کتابخانه تفاسیر
البحر المحيط فى التفسير، ج9، ص: 110
أنفسهم. و الثاني: أن يكون مفعولا من أجله، أي تريدون آلهة من دون اللّه إفكا، و آلهة مفعول به، و قدمه عناية به، و قدم المفعول له على المفعول به، لأنه كان الأهم عنده أن يكافحهم بأنهم على إفك و باطل في شركهم، و بدأ بهذا الوجه الزمخشري. و الثالث: أن يكون حالا، أي أ تريدون آلهة من دون اللّه آفكين؟ قاله الزمخشري، و جعل المصدر حالا لا يطرد إلا مع أما في نحو: أما علما فعالم.
فَما ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ : استفهام توبيخ و تحذير و توعد، أي: أي شيء ظنكم بمن هو يستحق لأن تعبدوه، إذ هو رب العالمين حتى تركتم عبادته و عدلتم به الأصنام؟ أي: أيّ شيء ظنكم بفعله معكم من عقابكم، إذ قد عبدتم غيره؟ كما تقول: أسأت آل فلان، فما ظنك به أن يوقع بك خيرا ما أسأت إليه؟ و لما وبخهم على عبادة غير اللّه، أراد أن يريهم أن أصنامهم لا تنفع و لا تضر، فعهد إلى ما يجعله منفردا بها حتى يكسرها و يبين لهم حالها و عجزها. فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ ، و الظاهر أنه أراد علم الكواكب، و ما يعزى إليها من التأثيرات التي جعلها اللّه لها. و الظاهر أن نظره كان فيها، أي في علمها، أو في كتابها الذي اشتمل على أحوالها و أحكامها. قيل: و كانوا يعانون ذلك، فأتاهم من الجهة التي يعانونها، و أوهمهم بأنه استدل بأمارة في علم النجوم أنه سقيم، أي يشارف السقم. قيل:
و هو الطاعون، و كان أغلب الأسقام عليهم إذ ذاك، و خافوا العدوى و هربوا منه إلى عيدهم، و لذلك قال: فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ ، قال معناه ابن عباس، و تركوه في بيت الأصنام ففعل ما فعل. و قيل: كانوا أهل رعاية و فلاحة، و كانوا يحتاجون إلى علم النجوم. و قيل: أرسل إليهم ملكهم أن غدا عيدنا، فاحضر معنا، فنظر إلى نجم طالع فقال: إن هذا يطلع مع سقمي.
و قيل: معنى فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ ، أي فيما نجم إليه من أمور قومه و حاله معهم، و معنى: فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ ، أي لكفرهم به و احتقارهم له، و قوله: إِنِّي سَقِيمٌ ، من المعاريض، عرض أنه يسقم في المآل، أي يشارف السقم. قيل: و هو الطاعون، و كان أغلب، و فهموا منه أنه ملتبس بالسقم، و ابن آدم لا بد أن يسقم، و المثل: كفى بالسلامة داء. قال الشاعر:
فدعوت ربي بالسلامة جاهدا
ليصحني فإذا السلامة داء
و مات رجل فجأة، فاكتنف عليه الناس فقالوا: مات و هو صحيح، فقال أعرابي:
أ صحيح من الموت في عنقه؟ فَراغَ إِلى آلِهَتِهِمْ : أي أصنامهم التي هي في زعمهم
البحر المحيط فى التفسير، ج9، ص: 111
آلهة، كقوله: أَيْنَ شُرَكائِيَ* «1» ، و عرض الأكل عليها. و استفهامها عن النطق هو على سبيل الهزء، لكونها منحطة عن رتبة عابديها، إذ هم يأكلون و ينطقون. و روي أنهم كانوا يضعون عندها طعاما، و يعتقدون أنها تصيب منه شيئا، و إنما يأكله خدمتها. فَراغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ : أي أقبل عليهم مستخفيا ضاربا، فهو مصدر فى موضع الحال، أو يضربهم ضربا، فهو مصدر فعل محذوف، أو ضمن فراغ عليهم معنى ضربهم، و باليمين:
أي يمين يديه. قال ابن عباس: لأنها أقوى يديه أو بقوته، لأنه قيل: كان يجمع يديه في الآلة التي يضربها بها و هي الفأس. و قيل: سبب الحلف الذي هو: وَ تَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ «2» .
