کتابخانه تفاسیر
نفائس التأويل، ج1، ص: 277
الحقير الصغير [بطريق] أولى، و من عادة العرب إذا أرادوا العظيم و المبالغة أن يعلّقوا الكلام بأعظم الأمور و أظهرها، و يكتفون بذلك عن ذكر غيره شمولا أو عمومه «1» .
ألا ترى أنّهم إذا أرادوا أن يصفوا رجلا بالجود و يبالغوا في ذلك، قالوا:
هو واهب الألوف و القناطير، و لم يفتقروا أن يقولوا: هو واهب الدوانيق و القراريط؛ للاستغناء عنه و لدلالة الكلام عليه؟
و وجه آخر: و هو أن يكون في الكلام حذف، و يكون تقديره: مالك يوم الدين و غيره، كما قال تعالى: سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ «2» فحذف اختصارا.
و هذا الجواب يضعف و إن كان قوم من المفسّرين قد اعتمدوه في هذا الموضع؛ لأنّ الحذف إنّما يحتاج إليه عند الضرورة بتعذّر التأويل، فأمّا مع إمكانه و تسبله «3» فلا وجه لذكر الحذف.
و المثال الذي مثّلوا به غير صحيح؛ لأنّ قوله تعالى: سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ ما يرد «4» و البرد، ثم حذفه، بل الوجه فيه أنّه خاطب قوما لا يمسّهم إلّا الحرّ، و لا مجال للبرد عليهم؛ لأنّ بلادهم يقتضي ذلك، فنفى الأذى الذي يعتادونه «5» .
و يمكن أن يكون إرادة نفي الامرين، فدلّ على نفي أضعفهما، كما ذكرناه قبل.
مسألة: فإن قيل: فما الوجه في قوله تعالى: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَ إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ و ما الفائدة في هذا التكرار؟ و يغني أن يقول: إيّاك نعبد و نستعين.
الجواب:
قلنا: قد قيل في ذلك: إنّ الكناية لو تأخّرت عن القائل فيها لتكرّرت،
(1) كذا و الظاهر: عموما.
(2) سورة النحل، الآية: 81.
(3) كذا و الظاهر: و تسيره.
(4) كذا و الظاهر: ما أراد.
(5) راجع أيضا الذخيرة: 579.
نفائس التأويل، ج1، ص: 278
فكذلك يجب إذا تقدّمت. ألا ترى أنّه لو قال: نعبدك و نستعينك، لكان يجب من تكرار الكناية ما يجب مثله إذا تقدّمت؟.
و هذا ليس بشيء؛ لأنّه يجوز أن يقول القائل: نعبدك و نستعين، و يقول: أمّا زيد فانّي أحبّه و أكرم، فلا تكرّر الكناية، فسقط هذا الوجه.
و قيل أيضا في جواب هذه الشبهة: إنّ الفائدة في تكرار لفظ «إياك» التأكيد، و إن كان المعنى واحدا.
و هذا الجواب إنّما يتمّ على مذهب من يقول بالتأكيد، و أنّ معناه معنى المؤكّد في اللغة.
و أصحّ ما أجيب عن هذه الشبهة أنّه تعالى لو قال: إياك نعبد و نستعين، لكان الكلام موهما؛ لأنّ الاستعانة تكون لغيره، لأنّه لم يعلّقها في الكلام به تعليقا يمنع من هذا التوهّم و الاحتمال، فإذا قال: و إياك نستعين، زال الاحتمال و تخصّص الكلام.
مسألة: فإن قيل: ما أنكرتم أن يكون أمره لنا بأن نعبد دليلا على أنّه ما فعل المعونة، و أنّه يجوز أن لا يفعلها، منها «1» على أنّ القدرة مع الفعل حتى يصحّ أن يدعوه بأن يجدّدها في كلّ حال.
الجواب:
قلنا: ليس الأمر على ما توهّموه في معنى الأية؛ لأنّه يجوز بأن يكون قد أعاننا ... «2» .
