرِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ [سورة الفاطر، الآية: 1] و هذا مما يختص به تعالى، قال عزّ و جل: أَ فَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَ فَلا تَذَكَّرُونَ [سورة النحل، الآية: 17].
و منها: إيجاد شيء من شيء، قال تعالى: خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ [سورة النحل، الآية: 4]، و قال تعالى: خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ [سورة الرحمن، الآية: 14]، و قال تعالى: وَ خَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مارِجٍ مِنْ نارٍ [سورة الرحمن، الآية: 15]، و بهذا المعنى يصح استعماله في غيره تعالى، قال عزّ و جل: وَ إِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيها فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي [سورة المائدة، الآية: 110].
و منها: التقدير، و يصح استعماله في غيره تعالى أيضا، لأن التقدير من مبادئ كل إرادة نفسانية، و لعل منه قوله تعالى: فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ [سورة المؤمنون، الآية: 14]، و ربما يكون المراد منه الخالق الاعتقادي لا الواقعي كقوله تعالى: أَ جَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً [سورة ص، الآية: 5]. و قد ثبت في محله امتناع تعدد الآلهة الواقعية.
و السموات هي الأفلاك العلوية بجميع أجرامها و كواكبها المختلفة و منظوماتها المتعددة- التي منها منظومتنا الشمسية- المختلفة في أعدادها
مواهب الرحمان في تفسير القرآن، ج2، ص: 223
و أبعادها و أوزانها و المؤتلفة بينها بنظام دقيق، و هو قانون الجاذبية في الأفلاك السابحة في الفضاء الفسيح غير المتناهي بسير منتظم وفقا لقواعد فلكية، المؤثرة في حياتنا الأرضية بنحو من التأثير و غير ذلك مما فيه آيات بينات دالة على وحدة صانعها و حكمته البالغة، يبهر المتأمل في ظواهرها فكيف بمن اطلع على عجائبها.
و قد ورد لفظ السموات في القرآن الكريم بصيغة الجمع في ما يقرب من مأتي مورد، أو بصيغة المفرد أكثر من مائة مورد، و الجميع مقرون بما يدل على جلالة الصانع و بداعة صنعه و كمال الخلق و لم يرد لفظ السماء في القرآن بلفظ التثنية.
و الأرض هي هذا الكوكب العظيم الذي نعيش عليه و نموت فيه و نحيا منه، و هي مبدأ الحياة بجميع أقسامها، المشتملة على آيات باهرات، الدالة على بديع صنعه تعالى، قال عزّ و جل: وَ فِي الْأَرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ [سورة الذاريات، الآية: 20]. و لم يرد لفظ الأرض في القرآن الكريم إلّا مفردا، و لعل السر فيه أن السماء أنواع مختلفة و أجرام متفرقة و مجاميع متفاوتة، و الأرض نوع واحد ذات أجزاء مختلفة. او لإيقاع التآلف بين بني آدم و إرشادهم إلى نبذ الاختلاف و الفرقة و اعلامهم بأنهم من شيء واحد و في عالم واحد.
و أما قوله تعالى: خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ وَ مِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَ [سورة الطلاق، الآية: 12] فسيأتي المراد منه عند تفسير الآية الشريفة في موضعها إن شاء اللّه تعالى.
قوله تعالى: وَ اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَ النَّهارِ . أي كون أحدهما خلف الآخر، و تعاقبهما في المجيء و الذهاب مما يوجب دخول أحدهما في الآخر، كما في قوله تعالى: يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَ يُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ [سورة لقمان، الآية: 29]، و ذلك على حساب دقيق مستمر في جميع أيام السنة و في جميع أقطار الأرض حسب مواقعها في الطول و العرض و اختلاف الفصول.
مواهب الرحمان في تفسير القرآن، ج2، ص: 224
و الليل اسم جنس واحده ليلة، كتمر و تمرة، و النهار اسم جنس أيضا و يقع على القليل و الكثير على حد سواء، و لم يسمع له جمع في الاستعمالات الفصيحة.
و اختلاف الليل و النهار كذلك فيه من الحكم و المصالح الدالة على حكمته البالغة و عظيم صنعه، و فيه من المنافع للنّاس مما يدل على عظيم لطفه، و قد أشار سبحانه إلى بعض تلك المنافع في آيات أخرى فقال تعالى: وَ جَعَلْنَا اللَّيْلَ وَ النَّهارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ وَ جَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَ الْحِسابَ وَ كُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْناهُ تَفْصِيلًا [سورة الإسراء، الآية: 12]، و قال تعالى: وَ هُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَ النَّهارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرادَ شُكُوراً [سورة الفرقان، الآية: 62]، و قال تعالى: وَ مِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَ النَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [سورة القصص، الآية: 73].
قوله تعالى: وَ الْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِما يَنْفَعُ النَّاسَ . الفلك- بضم الأول و سكون الثاني- السفينة و مفردها كجمعها و يفرق بينهما بالقرائن، قال تعالى: وَ تَرَى الْفُلْكَ مَواخِرَ فِيهِ [سورة النحل، الآية: 14] و قال تعالى: وَ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَ وَحْيِنا [سورة هود، الآية: 37]. فإن الأول جمع و الأخير مفرد، و قد ورد هذا اللفظ في القرآن الكريم في ما يزيد على عشرين موردا، و أما الفلك- بفتح الأول و الثاني- فهو مجرى الكواكب.