کتابخانه تفاسیر
نفائس التأويل، ج1، ص: 271
فليس بشيء؛ لأنّ السهو يزيل التكليف و يخرج الفعل من أن يكون ذنبا مؤاخذا به، و لهذا لا يصح مؤاخذة المجنون و النائم. و حصول السهو في أنّه مؤثّر في ارتفاع التكليف بمنزلة فقد القدرة و الآلات و الأدلّة، فلو جاز أن يخالف حال الأنبياء في صحّة تكليفهم مع السهو، جاز أن يخالف حالهم لحال أممهم في جواز التكليف مع فقد سائر ما ذكرناه و هذا واضح.
فأمّا الطريق الّذي به يعلم أنّ الأئمة عليهم السّلام، لا يجوز عليهم الكبائر في حال الإمامة، فهو أنّ الإمام إنّما احتيج إليه لجهة معلومة؛ و هي أن يكون المكلّفون عند وجوده أبعد من فعل القبيح و أقرب من فعل الواجب على ما دلّلنا عليه في غير موضع، فلو جازت عليه الكبائر لكانت علة الحاجة إليه ثابتة فيه، و موجبة وجود إمام يكون إماما له، و الكلام في إمامته كالكلام فيه، و هذا يؤدّي إلى وجود ما لا نهاية له من الأئمة و هو باطل، أو الانتهاء إلى إمام معصوم و هو المطلوب.
و ممّا يدلّ أيضا على أنّ الكبائر لا تجوز عليهم، أنّ قولهم قد ثبت أنّه حجّة في الشرع كقول الأنبياء عليهم السّلام بل يجوز أن ينتهي الحال إلى أنّ الحقّ لا يعرف إلّا من جهتهم، و لا يكون الطريق إليه إلّا من أقوالهم على ما بيّناه في مواضع كثيرة، و إذا ثبت هذا جملة جروا مجرى الأنبياء عليهم السّلام فيما يجوز عليهم و ما لا يجوز، فإذا كنّا قد بيّنا أنّ الكبائر و الصغائر لا يجوز ان على الأنبياء عليهم السّلام قبل النبوّة و لا بعدها، لما في ذلك من التنفير عن قبول أقوالهم، و لما في تنزيههم عن ذلك من السكون إليهم، فكذلك يجب أن يكون الأئمة عليهم السّلام منزّهين عن الكبائر و الصغائر قبل الإمامة و بعدها؛ لأنّ الحال واحدة «1» .
(1) تنزيه الأنبياء، و الأئمّة: 15.
نفائس التأويل، ج1، ص: 272
[المقدّمة]
سألتم أيّدكم اللّه و أحسن توفيقكم إملاء كتاب في متشابه القرآن و الكلام على شبه سائر المبطلين الذين تعلّقوا بآياته، كالمجبّرة و المشبّهة و الملحدة، و من عداهم من أعداء الاسلام الطاعنين فيه.
و ذكر أنّ ما صنّف من الكتب في هذا الباب لا يحيط به المعاني أجمع؛ لأنّ أكثر من تكلّم على متشابه القرآن إنّما تشاغل بالمجبّرة و المشبّهة و لم يعرض لمن عداهم.
و التفاسير الكاملة ربّما لم يستوف مصنّفوها الكلام على هذه الأغراض و من استوفى شيئا منها فهو من خلال كلام طويل و بحر عميق يتعذّر على المستفيد إدراكه و يتعذّر عليه إصابته.
و أنا أجيب إلى ما التمسوه مستعينا باللّه تعالى و مستمّدا منه توفيقه و تأييده، و هو حسبي و نعم الوكيل).
نفائس التأويل، ج1، ص: 273
سورة الفاتحة [متشابه فاتحة الكتاب]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
إن سأل سائل فقال: ما الوجه في تكرير قوله تعالى: الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ و كلاهما يفيد معنى واحدا، و اشتقاقهما من الرحمة، و قد كان في ذكر أحدهما كفاية عن الآخر.
الجواب:
قلنا: في ذلك وجوه:
أوّلها: أنّ قولنا: «الرحمن» أبلغ في المعنى و أشدّ قوة من قولنا: «الرحيم» و هذا المثال ممّا وضعه أهل اللغة للمبالغة و القوّة، ألا ترى أنّهم يقولون:
سكران و غضبان و عطشان [و جوعان] لمن امتلىء سكرا و غضبا و عطشا و اشتدّ جوعه؟ و هذا الوجه ذكره المبرّد.
و ثانيها: أنّ «الرحمن» يفيد عموم الرحمة بالعباد في الدنيا، و «الرحيم» يختصّ بالمؤمنين في الأخرة، يقوّى هذا الوجه في قوله تعالى: وَ كانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً «1» ، فإذا كان بينهما هذا الفرق فذكرهما واجب.
و ثالثها: أنّ قولنا: «رحمن» يشترك فيه اللغة العربية و العبرانية و السريانية، و قولنا: «رحيم» يختصّ بالعربية، فأراد تعالى أن يصف، فعبّر بالرحمة بالوصف الخاصّ و المشترك حتى لا تبقى شبهة.
و رابعها: أنّ «الرحمن» من الأوصاف التي يختصّ بها القديم تعالى، و لا
(1) سورة الأحزاب، الآية: 43.
نفائس التأويل، ج1، ص: 274
يجوز أن يسمّى بها غيره، و «الرحيم» يختصّ به و بغيره يشترك بينه و بين غيره، فأراد تعالى أن يصف نفسه بما يختصّ به، و يشارك فيه من أوصاف الرحمة و هذا يرجع معناه إلى الجواب الأوّل؛ لأنّه لما اختصّ «الرحمن» به تعالى لقوّته و مبالغته.
و خامسها: أن يكون المعنى و إن كان واحدا، فالمراد به التوكيد، و الشيء قد يؤكّد على مذاهب العرب، بأن يعاد لفظه بعينه، كقول الشاعر:
ألا سألت جموع كندة
إذ تولّوا أين أينا «1»
و قد تؤكد أيضا بأن يخالف بين اللفظين و إن كان المعنى واحدا، كقول الشاعر:
و هند أتى من دونها النأي و البعد «2»
و هذا التأكيد المختلف اللفظ أحسن عندهم، و نظائره و شواهده أكثر من أن تحصى، و التأكيد في قوله تعالى: الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ أحسن وجهي التأكيد و أبلغهما.
و هذا الجواب على مذهب من يقول: إنّ التأكيد لا يفيد إلّا معنى المؤكّد، و في هذا خلاف ليس هذا موضع ذكره.
مسألة: فإن قال قائل: فما الوجه في قوله تعالى: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ هذا الكلام لا يخلو من أن يكون خبرا و تحميدا منه تعالى لنفسه أو أمرا، فان كان خبرا فأيّ فائدة في أن يحمد هو تعالى لنفسه و يشكرها، و إن كان أمرا فليس بلفظا لأمر.
(1) كذا في المطبوعة، و في الأغاني هكذا:
« هلا سألت جموع كندة
يوم ولوا أين أينا »
و نسبه إلى عبيد بن الأبرص. الأغاني، 5: 477.
(2) البيت لحطيئة، انظر اللسان مادة «سند».
نفائس التأويل، ج1، ص: 275
الجواب:
قلنا قد قيل في ذلك: أنّه أمر، و أنّ المعنى فيه قولوا: «الحمد للّه» و روي أنّ جبرائيل لمّا نزل على النبي صلى اللّه عليه و آله و سلم بهذه السورة، قال له: قل يا محمد! و أمر أمتك بأن يقولوا: «الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ» و حذف القول.
و في القرآن و اللغة أمثاله كثيرة، قال اللّه تعالى: وَ الْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ (23) سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ «1» و قال تعالى: وَ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى «2» و المعنى: أنّهم قالوا كذلك.
و قال الشاعر:
وقفت يوما به أسائله
و الدمع ملي الحبيب تستبق
بأربع ان تقول لهم سلكوا
أم أيّ وجه تراهم انصفقوا
و إنّما أراد: أقول بأربع. فحذف.
جواب آخر: و هو أن يكون الكلام مستقلا بنفسه لا حذف فيه، و الغرض به أن يخبرنا أنّ الحمد كلّه له، و أنّه يستحقّ له بكلّ نعمة ينالها الحمد و الشكر.
ألا ترى أنّ كلّ نعمة وصلت إلينا من قبل العباد، فهي مضافة إليه و واصلة من جهته؛ لأنّه تعالى جعلنا على الصفات التي لو لم يجعلنا عليها لما انتفعنا بتلك النعمة، كالحياة و الشهوة و ضروب الألات و غير ذلك.
و لو لم يجعل لنا أيضا تلك الأجسام التي نتناولها و ننتفع بها على ما هي عليه من الطعوم و الصفات لما كانت نعمة، فقال: إنّ المرجع بالنعم كلّها إليه و الحمد كلّه يستحقّه.
مسألة: فإن قال: فما الوجه في قوله تعالى: الْحَمْدُ لِلَّهِ و لم يقل:
الحمد لي، و هو أخصر و أقرب و أولى في الاختصاص.
