کتابخانه تفاسیر
البحر المحيط فى التفسير، ج4، ص: 638
رسالاته و ليس ظرفا لأنه يصير التقدير يعلم في هذا المكان كذا و ليس المعنى عليه، و كذا قدره ابن عطية. و قال التبريزي: حَيْثُ هنا اسم لا ظرف انتصب انتصاب المفعول كما في قول الشماخ:
و حلأها عن ذي الأراكة عامر
أخو الخضر يرمي حيث تكوى النواحر
فجعل مفعولا به لأنه ليس يريد أنه يرمي شيئا حيث تكوى النواحر، إنما يريد أنه يرمي ذلك الموضع؛ انتهى. و ما قاله من أنه مفعول به على السعة أو مفعول به على غير السعة تأباه قواعد النحو، لأن النحاة نصوا على أن حَيْثُ من الظروف التي لا تتصرف و شذ إضافة لدى إليها و جرها بالياء و نصوا على أن الظرف الذي يتوسع فيه لا يكون إلا متصرفا و إذا كان الأمر كذلك امتنع نصب حَيْثُ على المفعول به لا على السعة و لا على غيرها، و الذي يظهر لي إقرار حَيْثُ على الظرفية المجازية على أن تضمن أَعْلَمُ معنى ما يتعدى إلى الظرف فيكون التقدير اللّه أنفذ علما حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ أي هو نافذ العلم في الموضع الذي يجعل فيه رسالته، و الظرفية هنا مجاز كما قلنا و روى حَيْثُ بالفتح. فقيل: حركة بناء. و قيل: حركة إعراب و يكون ذلك على لغة بني فقعس فإنهم يعربون حَيْثُ حكاها الكسائي. و قرأ ابن كثير و حفص رسالته بالتوحيد و باقي السبعة على الجمع.
سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغارٌ عِنْدَ اللَّهِ وَ عَذابٌ شَدِيدٌ بِما كانُوا يَمْكُرُونَ هذا وعيد شديد و علق الإصابة بمن أجرم ليعم الأكابر و غيرهم، و الصغار الذل و الهوان يقال:
منه صغر يصغر و صغر يصغر صغرا و صغارا و اسم الفاعل صاغر و صغير و أرض مصغر لم يطل نبتها، عن ابن السكيت و قابل الأكبرية بالصغار و العذاب الشديد من الأسر و القتل في الدنيا و النار في الآخرة و إصابة ذلك لهم بسبب مكرهم في قوله: لِيَمْكُرُوا فِيها و قوله:
وَ ما يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ و قدّم الصغار على العذاب لأنهم تمرّدوا عن اتباع الرسول و تكبروا طبا للعز و الكرامة فقوبلوا أوّلا بالهوان و الذل، و لما كانت الطاعة ينشأ عنها التعظيم ثم الثواب عليها نشأ عن المعصية الإهانة ثم العقاب عليها و معنى عِنْدَ اللَّهِ قال الزجاج:
في عرصة قضاء الآخرة. و قال الفراء: في حكم اللّه كما يقول عند الشافعي أي في حكمه.
و قيل: في سابق علمه. و قيل: إن الجزية توضع عليهم لا محالة و أن حكم اللّه بذلك مثبت عنده بأنه سيكون ذلك فيهم. و قال إسماعيل الضرير: في الكلام تقديم و تأخير أي صغار وَ عَذابٌ شَدِيدٌ عند اللّه في الآخرة، و انتصب عند سَيُصِيبُ أو بلفظ صَغارٌ لأنه
البحر المحيط فى التفسير، ج4، ص: 639
مصدر فيعمل أو على أنه صفة لصغار فيتعلق بمحذوف، و قدّره الزجاج ثابت عند اللّه و ما الظاهر أنها مصدرية أي بكونهم يَمْكُرُونَ . و قيل: موصولة بمعنى الذي.
