کتابخانه تفاسیر
البحر المحيط فى التفسير، ج9، ص: 222
كانوا قد ماتوا، و هذا نظير: لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولى «1» ثم نفخ فيه أخرى، و احتمل أخرى على أن تكون في موضع نصب، و القائم مقام الفاعل الجار و المجرور، كما أقيم في الأول، و أن يكون في موضع رفع مقاما مقام الفاعل، كما صرح به في قوله: فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ واحِدَةٌ «2» .
فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ «3» : أي أحياء قد أعيدت لهم الأبدان و الأرواح، يَنْظُرُونَ : أي ينتظرون ما يؤمرون، أو ينتظرون ماذا يفعل بهم، أو يقلبون أبصارهم في الجهات نظر المبهوت إذا فاجأه خطب عظيم. و الظاهر قيامهم الذي هو ضد القعود لأجل استيلاء الذهن عليهم. و قرأ زيد بن علي: قياما بالنصب على الحال، و خبر المبتدأ الظرف الذي هو إذا الفجائية، و هي حال لا بد منها، إذ هي محط الفائدة، إلا أن يقدر الخبر محذوفا، أي فإذا هم مبعوثون، أي موجودون قياما. و أن نصبت قياما على الحال، فالعامل فيها ذلك الخبر المحذوف. إن قلنا الخبر محذوف، و أن لا عامل، فالعامل هو العامل في الظرف، فإن كان إذا ظرف مكان على ما يقتضيه كلام سيبويه، فتقديره: فبالحضرة هم قياما؛ و إن كان ظرف زمان، كما ذهب إليه الرياشي، فتقديره: ففي ذلك الزمان الذي نفخ فيه، هم أي وجودهم، و احتيج إلى تقدير هذا المضاف لأن ظرف الزمان لا يكون خبرا عن الجثة؛ و إن كانت إذا حرفا، كما زعم الكوفيون، فلا بد من تقدير الخبر، إلا أن اعتقد أن ينظرون هو الخبر، و يكون ينظرون عاملا في الحال.
و قرأ الجمهور: وَ أَشْرَقَتِ مبنيا للفاعل، أي أضاءت؛ و ابن عباس، و عبيد بن عمير، و أبو الجوزاء: مبنيا للمفعول من شرقت بالضوء تشرق، إذا امتلأت به و اغتصت و أشرقها اللّه، كما تقول: ملأ الأرض عدلا و طبقها عدلا، قاله الزمخشري. و قال ابن عطية:
و هذا إنما يترتب على فعل يتعدى، فهذا على أن يقال: أشرق البيت و أشرقه السراج، فيكون الفعل مجاوزا و غير مجاوز، كرجع و رجعته و وقف و وقفته. و الأرض في هذه الآية:
الأرض المبدلة من الأرض المعروفة، و معنى أشرقت: أضاءت و عظم نورها. انتهى. و قال صاحب اللوامح: وجب أن يكون الإشراق على هذه القراءة منقولا من شرقت الشمس إذا طلعت، فيصير متعديا بالفعل بمعنى: أذهبت ظلمة الأرض، و لا يجوز أن يكون من أشرقت إذا أضاءت، فإن ذلك لازم، و هذا قد تعدى إلى الأرض لما لم يذكر الفاعل، و أقيمت
(1) سورة الدخان: 44/ 56.
(2- 3) سورة الحاقة: 69/ 13.
البحر المحيط فى التفسير، ج9، ص: 223
الأرض مقامه؛ و هذا على معنى ما ذهب إليه بعض المتأخرين من غير أن يتقدم في ذلك، لأن من الأفعال ما يكون متعديا لازما معا على مثال واحد. انتهى.
و
في الحديث الصحيح: «يحشر الناس على أرض بيضاء عفراء كقرصة النقي، ليس بها علم لأحد بنور ربها».
قيل: يخلق اللّه نورا يوم القيامة، فيلبسه وجه الأرض، فتشرق الأرض به،
و قال ابن عباس: النور هنا ليس من نور الشمس و القمر، بل هو نور يخلقه اللّه فيضيء الأرض. و
روي أن الأرض يومئذ من فضة،
و المعنى: أشرقت بنور خلقه اللّه تعالى، أضافه إليه إضافة الملك إلى الملك. و قال الزمخشري: استعار اللّه النور للحق، و القرآن و البرهان في مواضع من التنزيل، و هذا من ذلك. و المعنى: و أشرقت الأرض بما يقيمه فيها من الحق و العدل، و بسط من القسط في الحسنات، و وزن الحسنات و السيئات، و ينادي عليه بأنه مستعار إضافته إلى اسمه، لأنه هو الحق العدل، و إضافة اسمه إلى الأرض، لأنه يزينها حين ينشر فيها عدله، و ينصب فيها موازين قسطه، و يحكم بالحق بين أهلها، و لا ترى أزين للبقاع من العدل و لا أعمر لها منه، و يقولون للملك العادل: أشرقت الآفاق بعدلك و أضاءت الدنيا بقسطك، كما يقولون: أظلمت البلاد بجور فلان. و
قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم: «الظلم ظلمات يوم القيامة»
، و كما فتح الآية بإثبات العدل، ختمها بنفي الظلم.
وَ وُضِعَ الْكِتابُ : أي صحائف الأعمال و وحد، لأنه اسم جنس، و كل أحد له كتاب على حدة، و أبعد من قال: الكتاب هنا اللوح المحفوظ. و روي ذلك عن ابن عباس، و لعله لا يصح، و قد ضعف بأن الآية سيقت مقام التهديد في سياق الخبر. وَ جِيءَ بِالنَّبِيِّينَ ليشهدوا على أممهم، وَ الشُّهَداءِ ، قيل: جمع شاهد، و هم الذين يشهدون على الناس بأعمالهم. و قيل: هم الرسل من الأنبياء. و قيل: أمة محمد صلّى اللّه عليه و سلّم، يشهدون للرسل. و قال عطاء، و مقاتل، و ابن زيد: الحفظة. و قال ابن زيد أيضا: النبيون، و الملائكة، و أمة محمد عليه السلام، و الجوارح. و قال قتادة: الشهداء جمع شهيد، و ليس فيه توعد، و هو مقصود الآية. وَ قُضِيَ بَيْنَهُمْ : أي بين العالم، و لذلك قسموا بعد إلى قسمين: أهل النار و أهل الجنة، بِالْحَقِ : أي بالعدل. وَ وُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ : أي جوزيت مكملا. وَ هُوَ أَعْلَمُ بِما يَفْعَلُونَ ، فلا يحتاج إلى كاتب و لا شاهد، و في ذلك وعيد و زيادة تهديد.
البحر المحيط فى التفسير، ج9، ص: 224
و لما ذكر أشياء من أحوال يوم القيامة على سبيل الإجمال، بين بعد كيفية أحوال الفريقين و ما أفضى إليه كل واحد منهما فقال: وَ سِيقَ ، و السوق يقتضي الحث على المسير بعنف، و هو الغالب فيه. و جواب إذا: فُتِحَتْ أَبْوابُها ، و دل ذلك على أنه لا يفتح إلا إذا جاءت؛ كسائر أبواب السجون، فإنها لا تزال مغلقة حتى يأتي أصحاب الجرائم الذين يسجنون فيها فيفتح ثم يغلق عليهم. و تقدم ذكر قراءة التخفيف و التشديد في فتحت و أبوابها سبعة، كما ذكر في سورة الحجر. وَ قالَ لَهُمْ خَزَنَتُها ، على سبيل التقريع و التوبيخ، أَ لَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ : أي من جنسكم، تفهمون ما ينبئونكم به، و سهل عليكم مراجعتهم. و قرأ ابن هرمز: تأتكم بتاء التأنيث؛ و الجمهور: بالياء. يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آياتِ رَبِّكُمْ : أي الكتب المنزلة للتبشير و النذارة، وَ يُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا : و هو يوم القيامة، و ما يلقى فيه المسمى من العذاب، قالُوا بَلى : أي قد جاءتنا، و تلوا و أنذروا، و هذا اعتراف بقيام الحجة عليهم، وَ لكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذابِ أي قوله تعالى:
لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ* «1» . عَلَى الْكافِرِينَ : وضع الظاهر موضع المضمر، أي علينا، صرحوا بالوصف الموجب لهم العقاب.
و لما فرغت محاورتهم مع الملائكة، أمروا بدخول النار.
وَ سِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً : عبر عن الإسراع بهم إلى الجنة مكرمين بالسوق، و المسوق دوابهم، لأنهم لا يذهبون إليها إلا راكبين. و لمقابلة قسيمهم ساغ لفظ السوق، إذ لو لم يتقدم لفظ و سيق لعبر بأسرع، و إذا شرطية و جوابها قال الكوفيون: و فتحت، و الواو زائدة؛ و قال غيره محذوف. قال الزمخشري: و إنما حذف لأنه في صفة ثواب أهل الجنة، فدل على أنه شيء لا يحيط به الوصف، و حق موقعه ما بعد
(1) سورة الأعراف: 7/ 18.
البحر المحيط فى التفسير، ج9، ص: 225
خالدين. انتهى. و قدره المبرد بعد خالدين سعدوا. و قيل الجواب: وَ قالَ لَهُمْ خَزَنَتُها ، على زيادة الواو، قيل: حَتَّى إِذا جاؤُها وَ فُتِحَتْ أَبْوابُها . و من جعل الجواب محذوفا، أو جعله: وَ قالَ لَهُمْ ، على زيادة الواو؛ و جعل قوله: و فتحت جملة حالية، أي و قد فتحت أبوابها لقوله: جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوابُ «1» . و ناسب كونها حالا أن أبواب الأفراح تكون مفتحة لانتظار من تجيء إليها، بخلاف أبواب السجون. وَ قالَ لَهُمْ خَزَنَتُها سَلامٌ عَلَيْكُمْ : يحتمل أن يكون تحية منهم عند ملاقاتهم، و أن كون خبرا بمعنى السلامة و الأمن. طِبْتُمْ : أي أعمالا و معتقدا و مستقرا و جزاء. فَادْخُلُوها خالِدِينَ : أي مقدرين الخلود.
وَ قالُوا ، أي الداخلون، الجنة الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ وَ أَوْرَثَنَا الْأَرْضَ :
أي ملكناها نتصرف فيها كما نشاء، تشبيها بحال الوارث و تصرفه فيما يرثه. و قيل: ورثوها من أهل النار، و هي أرض الجنة، و يبعد قول من قال هي أرض الدنيا، قاله قتادة و ابن زيد و السدي. نَتَبَوَّأُ منها، حَيْثُ نَشاءُ : أي نتخذ أمكنة و مساكن. و الظاهر أن قوله:
فَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ : أي بطاعة اللّه هذا الأجر من كلام الداخلين. و قال مقاتل: هو من كلام اللّه تعالى. وَ تَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ : الخطاب للرسول حافين. قال الأخفش:
واحدهم حاف. و قال الفراء: لا يفرد. و قيل: لأن الواحد لا يكون حافا، إذ الحفوف:
الإحداق بالشيء من حول العرش. قال الأخفش: من زائدة، أي حافين حول العرش؛ و قيل: هي لابتداء الغاية. و الظاهر عود الضمير من بينهم على الملائكة، إذ ثوابهم، و إن كانوا معصومين، يكون على حسب تفاضل مراتبهم. فذلك هو القضاء بينهم بالحق؛ و قيل: ضمير الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ . الظاهر أن قائل ذلك هم من ذوات بينهم المخاطبة من الداخلين الجنة و من خزنتها، و من الملائكة الحافين حول العرش، إذ هم في نعم سرمدي منجاة من عذاب اللّه. و قال الزمخشري: المقضي بينهم، إما جميع العباد، و إما الملائكة، كأنه قيل: وَ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِ . و قالوا: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ على إفضاله و قضائه بيننا بالحق، و أنزل كل منا منزلة التي هي حقه. و قال ابن عطية:
و قيل: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ خاتمة المجالس المجتمعات في العلم.
(1) سورة ص: 38/ 50.
البحر المحيط فى التفسير، ج9، ص: 226
سورة غافر
[سورة غافر (40): الآيات 1 الى 85]