و رابعها: أن يكون الصراط هاهنا معناه الطريق إلى الجنّة؛ لأنّ الأصل في تسمية الصراط بأنّ الصراط هو الطريق، قال الشاعر:
أمير المؤمنين على صراط
إذا اعوج الموارد مستقيم
فكان دعوناه تعالى بأن يدخلنا الجنّة أن يهدينا إلى طريق الثواب، و هذا أمر
(1) كذا في المطبوعة.
(2) قال في الهامش: هذا المقام فيه سقط.
نفائس التأويل، ج1، ص: 279
مرجوّ مستقبل ما تقدّم مثله، و يكون التماسه باطلا، و قد سمّى اللّه تعالى الإيصال إلى الثواب و إلى العقاب بأنّه هداية إليهما، فقال تعالى: وَ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ (4) سَيَهْدِيهِمْ وَ يُصْلِحُ بالَهُمْ (5) «1» و نحن نعلم أنّ الهداية التي تكون في الأخرة بعد انقطاع التكليف لا يليق إلّا بالثواب و طريقه دون غيره.
و قال تعالى: فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ «2» و قال عزّ من قائل في موضع آخر: وَ لا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً (168) إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ «3» .
و هذا كلّه يوضح ما ذكرناه، من أنّ الهداية قد تكون إلى الثواب و إلى العقاب، فسقطت الشبهة من كلّ وجه.
مسألة: فان قيل: فما الوجه في قوله تعالى: صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ و هو يعني المؤمنين لا محالة، و ليس هذا «4» يقتضي أن يكون منعما عليهم بالإيمان والدين؛ لأنّه لو أراد غير ذلك لما كان فيه تخصيص للمؤمنين من الكافرين الضالّين؛ لأنّ نعم الدنيا تشتمل الجميع، و كذلك النعمة بالتكليف، و التعريض شاملة للجميع، فلم يبق ما يختصّ به المؤمنون إلّا الإيمان، و إذا كان منعما بالإيمان وجب أن يكون من فعله تعالى؛ لأنّ المنعم لا يكون منعما إلّا بما يفعله.
الجواب:
قلنا: غير مسلّم لكم أنّ المراد بالإنعام هاهنا الإيمان و الدين؛ لأنّه تعالى قد ينعم على المؤمنين بأشياء يخصّهم دون الكافر بالخواطر و البواعث السهلة الشارحة للصدور، و لهذا قال تعالى: وَ الَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً «5» فبيّن أنّه قد خصّهم لمكان هداهم و إيمانهم بما لم يعمّ به الكافرين.
ثم يجوز أن يريد بالنعمة هاهنا الثواب؛ لأنّ الثواب من فعله، و إذا كان إنّما
(1) سورة محمّد، الآيتان: 4 و 5.
(2) سورة الصافات، الآية: 23.
(3) سورة النساء، الآيتان 168 و 169.
(4) و هذا.
(5) سورة محمّد، الآية: 17.
نفائس التأويل، ج1، ص: 280
استحقّ بتعريضه و تكليفه كان نعمة منه تعالى و منسوبا إلى تفضّله و رحمته.
ثم لو سلّمنا أنّ المراد بالأية الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ بالإيمان حسب ما اقترحوا لم تكن فيه دلالة على أنّ الإيمان من فعله عزّ اسمه؛ لأنّه إذا كان بتفويضه و تكليفه و توفيقه و ألطافه و معونته، فهو نعمة منه.
ألا ترى أنّ أحدنا إذا دفع إلى غيره مالا عظيما تفضّلا عليه، فصرفه ذلك الغير في ضروب المنافع و ابتياع العبيد و الضياع، لم يمتنع أحد من أن ينسب تلك الضياع بأنّها نعمة من دافع المال من حيث وصل إليها بنعمته و معونته، و هذا واضح لا شبهة فيه «1» .