قال مقاتل: نزلت في الرسول صلى اللّه عليه و سلم و في أبي جهل
، و الهداية هنا مقابلة الضلالة و الشرح كناية عن جعله قابلا للإسلام متوسعا لقبول تكاليفه، و نسبة ذلك إلى صدره مجاز عن ذات الشخص و لذلك قالوا: فلان واسع الصدر إذا كان الشخص محتملا ما يرد عليه من المشاق و التكاليف، و نسبة إرادة الهدى و الضلال إلى اللّه إسناد حقيقي لأنه تعالى هو الخالق ذلك و الموجد له و المريد له و شرح الصدر تسهيل قبول الإيمان عليه و تحسينه و إعداده لقبوله: و ضمير فاعل الهدى عائد على اللّه أي يشرح اللّه صدره.
و قيل: يعود على الهدى المنسبك من أَنْ يَهْدِيَهُ أي يشرح الهدى صدره. قال ابن عطية: و يتركب عليه مذهب القدرية في خلق الأعمال؛ انتهى.
و في الحديث السؤال عن كيفية هذا الشرح و أنه إذا وقع النور في القلب انشرح الصدر و أمارته الإنابة إلى دار الخلود و التجافي عن دار الغرور، و الاستعداد للموت قبل الفوت و الضيق و الحرج كناية عن ضد الشرح و استعارة لعدم قبول الإيمان و الحرج الشديد الضيق، و الضمير في يَجْعَلُ عائد على اللَّهِ و معنى يجعل يصير لأن الإنسان يخلق أوّلا على الفطرة و هي كونه مهيأ لما يلقى إليه و لما يجعل فيه فإذا أراد اللّه إضلاله أضله و جعله لا يقبل الإيمان و يحتمل أن يكون يَجْعَلْ بمعنى يخلق و ينتصب ضَيِّقاً حَرَجاً على الحال أي يخلقه على هذه الهيئة فلا يسمع الإيمان و لا يقبله و لاعتزال أبي عليّ الفارسي ذهب إلى أن يجعل هنا بمعنى يسمى قال كقوله: وَ جَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً «1» قال: أي سموهم أو بمعنى يحكم له بالضيق كما تقول: هذا يجعل البصرة مصرا أي يحكم لها بحكمها فرارا من نسبة خلق ذلك إلى اللّه تعالى، أو تصييره وجوبا على مذهبه الاعتزالي و نحو منه في خروج اللفظ عن ظاهره. قول الزمخشري أَنْ يَهْدِيَهُ أن يلطف به و لا يريد أن يلطف إلا بمن له لطف بشرح صدره للإسلام يلطف به حتى يرغب في الإسلام و تسكن إليه نفسه و يحب الدخول فيه، وَ مَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ أن يخذله و يخليه و شأنه و هو الذي لا لطف له يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً يمنعه ألطافه حتى يقسو قلبه و ينبو عن قبول الحق و ينسد فلا يدخله الإيمان؛ انتهى. و هذا كله إخراج اللفظ عن ظاهره
(1) سورة الزخرف: 43/ 19.