و قرأ الجمهور: يَزِفُّونَ ، بفتح الياء، من زف: أسرع، أو من زفاف العروس، و هو التمهل في المشية، إذ كانوا في طمأنينة أن ينال أصنامهم شيء لعزتهم. و قرأ حمزة، و مجاهد، و ابن وثاب، و الأعمش: بضم الياء، من أزف: دخل في الزفيف، فهي للتعدي، قاله الأصمعي. و قرأ مجاهد أيضا، و عبد اللّه بن يزيد، و الضحاك، و يحيى بن عبد الرحمن المقري، و ابن أبي عبلة: يزفون مضارع زف بمعنى أسرع. و قال الكسائي، و الفراء: لا نعرفها بمعنى زف. و قال مجاهد: الوزيف: السيلان. و قرىء: يزفون مبنيا للمفعول. و قرىء: يزفون بسكون الزاي، من زفاه إذا حداه، فكان بعضهم يزفو بعضا لتسارعهم إليه. و بين قوله: فَراغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ و بين قوله: فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ جمل محذوفة هي مذكورة في سورة اقترب، و لا تعارض بين قوله: فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ و بين سؤالهم مَنْ فَعَلَ هذا بِآلِهَتِنا «3» ، و أخبار من عرض بأنه إبراهيم كان يذكر أصنامهم، لأن هذا الإقبال كان يقتضي تلك الجمل المحذوفة، أي فأقبلوا إليه، أي إلى الإنكار عليه في كسر أصنامهم و تأنيبه على ذلك. و ليس هذا الإقبال من عندهم، بل بعد مجيئهم من عندهم جرت تلك المفاوضات المذكورة في سورة اقترب.
و استسلف الزمخشري في كلامه أشياء لم تتضمنها الآيات، صارت الآيات عنده بها كالمتناقضة. قال، حيث ذكر هاهنا: إنهم أدبروا عنه خيفة العدوى، فلما أبصروه يكسر أصنامهم، أقبلوا إليه متبادرين ليكفوه و يوقعوا به. و ذكرتم أنهم سألوا عن الكاسر حتى قيل:
(1) سورة النحل: 16/ 27، و سورة القصص: 28/ 62، و 74، و سورة فصلت: 41/ 47.
(2) سورة الأنبياء: 21/ 57.
(3) سورة الأنبياء: 21/ 59.
البحر المحيط فى التفسير، ج9، ص: 112
سمعنا إبراهيم يذمهم، فلعله هو الكاسر. ففي إحداهما أنهم شاهدوه يكسرها، و في الأخرى أنهم استدلوا بذمه على أنه الكاسر. انتهى. ما أبدى من التناقض، و ليس في الآيات ما يدل على أنهم أبصروه يكسرهم، فيكون فيه كالتناقض. و لما قرر أنه كالتناقض قال: قلت فيه وجهان: أحدهما: أن يكون الذين أبصروه و زفوا إليه نفرا منهم دون جمهورهم و كبرائهم، فلما رجع الجمهور و العلية من عندهم إلى بيت الأصنام ليأكلوا الطعام الذي وضعوه عندها لتبرك عليه و رأوها مكسورة، اشمأزوا من ذلك و سألوا من فعل هذا بها؟ لم ينم عليه أولئك النفر نميمة صريحة، و لكن على سبيل التورية و التعريض بقولهم: سمعنا فتى يذكرهم لبعض الصوارف. و الثاني: أن يكسرها و يذهب و لا يشعر بذلك أحد، و يكون إقبالهم إليه يزفون بعد رجوعهم من عيدهم، و سؤالهم عن الكاسر، و قولهم: قالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلى أَعْيُنِ النَّاسِ «1» . انتهى. و هذا الوجه الثاني الذي ذكر هو الصحيح.