[بحث فقهي:]
و ممّا انفردت به الإمامية إيثار ترك لفظة آمين بعد قرائة الفاتحة؛ لأنّ باقي الفقهاء يذهبون إلى أنّها سنّة «2» . دليلنا على ما ذهبنا إليه إجماع الطائفة على أنّ هذه اللفظة بدعة و قاطعة للصلاة، و طريقة الاحتياط أيضا؛ لأنّه لا خلاف في أنّه من ترك هذه اللفظة لا يكون عاصيا، و لا مفسدا لصلاته، و قد اختلفوا فيمن فعلها، فذهبت الإمامية إلى أنّه قاطع لصلاته و الأحوط تركها.
و أيضا فلا خلاف في أنّ هذه اللفظة ليست من جملة القرآن، و لا مستقلة بنفسها في كونها دعاء و تسبيحا، فجرى التلفّظ بها مجرى كلّ كلام خارج عن القرآن و التسبيح، فإذا قيل هي تأمين على كلّ دعاء سابق لها و هو قوله عزّ و جلّ:
اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ.
قلنا: الدعاء إنّما يكون دعاء بالقصد، و من يقرأ الفاتحة إنّما قصده التلاوة دون الدعاء، و قد يجوز أن يقرأ من قصد الدعاء، و مخالفنا يذهب إلى أنّها مسنونة لكلّ فصل من غير اعتبار قصده إلى الدعاء، و إذا ثبت بطلان إستعمالها فيمن لم يقصد إلى الدعاء ثبت ذلك في الجميع؛ لأنّ أحدا لم يفرق بين الأمرين «3» .
(1) الرسائل، 3: 287 إلى 296.
(2) المحلّى، 3: 264.
(3) الانتصار: 42.
نفائس التأويل، ج1، ص: 281
سورة البقرة
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[مسألة:] فإن قيل: كيف يجوز أن يسمّي اللّه تعالى السور بهذه الاسماء؟
و لم تجر عادة العرب أن يسمّوا بمثلها، و القرآن بلغتهم.
قلنا: ليس في الأسماء حطّة، و لا يجب فيه الاتّباع و الاقتداء، و لهذا جاز أن يحدث أهل كلّ صناعة لما عرفوه من الألات و الادوات أسماء، و إن لم تكن تلك الاسماء في اللغة أسماء لتلك المسمّيات، و قد يجوز أن يسمّي أحدنا ولده ما لم يسبق إليه، و لا يكون بذلك معيبا.
فإن قيل: كيف يجوز أن تكون هذه الحروف أسماء للسور مع اشتراك جماعة من السور في بعضها و خلوّ كثير من السور من شيء منها؟
قلنا: أمّا الاشتراك فغير ممتنع أسماء الالقاب، و ان كان الالقاب في الاصل «1» إذا كانت للتميّز ألّا يقع فيها الاشتراك، ثم عند وقوع الاشتراك فيها فزعوا إلى الصفات، و لهذا قالوا: زيد الطويل العاقل، و ألحقوا الصفة لمّا وقع الاشتراك في الاسم، و لو لم يكن في العالم إلّا زيد واحد، لما احتاجوا إلى الصفة.
و هكذا السور، لمّا وقع الاشتراك في أسمائها ألحقوا بها ما بيّنه على التمييز، فقالوا: الدخان و الزخرف و ما أشبه ذلك، و لم يحتاجوا إلى ذلك فيما ينفرد بلقبه، كصاد و قاف و طه و ما جرى مجراهنّ.
فأمّا خلو بعض السور من اسم؛ لأنّ وضع الاسماء في الأصل غير واجب، و إذا كان جائزا أن يختصّ مسمّى دون غيره.
(1) كذا و الظاهر: و ان كان الاصل في الالقاب.
نفائس التأويل، ج1، ص: 282
- الم
فإن قيل: فما الوجه فيما افتتح هذه السورة من قوله: الم و هو كلام لا يعرف معناه و لا يعلم فحواه؟ و كيف يجوز أن يخاطبهم بما لا يعرفونه و لا يقولونه؟
الجواب:
قلنا: قد ذكر الناس في معنى الحروف المقطّعة التي افتتحت بها السور وجوها كثيرة، فبعضها صحيح و بعضها فاسد، و نحن نذكر الصحيح الذي نختاره و ننّبه على ما فيه اختلاف و فساد.