البحر المحيط فى التفسير، ج4، ص: 640
و تأويل على مذهب المعتزلة و الجملة التشبيهية معناها أنه كما يزاول أمرا غير ممكن لأن صعود السماء مثل فيما يبعد و يمتنع من الاستطاعة و يضيق عليه عند المقدرة قاله الزمخشري. و هو قريب من تأويل ابن جريج و عطاء الخراساني و السدي قالوا: أي كان هذا الضيق الصدر الحرج يحاول الصعود في السماء حتى حاول الإيمان أو فكر فيه و يجد صعوبته عليه كصعوبة الصعود في السماء؛ انتهى. و لامتناع ذلك عندهم حكى اللّه عنهم أنهم اقترحوا قولهم أَوْ تَرْقى فِي السَّماءِ . و قال ابن جبير: المعنى لا تجد مسلكا إلا صعدا من شدة التضايق، يريد ضاقت عليه الأرض فظل مصعدا إلى السماء. و قيل: المعنى أنه عازب الرأي طائر القلب في الهواء كما يطير الشيء الخفيف عند عصف الرّياح. و قرأ ابن كثير: ضَيِّقاً هنا و في الفرقان فاحتمل أن يكون مخففا من ضيق كما قالوا لين. و قال الكسائي: الضيق بالتشديد في الإجرام و بالتخفيف في المعاني، و احتمل أن يكون مصدرا قالوا في مصدر ضاق ضيق بفتح الضاد و كسرها بمعنى واحد فإما ينسب إلى الصدر على المبالغة أو على معنى الإضافة، أي ذا ضيق أو على جعله مجازا عن اسم الفاعل و هذا على الأوجه الثلاثة المقولة في نعت الإجرام بالمصادر. و قرأ نافع و أبو بكر حَرَجاً بفتح الراء و هو مصدر أي ذا حرح أو جعل نفس الحرج، أو بمعنى حرج بكسر الراء و رويت عن عمرو قرأها له ثمة بعض الصحابة بالكسر. فقال: ابغوني رجلا من كنانة راعيا و لكن من بني مدلج فلما جاءه قال: يا فتى ما الحرجة عندكم؟ قال: الشجرة تكون بين الأشجار لا يصل إليها راعية و لا وحشية، فقال عمر: كذلك قلب المنافق لا يصل إليه شيء من الخير؛ انتهى. و هذا تنبيه و اللّه أعلم على جهة اشتقاق الفعل من نفس العين كقولهم: استحجر و استنوق. و قرأ ابن كثير يَصَّعَّدُ مضارع صعد. و قرأ أبو بكر يصاعد أصله يتصاعد فأدغم.
و قرأ باقي السبعة يَصَّعَّدُ بتشديد الصاد و العين و أصله يتصعد، و بهذا قرأ عبد اللّه و ابن مصرف و الأعمش. و قال أبو علي: كَأَنَّما يَصَّعَّدُ من سفل إلى علو و لم يرد السماء المظلة بعينها كما قال سيبويه و القيدود الطويل في غير سماء أي في غير ارتفاع. و قال ابن عطية: و يحتمل أن يكون التشبيه بالصاعد في عقبة كؤود كأنه يصعد بها في الهواء، و يصعد معناه يعلو و يصعد معناه يتكلف من ذلك ما يشق عليه و منه قول عمر بن الخطاب: ما تصعدني شيء كما تصعدني خطبة النكاح و روي ما تصعدني خطبة.
كَذلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ أي مثل ذلك الجعل جعله الصدر ضَيِّقاً حَرَجاً و يبعد ما قاله الزجاج: أي مثل ما قصصنا عليك يَجْعَلْ و معنى يَجْعَلُ اللَّهُ
البحر المحيط فى التفسير، ج4، ص: 641
الرِّجْسَ يلقى اللّه أو يصير اللّه العذاب و الرجس بمعنى العذاب قاله أهل اللغة. و تعدية يَجْعَلْ بعلى يحتمل أن يكون معناه نلقي كما تقول: جعلت متاعك بعضه على بعض و أن تكون بمعنى يصير و عَلَى في موضع المفعول الثاني. و قال الزمخشري: يَجْعَلُ اللَّهُ يعني الخذلان و منع التوفيق وصفه بنقيض ما يوصف به التوفيق من الطيب أو أراد الفعل المؤدّي إلى الرجس و هو العذاب من الارتجاس و هو الاضطراب؛ انتهى. و هو على طريقة الاعتزالي و نقيض الطيب النتن الرائحة الكريهة، و الرِّجْسَ و النجس بمعنى واحد قاله بعض أهل الكوفة. و قال مجاهد: الرِّجْسَ كل ما لا خير فيه. و قال عطاء و ابن زيد و أبو عبيدة: الرِّجْسَ العذاب في الدنيا و الآخرة. و قال الزجاج: اللعنة في الدنيا و العذاب في الآخرة، و قيل: الرِّجْسَ السخط. و قال إسماعيل الضرير: الرِّجْسَ التعذيب و أصله النتن النجس و هو رجاسة الكفر.
وَ هذا صِراطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيماً الإشارة بقوله: وَ هذا إلى القرآن و الشرع الذي جاء به الرسول قاله ابن عباس، أو القرآن قاله ابن مسعود، أو التوحيد قاله بعضهم، أو ما قرره في الآيات المتقدّمة في هذه الآية و في غيرها من سبل الهدى و سبل الضلالة. و قال الزمخشري: وَ هذا صِراطُ رَبِّكَ طريقه الذي اقتضته الحكمة و عادته في التوفيق و الخذلان و نحو منه قول إسماعيل الضرير يعني هذا صنع ربك و هذا إشارة إلى الهدى و الضلال، و أضيف الصراط إلى الرب على جهة أنه من عنده و بأمره مُسْتَقِيماً لا عوج فيه و انتصب مُسْتَقِيماً على أنه حال مؤكدة.
قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ أي بيناها و لم نترك فيها إجمالا و لا التباسا.
لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ يتدبرون بعقولهم و كأن الآيات كانت شيئا غائبا عنهم لم يذكروها فلما فصلت تذكروها.
[سورة الأنعام (6): الآيات 127 الى 140]
البحر المحيط فى التفسير، ج4، ص: 643
لَهُمْ دارُ السَّلامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَ هُوَ وَلِيُّهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ أي لهم الجنة و السَّلامِ اسم من أسماء اللّه تعالى كما قيل في الكعبة بيت اللّه قاله ابن عباس و قتادة و أضيفت إليه تشريفا أو دار السلامة من كل آفة و السّلام و السلامة بمعنى كاللذاد و اللذاذة و الضلال و الضلالة قاله الزجاج، أو دارُ السَّلامِ بمعنى التحية لأن تحية أهلها فيها سلام قاله أبو سليمان الدمشقي، و معنى عِنْدَ رَبِّهِمْ في نزله و ضيافته كما تقول: نحن اليوم عند فلان أي في كرامته و ضيافته قاله قوم، أو في الآخرة بعد الحشر قاله ابن عطية، أو في ضمانه كما تقول لفلان: عليّ حق لا ينسى أو ذخيرة لهم لا يعلمون كنهها لقوله: فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ «1» قاله قوم منهم الزمخشري أو على حذف مضاف، أو عند لقاء ربهم قاله قوم أو في جواره كما جاء في جوار الرحمن في جنة عدن على الظرفية المجازية الدالة على شرف الرتبة و المنزلة، كما قاله في صفة الملائكة وَ مَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ «2» ، و كما قال فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ «3» و كما قال ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ «4» و هو وليهم أي مواليهم و محبهم أو ناصرهم على أعدائهم أو متوليهم بالجزاء على أعمالهم.
وَ يَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جميعا يا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ الظاهر العموم في الثقلين لتقدم ذكر الشياطين و هم الجنّ و الكفرة أولياؤهم و المؤمنون الذين لَهُمْ دارُ السَّلامِ قال معناه الزمخشري و ابن عطية، قال ابن عطية: و يدل عليه التأكيد العام بقوله:
جَمِيعاً . و قال التبريزي: و هذا النداء يدل على أن الضمير في يحشرهم دخل فيه الجنّ حين حشرهم ثم ناداهم، أما الثقلان فحسب أو هما و غيرهما من الخلائق؛ انتهى. و من جعل و يوم معطوفا على بِما كانُوا يَعْمَلُونَ و يوم نحشرهم فالعامل في الظرف وليهم و كان الضمير خاصا بالمؤمنين و هو بعيد، و الأولى أن يكون الظرف معمولا لفعل القول المحكي به النداء أي و يوم نحشرهم نقول يا معشر الجن و هو أولى مما أجاز بعضهم من نصبه باذكر مفعولا به لخروجه عن الظرفية و مما أجاز الزمخشري من نصبه بفعل مضمر غير فعل القول و اذكر تقديره عنده وَ يَوْمَ يَحْشُرُهُمْ و قلنا يا مَعْشَرَ الْجِنِ كان ما لا يوصف لفظاعته لاستلزامه حذف جملتين من الكلام جملة و قلنا و جملة العامل، و قدر الزجاج فعل القول المحذوف مبنيا للمفعول التقدير فيقال لهم لأنه يبعد أن يكلمهم اللّه شفاها بدليل قوله
(1) سورة السجدة: 32/ 17.
(2) سورة الأنبياء: 21/ 19.
(3) سورة القمر: 54/ 55.
(4) سورة التحريم: 66/ 11.
البحر المحيط فى التفسير، ج4، ص: 644
وَ لا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ* «1» و نداؤهم نداء شهرة و توبيخ على رؤوس الأشهاد و المعشر الجماعة و يجمع على معاشر كما
جاء نحن معاشر الأنبياء لا نورث.
و قال الأفوه:
فينا معاشر لن يبنوا لقومهم
و إن بنى قومهم ما أفسدوا و عادوا
و معنى الاستكثار هنا إضلالهم منهم كثيرا و جعلهم أتباعهم كما تقول: استكثر فلان من الجنود و استكثر فلان من الأشياع. و قال ابن عباس و مجاهد و قتادة: أفرطتم في إضلالهم و إغوائهم. و قرأ حفص يحشرهم بالياء و باقي السبعة بالنون.
وَ قالَ أَوْلِياؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنا بِبَعْضٍ وَ بَلَغْنا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنا و قال: أولياء الجن أي الكفار من الإنس رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ انتفع بَعْضُنا بِبَعْضٍ فانتفاع الإنس بالشياطين حيث دلوهم على الشهوات و على التوصلات إليها، و انتفاع الجن بالإنس حيث أطاعوهم و ساعدوهم على مرادهم في إغوائهم روي هذا المعنى عن ابن عباس و به قال محمد بن كعب و الزجاج. و قال ابن عباس أيضا و مقاتل: استمتاع الإنس بالجن قول بعضهم: أعوذ بعظيم هذا الوادي من شر أهله إذا بات بالوادي في سفره، و استمتاع الجن بالإنس افتخارهم على قومهم و قولهم: قد سدنا الإنس حتى صاروا يعوذون بنا. قال الكرماني: كانوا يعتقدون أن الأرض مملوءة جنا و أن من لم يدخله جني في جواره خبله الآخرون، و كذلك كانوا إذا قتلوا صيد استعاذوا بهم لأنهم يعتقدون أن هذه البهائم للجن منها مراكبهم. و قيل: في كون عظامهم طعاما للجن و أرواث دوابهم علفا و استمتاع الإنس بالجن استعانتهم بهم على مقاصدهم حين يستخدمونهم بالعزائم، أو يلقون إليهم بالمودة؛ انتهى. و وجوه الاستمتاع كثيرة تدخل هذه الأقوال كلها تحتها فينبغي أن يعتقد في هذه الأقوال أنها تمثيل في الاستمتاع لا حصر في واحد منها، و ظاهر قوله: اسْتَمْتَعَ بَعْضُنا بِبَعْضٍ أي بعض الإنس بالجن و بعض الجن بالإنس. و قيل: المعنى استمتع بعض الإنس ببعضه و بعض الجن ببعضه، جعل الاستمتاع لبعض الصنف لبعض و القول السابق بعض الصنفين ببعض الصنفين و الأجل الذي بلغوه الموت قاله الجمهور و ابن عباس و السدي و غيرهما. و قيل: البعث و الحشر و لم يذكر الزمخشري غيره. و قيل: هو الغاية التي انتهى إليها جميعهم من الاستمتاع و هذا القول منهم اعتذار عن الجن في كونهم استكثروا منهم و إشارة إلى أن ذلك بقدرك و قضائك إذ لكل كتاب أجل و اعتراف بما كان منهم من طاعة الشياطين و اتباع الهوى و التكذيب بالبعث و استسلام و تحسر على حالهم. و قرئ