کتابخانه تفاسیر
البحر المحيط فى التفسير، ج4، ص: 5
الجزء الرابع
[تتمة سورة النساء]
[سورة النساء (4): الآيات 87 الى 93]
البحر المحيط فى التفسير، ج4، ص: 6
الإركاس: الرد و الرجع. قيل: من آخره على أوله، و الركس: الرجيع. و منه
قوله صلى اللّه عليه و سلم في «الروثة هذا ركس»
و قال أمية بن أبي الصلت:
فأركسوا في حميم النار أنهم
كانوا عصاة و قالوا الإفك و الزورا
و حكى الكسائي و النضر بن شميل: ركس و أركس بمعنى واحد أي: رجعهم. و يقال:
ركّس مشدّدا بمعنى أركس، و ارتكس هو أي ارتجع. و قيل: أركسه أوبقه قال:
بشؤمك أركستني في الخنا
و أرميتني بضروب العنا
و قيل: أضلهم. و قال الشاعر:
و أركستني عن طريق الهدى
و صيرتني مثلا للعدا
و قيل: نكسه. قاله الزجاج قال:
ركسوا في فتنة مظلمة
كسواد الليل يتلوها فتن
الدية: ما غرم في القتل من المال، و كان لها في الجاهلية أحكام و مقادير، و لها في الشرع أحكام و مقادير، سيأتي ذكر شيء منها. و أصلها: مصدر أطلق على المال المذكور، و تقول: منه ودي، يدي، وديا ودية. كما تقول: وشى يشي، وشيا وشية، و مثاله من صحيح اللام: زنة و عدة.
التعمد و العمد: القصد إلى الشيء اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ قال مقاتل: نزلت فيمن شك في البعث، فاقسم اللّه ليبعثنه. و مناسبتها لما قبلها ظاهرة و هي: أنه تعالى لما ذكر أن اللّه كان على كل شيء حسيبا، تلاه بالاعلام بوحدانية اللّه تعالى و الحشر و البعث من القبور للحساب. و يحتمل أن يكون لا إله إلا هو خبر عن اللّه، و يحتمل أن يكون جملة اعتراض، و الخبر الجملة المقسم عليها، و حذف هنا القسم للعلم به. و إلى إما على بابها و معناها: من الغاية، و يكون الجمع في القبور، أو يضمن معنى:
ليجمعنكم معنى: ليحشرنكم، فيعدى بإلى. قيل: أو تكون إلى بمعنى في، كما أولوه في قول النابغة:
فلا تتركني بالوعيد كأنني
إلى الناس مطلى به القار أجرب
أي: في الناس. و قيل: إلى بمعنى مع. و القيامة و القيام بمعنى واحد، كالطلابة
البحر المحيط فى التفسير، ج4، ص: 7
و الطلاب. قيل: و دخلت الهاء للمبالغة لشدة ما يقع فيه من الهول، و سمي بذلك إما لقيامهم من القبور، أو لقيامهم للحساب. قال تعالى: يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ «1» و لما كان الحشر جائزا بالعقل، واجبا بالسمع، أكده بالقسم قبله و بالجملة بعده من قوله:
لا ريب فيه. و احتمل الضمير في فيه أن يعود إلى اليوم، و هو الظاهر. و أن يعود على المصدر المفهوم من قوله تعالى: ليجمعنكم. و تقدم تفسير لا ريب فيه في أول البقرة.
وَ مَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثاً . هذا استفهام معناه النفي، التقدير: لا أحد أصدق من اللّه حديثا. و فسر الحديث بالخبر أو بالوعد قولان، و الأظهر هنا الخبر. قال ابن عطية:
و ذلك أنّ دخول الكذب في حديث البشر إنما علته الخوف أو الرجاء أو سوء السجية، و هذه منفية في حق اللّه تعالى، و الصدق في حقيقته أن يكون ما يجري على لسان المخبر موافقا لما في قلبه، و الأمر المخبر عنه في وجوده انتهى. و قال الماتريدي: أي إنكم تقبلون حديث بعضكم من بعض مع احتمال صدقه و كذبه، فإن تقبلوا حديث من يستحيل عليه الكذب في كل ما أخبركم به من طريق الأولى. و طوّل الزمخشري هنا إشعارا بمذهبه فقال:
لا يجوز عليه الكذب، و ذلك أنّ الكذب مستقل بصارف عن الإقدام عليه و هو قبحه الذي هو كونه كذبا و إخبارا عن الشيء بخلاف ما هو عليه، فمن كذب لم يكذب إلا لأنه محتاج إلى أن يكذب، ليجرّ منفعة، أو يدفع مضرة، أو هو غني عنه، إلا أنه يجهل غناه، أو هو جاهل بقبحه، أو هو سفيه لا يفرق بين الصدق و الكذب في أخباره، و لا يبالي بأيهما نطق، و ربما كان الكذب أحلى على حنكه من الصدق. و عن بعض السفهاء: أنه عوتب على الكذب فقال: لو غرغرت لهراتك به، ما فارقته. و قيل لكذاب: هل صدقت قط؟ فقال:
لولا أني صادق في قولي لا، لقلتها. فكان الحكيم الغني الذي لا تجوز عليه الحاجات، العالم بكل معلوم، منزها عنه كما هو منزه عن سائر القبائح انتهى. و كلامه تكثير لا يليق بكتابه، فإنه مختصر في التفسير. و قرأ حمزة و الكسائي: أصدق بإشمام الصاد زايا، و كذا فيما كان مثله من صاد ساكنة بعدها دال، نحو: يصدقون و تصدية. و أما إبدالها زايا محضة في ذلك فهي لغة كلب. و أنشدوا:
يزيد اللّه في خيراته
حامي الذمار عند مصدوقاته
يريد: عند مصدوقاته.
(1) سورة المطففين: 83/ 6.
البحر المحيط فى التفسير، ج4، ص: 8
فَما لَكُمْ فِي الْمُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ ذكروا في سبب نزولها أقوالا طولوا بها و ملخصها:
أنّهم قوم أسلموا فاستوبئوا المدينة فخرجوا، فقيل لهم: أما لكم في الرسول أسوة؟ أو ناس رجعوا من أحد لما خرج الرسول، و هذا في الصحيحين من قول زيد بن ثابت. أو ناس بمكة تكلموا بالإسلام و هم يعينون الكفار، فخرجوا من مكة. قال الحسن، و مجاهد:
خرجوا لحاجة لهم، فقال قوم من المسلمين، اخرجوا إليهم فاقتلوهم، فإنهم يظاهرون عدوكم. و قال قوم: كيف نقتلهم و قد تكلموا بالإسلام؟ رواه ابن عطية عن ابن عباس. أو قوم قدموا المدينة و أظهروا الإسلام ثم رجعوا إلى مكة فأظهروا الشرك، أو قوم أعلنوا الإيمان بمكة و امتنعوا من الهجرة قاله: الضحاك. أو العرنيون الذين أغاروا على السرح و قتلوا يسارا، أو المنافقون الذين تكلموا في حديث الإفك.
و ما كان من هذه الأقوال يتضمن أنهم كانوا بالمدينة، يردّه قوله: حَتَّى يُهاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ «1» إلا إن حملت المهاجرة على هجرة ما نهى اللّه عنه، و المعنى: أنه تعالى أنكر عليهم اختلافهم في نفاق من ظهر منه النفاق أي: من ظهر منه النفاق قطع بنفاقه، و لو لم يكونوا باديا نفاقهم، لما أطلق عليه اسم النفاق. و في المنافقين متعلق بما تعلق به لكم، و هو كائن أي: أيّ شيء كائن لكم في شأن المنافقين. أو بمعنى فئتين أي: فرقتين في أمر المنافقين. و انتصب فئتين على الحال عند البصريين من ضمير الخطاب في لكم، و العامل فيها العامل في لكم. و ذهب الكوفيون إلى أنه منصوب على إضمار كان أي: كنتم فئتين.
و يجيزون مالك الشاتم أي: كنت الشاتم، و هذا عند البصريين لا يجوز، لأنه عندهم حال، و الحال لا يجوز تعريفها.
وَ اللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِما كَسَبُوا أي: رجّعهم و ردّهم في كفرهم قاله: ابن عباس، و اختار الفراء و الزجاج: أوبقهم. روي عن ابن عباس: أو أضلهم، قاله السدي. أو أهلكهم قاله قتادة، أو نكسهم قاله الزجاج. و كلها متقاربة. و من عبر به عن الإهلاك فإنه أخذ بلازم الإركاس. و معنى بما كسبوا أي: بما أجراه اللّه عليهم من المخالفة، و ذلك الإركاس هو بخلق اللّه و اختراعه، و ينسب للعبد كسبا.
و قال الزمخشري: و اللّه أركسهم أي: ردّهم في حكم المشركين كما كانوا بما كسبوا من ارتدادهم، و لحوقهم بالمشركين، و احتيالهم على رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم. أو أركسهم في الكفر