فمن أصحّ ما ذكر في ذلك و أبعده من الفساد أن يكون هذه الحروف أسماء للسور و شعارا لها، و الاسماء إذا كانت على سبيل التلقيب «1» الذي ذكرناه و التمييز «2» ؛ لأنّ الألقاب جارية مجرى الاشارة، و لا يفيد في اللقب أكثر من الاشارة إليه، و إمكان الإخبار عنه عند الغيبة باللقب، كما أمكنت الاشارة مع الحضور.
ألا ترى أنّ قولنا: «زيد و عمرو» لا يفيدان أكثر من التلقب الذي ذكرناه، و لا يجريان مجرى طويل و قصير و ما أشبهها من الصفات؟ و من أمارة كون الاسم لقبا أن يجوز تبديله و تغييره و اللغة على ما هي عليه، و الإسم المفيد لا يجوز تغييره إلّا بتغير اللغة.
ألا ترى أنّه لو سمّينا رجلا ب «زيد» ثم بدا لنا في ذلك فسمّيناه ب «عمرو» لساغ ذلك و اللغة على ما كانت عليه، و إذا وصفناه بأنّه طويل لم يجز أن نصفه بالقصير، و نرجع عن وصفه بالطويل إلّا مع تغيّر اللغة و انقلابها.
و هذا الوجه الذي ذكرناه في هذه الفواتح، قد روي عن الشيوخ الثقات الذين لا أرباب لهم، و ما لا إسم له من السور قد يعرف و يميّز بما يقوم مقام الاسم من الصفات، كسورة النساء و سورة المائدة و ما أشبههما.
(1) في الهامش: التغليب.
(2) كذا في المطبوعة.
نفائس التأويل، ج1، ص: 283
و قد طعن أبو مسلم محمد بن بحر الاصبهاني على هذا الجواب و ضعّفه و أورد عليه كلاما طويلا جملته أن قال: إنّ الاسم غير المسمّى، فلو كانت هذه الفواتح أسماء للسور، لوجب أن تكون غيرها و لا تكون منها.
و قد أجمع المسلمون قرّائهم و غير قرّائهم على أنّ هذه الفواتح من السور و معدودة في جملة آيها، و هذا يوجب مع القول بالاسم غير المسمّى، أنّها ليست بأسماء.
و الجواب عن ذلك: أنّ هذه الاسماء ليست غير السور، و هي منها على وجه، و إن كانت خارجة من جملتها على وجه آخر، فهي من حيث كانت أسماء لها و ألقابا عليها خارجة عنها؛ لأنّ الاسم لا بدّ من أن يكون في حكم الغير المسمّى، و هي من حيث كانت قرآنا منزّلا متعبّدا بتلاوته من جملة السور؛ لأنّا أمرنا أن نتلوها في جملتها و نبتدىء بها ثم نتبعها بالسورة، و لا يمتنع في الاسم أن يكون بينه و بين المسمّى مشاركة من وجه، و إن كان يدخل معه في جهة أخرى.
ألا ترى أنّ هذا الاسم محدث و فعل من الافعال و موجود و مدرك، و كلّ هذا قائم في المسمّى، و ليس لأحد أن يقول: قد جعلتموه داخلا مع المسمّى و غير متميّز منه؛ لأنّا لم نفعل ذلك من حيث كان اسما، و انّما جمعنا بينه و بين المسمى من وجه لم يكن فيه إسما للمسمّى، فكذلك القول في هذه الفواتح.
و من عجيب أمر أبي مسلم أنّه أعرض عن هذا الجواب و تغلغل فيه إلى ما حكيناه عنه، و ردّ أيضا غيره من الأجوبة المردودة لعمري في أنفسها، ثم أختار جوابا ظاهر الضعف، بيّن الفساد، و نحن نبتدىء بالكلام عليه قبل غيره ممّا نريد أن نبيّن فساده.
قال أبو مسلم بعد أن اعترض أجوبة غيره في معنى هذه الحروف: