کتابخانه تفاسیر
نفائس التأويل، ج1، ص: 279
مرجوّ مستقبل ما تقدّم مثله، و يكون التماسه باطلا، و قد سمّى اللّه تعالى الإيصال إلى الثواب و إلى العقاب بأنّه هداية إليهما، فقال تعالى: وَ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ (4) سَيَهْدِيهِمْ وَ يُصْلِحُ بالَهُمْ (5) «1» و نحن نعلم أنّ الهداية التي تكون في الأخرة بعد انقطاع التكليف لا يليق إلّا بالثواب و طريقه دون غيره.
و قال تعالى: فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ «2» و قال عزّ من قائل في موضع آخر: وَ لا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً (168) إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ «3» .
و هذا كلّه يوضح ما ذكرناه، من أنّ الهداية قد تكون إلى الثواب و إلى العقاب، فسقطت الشبهة من كلّ وجه.
مسألة: فان قيل: فما الوجه في قوله تعالى: صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ و هو يعني المؤمنين لا محالة، و ليس هذا «4» يقتضي أن يكون منعما عليهم بالإيمان والدين؛ لأنّه لو أراد غير ذلك لما كان فيه تخصيص للمؤمنين من الكافرين الضالّين؛ لأنّ نعم الدنيا تشتمل الجميع، و كذلك النعمة بالتكليف، و التعريض شاملة للجميع، فلم يبق ما يختصّ به المؤمنون إلّا الإيمان، و إذا كان منعما بالإيمان وجب أن يكون من فعله تعالى؛ لأنّ المنعم لا يكون منعما إلّا بما يفعله.
الجواب:
قلنا: غير مسلّم لكم أنّ المراد بالإنعام هاهنا الإيمان و الدين؛ لأنّه تعالى قد ينعم على المؤمنين بأشياء يخصّهم دون الكافر بالخواطر و البواعث السهلة الشارحة للصدور، و لهذا قال تعالى: وَ الَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً «5» فبيّن أنّه قد خصّهم لمكان هداهم و إيمانهم بما لم يعمّ به الكافرين.
ثم يجوز أن يريد بالنعمة هاهنا الثواب؛ لأنّ الثواب من فعله، و إذا كان إنّما
(1) سورة محمّد، الآيتان: 4 و 5.
(2) سورة الصافات، الآية: 23.
(3) سورة النساء، الآيتان 168 و 169.
(4) و هذا.
(5) سورة محمّد، الآية: 17.
نفائس التأويل، ج1، ص: 280
استحقّ بتعريضه و تكليفه كان نعمة منه تعالى و منسوبا إلى تفضّله و رحمته.
ثم لو سلّمنا أنّ المراد بالأية الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ بالإيمان حسب ما اقترحوا لم تكن فيه دلالة على أنّ الإيمان من فعله عزّ اسمه؛ لأنّه إذا كان بتفويضه و تكليفه و توفيقه و ألطافه و معونته، فهو نعمة منه.
ألا ترى أنّ أحدنا إذا دفع إلى غيره مالا عظيما تفضّلا عليه، فصرفه ذلك الغير في ضروب المنافع و ابتياع العبيد و الضياع، لم يمتنع أحد من أن ينسب تلك الضياع بأنّها نعمة من دافع المال من حيث وصل إليها بنعمته و معونته، و هذا واضح لا شبهة فيه «1» .
[بحث فقهي:]
و ممّا انفردت به الإمامية إيثار ترك لفظة آمين بعد قرائة الفاتحة؛ لأنّ باقي الفقهاء يذهبون إلى أنّها سنّة «2» . دليلنا على ما ذهبنا إليه إجماع الطائفة على أنّ هذه اللفظة بدعة و قاطعة للصلاة، و طريقة الاحتياط أيضا؛ لأنّه لا خلاف في أنّه من ترك هذه اللفظة لا يكون عاصيا، و لا مفسدا لصلاته، و قد اختلفوا فيمن فعلها، فذهبت الإمامية إلى أنّه قاطع لصلاته و الأحوط تركها.
و أيضا فلا خلاف في أنّ هذه اللفظة ليست من جملة القرآن، و لا مستقلة بنفسها في كونها دعاء و تسبيحا، فجرى التلفّظ بها مجرى كلّ كلام خارج عن القرآن و التسبيح، فإذا قيل هي تأمين على كلّ دعاء سابق لها و هو قوله عزّ و جلّ:
اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ.
قلنا: الدعاء إنّما يكون دعاء بالقصد، و من يقرأ الفاتحة إنّما قصده التلاوة دون الدعاء، و قد يجوز أن يقرأ من قصد الدعاء، و مخالفنا يذهب إلى أنّها مسنونة لكلّ فصل من غير اعتبار قصده إلى الدعاء، و إذا ثبت بطلان إستعمالها فيمن لم يقصد إلى الدعاء ثبت ذلك في الجميع؛ لأنّ أحدا لم يفرق بين الأمرين «3» .
(1) الرسائل، 3: 287 إلى 296.
(2) المحلّى، 3: 264.
(3) الانتصار: 42.
نفائس التأويل، ج1، ص: 281
سورة البقرة
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[مسألة:] فإن قيل: كيف يجوز أن يسمّي اللّه تعالى السور بهذه الاسماء؟
و لم تجر عادة العرب أن يسمّوا بمثلها، و القرآن بلغتهم.
قلنا: ليس في الأسماء حطّة، و لا يجب فيه الاتّباع و الاقتداء، و لهذا جاز أن يحدث أهل كلّ صناعة لما عرفوه من الألات و الادوات أسماء، و إن لم تكن تلك الاسماء في اللغة أسماء لتلك المسمّيات، و قد يجوز أن يسمّي أحدنا ولده ما لم يسبق إليه، و لا يكون بذلك معيبا.
فإن قيل: كيف يجوز أن تكون هذه الحروف أسماء للسور مع اشتراك جماعة من السور في بعضها و خلوّ كثير من السور من شيء منها؟
قلنا: أمّا الاشتراك فغير ممتنع أسماء الالقاب، و ان كان الالقاب في الاصل «1» إذا كانت للتميّز ألّا يقع فيها الاشتراك، ثم عند وقوع الاشتراك فيها فزعوا إلى الصفات، و لهذا قالوا: زيد الطويل العاقل، و ألحقوا الصفة لمّا وقع الاشتراك في الاسم، و لو لم يكن في العالم إلّا زيد واحد، لما احتاجوا إلى الصفة.
و هكذا السور، لمّا وقع الاشتراك في أسمائها ألحقوا بها ما بيّنه على التمييز، فقالوا: الدخان و الزخرف و ما أشبه ذلك، و لم يحتاجوا إلى ذلك فيما ينفرد بلقبه، كصاد و قاف و طه و ما جرى مجراهنّ.
فأمّا خلو بعض السور من اسم؛ لأنّ وضع الاسماء في الأصل غير واجب، و إذا كان جائزا أن يختصّ مسمّى دون غيره.
(1) كذا و الظاهر: و ان كان الاصل في الالقاب.
نفائس التأويل، ج1، ص: 282
- الم
فإن قيل: فما الوجه فيما افتتح هذه السورة من قوله: الم و هو كلام لا يعرف معناه و لا يعلم فحواه؟ و كيف يجوز أن يخاطبهم بما لا يعرفونه و لا يقولونه؟
الجواب:
قلنا: قد ذكر الناس في معنى الحروف المقطّعة التي افتتحت بها السور وجوها كثيرة، فبعضها صحيح و بعضها فاسد، و نحن نذكر الصحيح الذي نختاره و ننّبه على ما فيه اختلاف و فساد.
فمن أصحّ ما ذكر في ذلك و أبعده من الفساد أن يكون هذه الحروف أسماء للسور و شعارا لها، و الاسماء إذا كانت على سبيل التلقيب «1» الذي ذكرناه و التمييز «2» ؛ لأنّ الألقاب جارية مجرى الاشارة، و لا يفيد في اللقب أكثر من الاشارة إليه، و إمكان الإخبار عنه عند الغيبة باللقب، كما أمكنت الاشارة مع الحضور.
ألا ترى أنّ قولنا: «زيد و عمرو» لا يفيدان أكثر من التلقب الذي ذكرناه، و لا يجريان مجرى طويل و قصير و ما أشبهها من الصفات؟ و من أمارة كون الاسم لقبا أن يجوز تبديله و تغييره و اللغة على ما هي عليه، و الإسم المفيد لا يجوز تغييره إلّا بتغير اللغة.
ألا ترى أنّه لو سمّينا رجلا ب «زيد» ثم بدا لنا في ذلك فسمّيناه ب «عمرو» لساغ ذلك و اللغة على ما كانت عليه، و إذا وصفناه بأنّه طويل لم يجز أن نصفه بالقصير، و نرجع عن وصفه بالطويل إلّا مع تغيّر اللغة و انقلابها.
و هذا الوجه الذي ذكرناه في هذه الفواتح، قد روي عن الشيوخ الثقات الذين لا أرباب لهم، و ما لا إسم له من السور قد يعرف و يميّز بما يقوم مقام الاسم من الصفات، كسورة النساء و سورة المائدة و ما أشبههما.
(1) في الهامش: التغليب.
(2) كذا في المطبوعة.
نفائس التأويل، ج1، ص: 283
و قد طعن أبو مسلم محمد بن بحر الاصبهاني على هذا الجواب و ضعّفه و أورد عليه كلاما طويلا جملته أن قال: إنّ الاسم غير المسمّى، فلو كانت هذه الفواتح أسماء للسور، لوجب أن تكون غيرها و لا تكون منها.
و قد أجمع المسلمون قرّائهم و غير قرّائهم على أنّ هذه الفواتح من السور و معدودة في جملة آيها، و هذا يوجب مع القول بالاسم غير المسمّى، أنّها ليست بأسماء.
و الجواب عن ذلك: أنّ هذه الاسماء ليست غير السور، و هي منها على وجه، و إن كانت خارجة من جملتها على وجه آخر، فهي من حيث كانت أسماء لها و ألقابا عليها خارجة عنها؛ لأنّ الاسم لا بدّ من أن يكون في حكم الغير المسمّى، و هي من حيث كانت قرآنا منزّلا متعبّدا بتلاوته من جملة السور؛ لأنّا أمرنا أن نتلوها في جملتها و نبتدىء بها ثم نتبعها بالسورة، و لا يمتنع في الاسم أن يكون بينه و بين المسمّى مشاركة من وجه، و إن كان يدخل معه في جهة أخرى.
ألا ترى أنّ هذا الاسم محدث و فعل من الافعال و موجود و مدرك، و كلّ هذا قائم في المسمّى، و ليس لأحد أن يقول: قد جعلتموه داخلا مع المسمّى و غير متميّز منه؛ لأنّا لم نفعل ذلك من حيث كان اسما، و انّما جمعنا بينه و بين المسمى من وجه لم يكن فيه إسما للمسمّى، فكذلك القول في هذه الفواتح.
و من عجيب أمر أبي مسلم أنّه أعرض عن هذا الجواب و تغلغل فيه إلى ما حكيناه عنه، و ردّ أيضا غيره من الأجوبة المردودة لعمري في أنفسها، ثم أختار جوابا ظاهر الضعف، بيّن الفساد، و نحن نبتدىء بالكلام عليه قبل غيره ممّا نريد أن نبيّن فساده.
قال أبو مسلم بعد أن اعترض أجوبة غيره في معنى هذه الحروف:
«و الذي عندنا في هذه الحروف أنّ حروف المعجم لمّا كانت أصل كلام العرب الذي منها يبنى و يؤلّف، افتتح اللّه تعالى السورة بهذه الحروف المقطّعة
نفائس التأويل، ج1، ص: 284
التي هي حروف العرب، المبني منها كلامه، أوردها في أوائلها، تسكينا للعرب بما لزمهم من الحجّة و ظهر منهم من المعجز.
كأنّهم خوطبوا فقيل لهم: يا أيها الكافرون بما أنزل على محمّد هذا الذي زعمتم أنّ محمدا صلى اللّه عليه و آله و سلم ... «1» اللّه كلام بني من حروفكم و كتابكم و بلغتكم المتداولة بينكم لا «2» ... و معانيه و طرقه و بيانه معاني كلامكم و طرائقكم و مذاهبكم، قد دعيتم إلى الاتيان بمثله و مثل أقل سورة منه فعجزتم، فلو كان كما تزعمون لكنتم قادرين على مثله». و أطنب في هذا الكلام و أسهب و ذهب كل مذهب.
و هذا الوجه غير سديد و لا مرضي؛ لأنّ القوم كانوا يعرفون أنّ القرآن مبني من حروف المعجم و مركّب منها ضرورة عند سماعه و إدراكه، و لا يحتاجون إلى أن يقدّم لهم في أوائل السور حروف تدلّ على أنّ الكلام الذي أنزله مبني منها.
فإن كان المراد بتقديم هذه الحروف الدلالة على أنّ القرآن مركّب منها، فذلك مستغنى عنه بما ذكرناه، و إن كان للتبكيت و التقريع من حيث عجزوا عن الاتيان بمثله و هو مركّب منه، فهذا التقريع أيضا ليتمّ مع القاء هذه الحروف؛ لأنّ المعلوم الذي لا اشكال فيه أنّ القرآن من هذه الحروف مركّب، و أنّهم إذا عجزوا عن معارضته و مقابلته، فقد عجزوا عن تجانس كلامهم.
و ليس ينبغي أن يعتمد على هذا الجواب الذي ذكرناه مستضعفا له.
و ممّا قيل في هذه الحروف أنّها منبئة عن أسماء اللّه تعالى، فقالوا: «الم» أنا اللّه، و في «الر» أنا الباري، و في «المص» أنا اللّه الصادق، و في «كهيعص» الكاف من كريم و العين من عليم و الصاد من صادق و الهاء من هادي، و هذا حكي عن جماعة من المفسّرين.
و هو وجه باطل لا خفاء في بطلانه؛ لأنّه رمز و الغاز لا يدلّ ظاهر الكلام
(1) كذا، و الظاهر: افترى على.
(2) كذا و الظاهر: لا من غيره.
نفائس التأويل، ج1، ص: 285
عليه، و لو أنّ أحدنا نطق بحرف من هذه الحروف و أراد الاشارة به إلى ... الحروف «1» ، لعذر أمر ملغز و لكان مذموما.
و بعد فليس المناسب للحروف «2» المخصوص إلى كلمة مخصوصة تشتمل عليه و على غيره، بأولى ممّن نسبه إلى غير تلك الكلمة ممّا يشتمل على تلك الحروف، و هذا يقتضي أن لا يستقرّ لهذه الحروف معنى من المعاني معقول، و اللّه تعالى يجلّ من أن يتكلّم بما لا معنى له.
و ممّا قيل في ذلك أيضا: أنّ هذه الحروف تقطيع لاسم اللّه تعالى.
و هذا أيضا باطل؛ لأنّه لا يخرج عن أن يكون خطابا بما لا يعقل و لا يفهم معانيه.
فأمّا المتشابه فعندنا أنّ اللّه تعالى و إن علم تأويله و العلماء أيضا يعلمون مثل ذلك، و الأية التي يتعلّق بها في هذا الباب من قوله تعالى: وَ ما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ «3» فنحن نبيّن تأويلها عند البلوغ إليها و نذكر أنّ المراد بخلاف ما ظنوه بإذن اللّه تعالى «4» .
و ممّا قيل في ذلك أيضا: أنّ المشركين كانوا تواصوا بأن لا يصغوا إلى القرآن و أن يلغوا فيه و يعرضوا عنه، فافتتح كلامه جلّ و عزّ بهذه الحروف المنضمّة ليسمعوها فيصغوا إليها، مستدعين لها متعجبين من ورودها، فيرد عليهم بعدها من الكلام ما يحتاجون إلى استماعه و فهم معانيه، حتى يصير ما قدّمه داعيا إلى الاستماع و الاصغاء، داعيين إلى الفهم و القبول.
و هذا ليس بشيء؛ لأنّ الخطاب و الكلام ممّا لا يحسن إلّا للفائدة التي لا تفهم إلّا به، و لا يجوز أن يقوم فيه الأغراض المختلفة مقام الافادة، فلا يجوز أن يخاطبهم بما لا فائدة فيه، حتى يحثهم ذلك إلى استماع الكلام المفهوم؛ لأنّ الكلام ممّا لا يفيد وجها في قبحه.
(1) كذا. و الظاهر: إلى معاني هذه الحروف.
(2) كذا و الظاهر: للحرف.
(3) سورة آل عمران، الآية: 7.