قالَ أَ تَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ : استفهام توبيخ و إنكار عليهم، كيف هم يعبدون صورا صوّروها بأيديهم و شكلوها على ما يريدون من الأشكال؟ وَ اللَّهُ خَلَقَكُمْ وَ ما تَعْمَلُونَ :
الظاهر أن ما موصولة بمعنى الذي معطوفة على الضمير في خلقكم، أي أنشأ ذواتكم و ذوات ما تعملون من الأصنام، و العمل هنا هو التصوير و التشكيل، كما يقول: عمل الصائغ الخلخال، و عمل الحداد القفل، و النجار الخزانة؛ و يحمل ذلك على أن ما بمعنى الذي يتم الاحتجاج عليهم، بأن كلا من الصنم و عابده هو مخلوق للّه تعالى، و العابد هو المصور ذلك المعبود، فكيف يعبد مخلوق مخلوقا؟ و كلاهما خلق اللّه، و هو المنفرد بإنشاء ذواتهما. و العابد مصور الصنم معبوده. و «ما» في: و ما تَنْحِتُونَ بمعنى تاذي، فكذلك في وَ ما تَعْمَلُونَ ، لأن نحتهم هو عملهم. و قيل: ما مصدرية، أي خلقكم و عملكم، و جعلوا ذلك قاعدة على خلق اللّه أفعال العباد. و قد بدد الزمخشري تقابل هذه المقالة بما يوقف عليه في كتابه. و قيل: ما استفهام إنكاري، أي: و أي شيء تعملون في عبادتكم أصناما تنحتونها؟ أي لا عمل لكم يعتبر. و قيل: ما نافية، أي و ما أنتم تعملون شيئا في وقت خلقكم و لا تقدرون على شيء. و كون ما مصدرية و استفهامية و نعتا، أقوال متعلقة خارجة عن طريق البلاغة. و لما غلبهم إبراهيم، عليه السلام، بالحجة، مالوا إلى الغلبة بقوة الشوكة و الجمع فقالوا: ابْنُوا لَهُ بُنْياناً ، أي في موضع إيقاد النار. و قيل: هو
(1) سورة الأنبياء: 21/ 61.
البحر المحيط فى التفسير، ج9، ص: 113
المنجنيق الذي رمي عنه. و أرادوا به كيدا، فأبطل اللّه مكرهم، و جعلهم الأخسرين الأسفلين، و كذا عادة من غلب بالحجة رجع إلى الكيد.
[سورة الصافات (37): الآيات 99 الى 182]
البحر المحيط فى التفسير، ج9، ص: 114
تل الرجل الرجل: صرعه على شقه، و قيل: وضعه بقوة. و قال ساعدة بن حوبة:
و تل.
تليلا للجبين و للفم و الجبينان: ما اكتنف من هنا و من هنا، و شذ جمع الجبين على أجبن، و قياسه في
البحر المحيط فى التفسير، ج9، ص: 115
القلة أجبنة، ككثيب و أكثبة، و في الكثرة: جبنات و جبن، ككثبات و كثب. الذبح: اسم ما يذبح، كالرعي اسم ما يرعى. أبق: هرب. ساهم: قارع. المدحض: المقلوب.
الحوت: معروف. ألام: أتى بما يلام عليه، قال الشاعر:
و كم من مليم لم يصب بملامة
و متبع بالذنب ليس له ذنب
العراء: الأرض الفيحاء لا شجر فيها و لا يعلم، قال الشاعر:
رفعت رجلا لا أخاف عثارها
و نبذت بالمين العراء ثيابي
اليقطين: يفعيل كاليفصيد، من قطن: أقام بالمكان، و هو بالمكان، و هو ما كان من الشجر لا يقوم على ساق من عود، كشجر البطيخ و الحنظل و القثاء. الساحة: الفناء، و جمعها سوح، قال الشاعر:
فكان سيان أن لا يسرحوا نعما
أو يسرحوه بها و اغبرت السوح
لما سلمه اللّه منهم و من النار التي ألقوه فيها، عزم على مفارقتهم، و عبر بالذهاب إلى ربه عن هجرته إلى أرض الشام. كما قال: إِنِّي مُهاجِرٌ إِلى رَبِّي «1» ، ليتمكن من عبادة ربه و يتضرع له من غير أن يلقى من يشوش عليه، فهاجر من أرض بابل، من مملكة نمرود، إلى الشام. و قيل: إلى أرض مصر. و يبعد قول من قال: ليس المراد بذهابه الهجرة، و إنما مراده لقاء اللّه بعد الإحراق، ظانا منه أنه سيموت في النار، فقالها قبل أن يطرح في النار. و سَيَهْدِينِ : أي إلى الجنة، نحا إلى هذا قتادة، لأن قوله: رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ يدفع هذا القول، و المعتقد أنه يموت في النار لا يدعو بأن يهب اللّه له ولدا صالحا.