(1) سورة الرعد الآيتان: 23 و 24.
(2) سورة الزمر، الآية: 3.
نفائس التأويل، ج1، ص: 276
الجواب:
قلنا: للخطاب موافق يتّفق في المعنى، و يختلف في الفخامة و التعظيم و الجلالة و النباهة، فيكون العدول إلى ما اقتضى التفخيم أولى، و إن كان المعنى واحدا، وجدناهم يفرّقون بين خطاب الوالد لابنه و الرئيس لرعيّته، و بين خطاب النظيرين، فيقول الوالد لابنه يجب أن تطيع أباك فلأبيك عليك الحقّ، و يكون هذا أولى في خطابه الدالّ على تقدّمه عليه، من أن يقول له يجب أن تطيعني و لا تعصيني.
و يكتب الخليفة في الكتب النافذة عنه: أمير المؤمنين يقول كذا و كذا و ما يرتكب كذا و كذا، و ربّما شافهه بمثل هذا الخطاب.
و كلّ هذا يقتضي جلالة هذه السورة و فخامة موضعها.
و إذا كان الأمر على ما ذكرناه، فالعدول عن القول الذي ذكروه أولى، و ما اختاره اللّه في كتابه هو الواجب.
مسألة: فإن قيل: فما الوجه في قوله تعالى: مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ و هو تعالى مالك ليوم الدين و لغير يوم الدين و لكلّ شيء من المملوكات؟
و ما السبب في هذا الاختصاص في الموضع الذي يقتضي العموم و الشمول.
الجواب:
أحد ما قيل في هذا الموضع: إنّ وجه اختصاص الملك ليوم الدين من حيث كانت الشبهات في ذلك اليوم زائلة عن تفرّده بالملك؛ لأنّ من يدعي أنّ الملك في الدنيا لغيره و يدعو من دونه أضدادا و أندادا تزول هناك شبهته و تحصل معرفته على وجه لا يدخله الشكّ و لا يعترضه الريب، فكأنّه أضاف الملك إلى يوم الدين لزوال الريب فيه و انحسار الشبهات عنه.
و وجه آخر: و هو أنّ يوم الدين إذا كان أعظم المملوكات و أجلّها خطرا و قدرا، فالاختصار «1» عليه يغني عن ذكر غيره؛ لأنّ ملك العظيم الجليل يملك
(1) خ ل: فالاقتصار.
نفائس التأويل، ج1، ص: 277
الحقير الصغير [بطريق] أولى، و من عادة العرب إذا أرادوا العظيم و المبالغة أن يعلّقوا الكلام بأعظم الأمور و أظهرها، و يكتفون بذلك عن ذكر غيره شمولا أو عمومه «1» .
ألا ترى أنّهم إذا أرادوا أن يصفوا رجلا بالجود و يبالغوا في ذلك، قالوا:
هو واهب الألوف و القناطير، و لم يفتقروا أن يقولوا: هو واهب الدوانيق و القراريط؛ للاستغناء عنه و لدلالة الكلام عليه؟
و وجه آخر: و هو أن يكون في الكلام حذف، و يكون تقديره: مالك يوم الدين و غيره، كما قال تعالى: سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ «2» فحذف اختصارا.
و هذا الجواب يضعف و إن كان قوم من المفسّرين قد اعتمدوه في هذا الموضع؛ لأنّ الحذف إنّما يحتاج إليه عند الضرورة بتعذّر التأويل، فأمّا مع إمكانه و تسبله «3» فلا وجه لذكر الحذف.
و المثال الذي مثّلوا به غير صحيح؛ لأنّ قوله تعالى: سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ ما يرد «4» و البرد، ثم حذفه، بل الوجه فيه أنّه خاطب قوما لا يمسّهم إلّا الحرّ، و لا مجال للبرد عليهم؛ لأنّ بلادهم يقتضي ذلك، فنفى الأذى الذي يعتادونه «5» .
و يمكن أن يكون إرادة نفي الامرين، فدلّ على نفي أضعفهما، كما ذكرناه قبل.
مسألة: فإن قيل: فما الوجه في قوله تعالى: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَ إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ و ما الفائدة في هذا التكرار؟ و يغني أن يقول: إيّاك نعبد و نستعين.
الجواب:
قلنا: قد قيل في ذلك: إنّ الكناية لو تأخّرت عن القائل فيها لتكرّرت،
(1) كذا و الظاهر: عموما.
(2) سورة النحل، الآية: 81.
(3) كذا و الظاهر: و تسيره.
(4) كذا و الظاهر: ما أراد.