سَيَهْدِينِ : يوفقني إلى ما فيه صلاحي. مِنَ الصَّالِحِينَ : أي ولدا يكون في عداد
(1) سورة العنكبوت: 29/ 26.
البحر المحيط فى التفسير، ج9، ص: 116
الصالحين. و لفظ الهبة غلب في الولد، و إن كان قد جاء في الأخ، كقوله: وَ وَهَبْنا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنا أَخاهُ هارُونَ نَبِيًّا «1» . و اشتملت البشارة على ذكورية المولود و بلوغه سن الحلم و وصفه بالحلم، و أي حلم أعظم من قوله، و قد عرض عليه أبوه الذبح: سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ ؟
فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ ، بين هذه الجملة و التي قبلها محذوف تقديره: فولد له و شب. فَلَمَّا بَلَغَ : أي بلغ أن يسعى مع أبيه في أشغاله و حوائجه. و قال ابن عباس، و مجاهد، و ابن زيد: و السعي هنا: العمل و العبادة و المعونة. و قال قتادة: السعي على القدم، يريد سعيا متمكنا، و فيه قال الزمخشري: لا يصح تعلقه ببلغ به بلوغهما معا حد السعي و لا بالسعي، لأن أصله المصدر لا يتقدم عليه، فنفى أن يكون بيانا، كأنه لما قال:
فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ ، أي الحد الذي يقدر فيه على السعي، قيل: مع من؟ فقال: مع أبيه، و المعنى في اختصاص الأب أنه أرفق الناس و أعطفهم عليه و على غيره و بما عنف عليه في الاستسعاء، فلا يحتمله، لأنه لم يستحكم قوله، و لم يطلب عوده، و كان إذ ذاك ابن ثلاث عشرة سنة. انتهى.
قالَ يا بُنَيَ : نداء شفقة و ترحم. إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ : أي بأمر من اللّه، و يدل عليه: افْعَلْ ما تُؤْمَرُ . و رؤيا الأنبياء وحي كاليقظة، و ذكره له الرؤيا تجسير على احتمال تلك البلية العظيمة. و شاوره بقوله: فَانْظُرْ ما ذا تَرى ، و إن كان حتما من اللّه ليعلم ما عنده من تلقي هذا الامتحان العظيم، و يصبره إن جزع، و يوطن نفسه على ملاقاة هذا البلاء، و تسكن نفسه لما لا بد منه، إذ مفاجأة البلاء قبل الشعور به أصعب على النفس، و كان ما رآه في المنام و لم يكن في اليقظة، كرؤيا يوسف عليه السلام، و رؤيا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم دخول المسجد الحرام، ليدل على أن حالتي الأنبياء يقظة و مناما سواء في الصدق متظافرتان عليه.
قيل: إنه حين بشرت الملائكة بغلام حليم قال: هو إذن ذبيح اللّه.
فلما بلغ حد السعي معه قيل له: أوف بنذرك. قيل: رأى ليلة التروية قائلا يقول له: إن اللّه يأمرك بذبح ابنك هذا. فلما أصبح، روّى في ذلك من الصباح إلى الرواح. أمن اللّه هذا الحلم، فمن ثم سمي يوم التروية. فلما أمسى، رأى مثل ذلك، فعرف أنه من اللّه، فمن ثم سمي يوم عرفة. ثم رأى مثله في الليلة الثالثة، فهمّ بنحره، فسمي يوم النحر.