کتابخانه تفاسیر
البحر المحيط فى التفسير، ج9، ص: 476
و أبو بكر: بالياء فيهن و أويس، و نبلوا: بإسكان الواو و بالنون؛ و الأعمش: بإسكانها و بالياء، و ذلك على القطع، إعلاما بأن ابتلاءه دائم. و معنى: حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ : أي نعلمهم مجاهدين قد خرج جهادهم إلى الوجود، و بأن مسكهم الذي يتعلق به ثوابهم. إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا : ناس من بني إسرائيل، و تبين هداهم: معرفتهم بالرسول من التوراة، أو منافقون كأن الإيمان قد داخل قلوبهم ثم نافقوا؛ و المطعمون: سفرة بدر؛ و تبين الهدى:
وجوده عند الداعي إليه، أو مشاعة في كل كافر؛ و تبين الهدى من حيث كان في نفسه، أقوال. وَ سَيُحْبِطُ أَعْمالَهُمْ : أي التي كانوا يرجون بها انتفاعا، و أعمالهم التي كانوا يكيدون بها الرسول و دين الإسلام.
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا :
قيل نزلت في بني إسرائيل، أسلموا و قالوا لرسول اللّه: قد آثرناك و جئناك بنفوسنا و أهلنا، كأنهم منوا بذلك، فنزلت فيهم هذه الآية.
و قوله: يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا «1» ، فعلى هذا يكون: وَ لا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ بالمن بالإسلام. و عن ابن عباس: بالرياء و السمعة، و عنه: بالشرك و النفاق؛ و عن حذيفة: بالكبائر، و قيل:
بالعجب، فإنه يأكل الحسنات، كما تأكل النار الحطب. و عن مقاتل: بعصيانكم للرسول.
و قيل: أعمالكم: صدقاتكم بالمن و الأذى. ماتُوا وَ هُمْ كُفَّارٌ : عام في الموجب لانتفاء الغفران، و هو وفاتهم على الكفر. و قيل: هم أهل القليب. و
قيل: نزلت بسبب عدي بن حاتم، رضي اللّه عنه، سأل رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم عن أبيه قال: و كانت له أفعال بر، فما حاله؟
فقال: «في النار»، فبكى عدي و ولى، فدعاه فقال له: «أبي و أبوك و أبو إبراهيم خليل الرحمن في النار»، فنزلت.
فَلا تَهِنُوا وَ تَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ : و هو الصلح. و قرأ الجمهور: و تدعوا، مضارع دعا؛ و السلمي: بتشديد الدال، أي تفتروا؛ و الجمهور: إلى السلم، بفتح السين؛ و الحسن، و أبو رجاء، و الأعمش، و عيسى، و طلحة، و حمزة، و أبو بكر: بكسرها. و تقدم الكلام على السلام في البقرة في قوله: ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً «2» و قال الزمخشري:
و قرىء: و لا تدعوا من ادعى القوم، و تداعوا إذا ادعوا، نحو قولك: ارتموا الصيد و تراموا.
انتهى. و التلاوة بغير لا، و كان يجب أن يأتي بلفظ التلاوة فيقول: و قرىء: و تدعوا معطوف على تهنوا، فهو مجزوم، و يجوز أن يكون مجزوما بإضمار إن. وَ أَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ : أي الأعليون، و هذه الجملة حالية؛ و كذا: وَ اللَّهُ مَعَكُمْ . و يجوز أن يكونا جملتي استئناف،
(1) سورة الحجرات: 49/ 17.
(2) سورة البقرة: 2/ 208.
البحر المحيط فى التفسير، ج9، ص: 477
أخبر أولا بقوله: أَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ ، فهو إخبار بمغيب أبرزه الوجود، ثم ارتقى إلى رتبة أعلى من التي قبلها، و هي كون اللّه تعالى معهم. وَ لَنْ يَتِرَكُمْ ، قال ابن عباس: و لن يظلمكم؛ و قيل: لن يعريكم من ثواب أعمالكم؛ و قيل: و لين ينقصكم. و قال الزمخشري، و قال أبو عبيد: وَ لَنْ يَتِرَكُمْ : من وترت الرجل، إذا قتلت له قتيلا من ولد أو أخ أو حميم أو قريب؛ قال: أو ذهبت بماله؛ قال: أو حربته، و حقيقته أفردته من قريبه أو ماله من الوتر و هو الفرد. فشبه إضاعة عمل العامل و تعطيل ثوابه بوتر الواتر، و هو من فصيح الكلام، و منه
قوله عليه الصلاة و السلام: «من فاتته صلاة العصر فكأنما وتر أهله و ماله»
، أي أفرد عنهما قتلا و نهبا.
إِنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَ لَهْوٌ : و هو تحقير لأثر الدنيا، أي فلا تهنوا في الجهاد.
و أخبر عنها بذلك، باعتبار ما يختص بها من ذلك؛ و أما ما فيها من الطاعة و أمر الآخرة فليس بذلك. يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ : أي ثواب أعمالكم من الإيمان و التقوى، وَ لا يَسْئَلْكُمْ أَمْوالَكُمْ . قال سفيان بن عيينة: أي كثيرا من أموالكم، إنما يسألكم ربع العشر، فطيبوا أنفسكم. و قيل: لا حاجة إليها، بل يرجع ثواب إنفاقكم إليكم. و قيل: إنما يسألكم أمواله، لأنه هو المالك لها حقيقة، و هو المنعم بإعطائها. و قيل: الضمير في يسألكم للرسول، أي لا يسألكم أجرا على تبليغ الرسالة، كما قال: قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَ ما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ «1» .
إِنْ يَسْئَلْكُمُوها جميعا فَيُحْفِكُمْ : أي يبالغ في الإلحاح. تَبْخَلُوا وَ يُخْرِجْ أَضْغانَكُمْ : أي تطعنون على الرسول و تضيق صدوركم كذلك، و تخفون دينا يذهب بأموالكم. و قرأ الجمهور: و يخرج أضغانكم جزما على جواب الشرط، و الفعل مسند إلى اللّه، أو إلى الرسول، أو إلى البخل. و قرأ عبد الوارث، عن أبي عمرو: و يخرج، بالرفع على الاستئناف بمعنى: و هو يخرج. و حكاها أبو حاتم، عن عيسى؛ و في اللوامح عن عبد الوارث، عن أبي عمرو: و تخرج، بالتاء و فتحها و ضم الراء و الجيم؛ أضغانكم:
بالرفع، بمعنى: و هو يخرج أو سيخرج أضغانكم، رفع بفعله. و قرأ ابن عباس، و مجاهد، و ابن سيرين، و ابن محيصن، و أيوب بن المتوكل، و اليماني: و تخرج، بتاء التأنيث مفتوحة؛ أضغانكم: رفع به؛ و يعقوب: و نخرج، بالنون؛ أضغانكم: رفعا، و هي مروية
(1) سورة ص: 38/ 86.
البحر المحيط فى التفسير، ج9، ص: 478
عن عيسى، إلا أنه فتح الجيم بإضمار أن، فالواو عاطفة على مصدر متوهم، أي يكف بخلكم و إخراج أضغانكم. و هذا الذي خيف أن يعتري المؤمنين، هو الذي تقرب به محمد بن سلمة إلى كعب بن الأشرف، و توصل به إلى قتله حين قاله له: إن هذا الرجل قد أكثر علينا و طلب منا الأموال.
ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ : كرر هاء التنبيه توكيدا، و تقدم الكلام على هذا التركيب في سورة آل عمران. و قال الزمخشري: هؤلاء موصول بمعنى الذين صلته تدعون، أي أنتم الذين تدعون، أو أنتم يا مخاطبون هؤلاء الموصوفون؛ ثم استأنف وصفهم كأنهم قالوا: و ما وصفنا فقيل: تدعون لتنفقوا في سبيل اللّه. انتهى. و كون هؤلاء موصولا إذا تقدمها ما الاستفهامية باتفاق، أو من الاستفهامية باختلاف. فِي سَبِيلِ اللَّهِ ، قيل: للغزو، و قيل:
الزكاة، و اللفظ أعم. وَ مَنْ يَبْخَلْ : أي بالصدقة و ما أوجب اللّه عليه؛ فَإِنَّما يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ : أي لا يتعدى ضرره لغيره. و بخل يتعدى بعلى و بعن. يقال: بخلت عليه و عنه، و صليت عليه و عنه؛ و كأنهما إذا عديا بعن ضمنا معنى الإمساك، كأنه قيل: أمسكت عنه بالبخل.
وَ اللَّهُ الْغَنِيُّ وَ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ : أي الغني مطلقا، إذ يستحيل عليه الحاجات. و أنتم الفقراء مطلقا، لافتقاركم إلى ما تحتاجون إليه في الدنيا، و إلى الثواب في الآخرة. وَ إِنْ تَتَوَلَّوْا : عطف على: وَ إِنْ تُؤْمِنُوا وَ تَتَّقُوا ، أي و إن تتولوا، أي عن الإيمان و التقوى.
يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ : أي يخلق قوما غيركم راغبين في الإيمان و التقوى، غير متولين عنهما، كما قال: وَ يَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ* «1» . و تعيين أولئك القوم، و أنهم الأنصار، أو التابعون، أو أهل اليمن، أو كندة و النخع، أو العجم، أو فارس و الروم، أو الملائكة، أقوال. و الخطاب لقريش، أو لأهل المدينة، قولان. و
روى أبو هريرة أنه عليه الصلاة و السلام سئل عن هذا، و كان سلمان إلى جنبه، فوضع يده على فخذه و قال: «قوم هذا و الذي نفسي بيده لو كان الإيمان منوطا بالثريا لتناوله رجال من فارس».
و إن صح هذا الحديث، وجب المصير في تعيين ما انبهم من قوله: قَوْماً غَيْرَكُمْ إلى تعيين الرسول.
ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ : أي في الخلاف و التولي و البخل.
(1) سورة إبراهيم: 14/ 19.
البحر المحيط فى التفسير، ج9، ص: 479
سورة الفتح
[سورة الفتح (48): الآيات 1 الى 29]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
البحر المحيط فى التفسير، ج9، ص: 481
ظفر بالشيء: غلب عليه، و أظفره: غلبه. المعرة: المكروه و المشقة اللاصقة، مأخوذ من العر و العرة، و هو الجرب الصعب اللازم. قال الشاعر:
كذي العرّ يكوى غيره و هو راتع الشطء: الفراخ، أشطأ الزرع: أفرخ، و الشجرة: أخرجت غصونها. آزر: ساوى طولا. قال الشاعر:
بمخيبة قد آزر الضال نبتها
بجر جيوش غانمين و خيب
أي ساوى نبتها الضال طولا، و هو شجر، و وزنه أفعل لقولهم في المضارع: يوزر.
البحر المحيط فى التفسير، ج9، ص: 482
هذه السورة مدنية، و عن ابن عباس أنها نزلت بالمدينة، و لعل بعضا منها نزل، و الصحيح أنها نزلت بطريق منصرفه صلى اللّه عليه و سلم من الحديبية، سنة ست من الهجرة، فهي تعد في المدني. و مناسبتها لما قبلها أنه تقدم: وَ إِنْ تَتَوَلَّوْا «1» الآية، و هي خطاب لكفار قريش، أخبر رسوله بالفتح العظيم، و أنه بهذا الفتح حصل الاستبدال، و آمن كل من كان بها، و صارت مكة دار إيمان. و لما قفل رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم من صلح الحديبية، تكلم المنافقون و قالوا: لو كان محمد نبيا و دينه حق، ما صد عن البيت، و لكان فتح مكة. فأكذبهم اللّه تعالى، و أضاف عز و جل الفتح إلى نفسه، إشعارا بأنه من عند اللّه، لا بكثرة عدد و لا عدد، و أكده بالمصدر، و وصفه بأنه مبين، مظهر لما تضمنه من النصر و التأييد. و الظاهر أن هذا الفتح هو فتح مكة. و قال الكلبي، و جماعة: و هو المناسب لآخر السورة التي قبل هذه لما قال: ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ تُدْعَوْنَ «2» الآية، بين أنه فتح لهم مكة، و غنموا و حصل لهم أضعاف ما أنفقوا؛ و لو بخلوا، لضاع عليهم ذلك، فلا يكون بخلهم إلا على أنفسهم. و أيضا لما قال: وَ أَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَ اللَّهُ مَعَكُمْ «3» ، بين برهانه بفتح مكة، فإنهم كانوا هم الأعلين.
و أيضا لما قال: فَلا تَهِنُوا وَ تَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ «4» ، كان فتح مكة حيث لم يلحقهم وهن، و لا دعوا إلى صلح، بل أتى صناديد قريش مستأمنين مستسلمين مسلمين. و كانت هذه البشرى بلفظ الماضي، و إن كان لم يقع، لأن إخباره تعالى بذلك لا بد من وقوعه، و كون هذا الفتح هو فتح مكة بدأ به الزمخشري. و قال الجمهور: هو فتح الحديبية؛ و قاله:
السدي، و الشعبي، و الزهري. قال ابن عطية: و هو الصحيح. انتهى. و لم يكن فيه قتال
(1) سورة محمد: 47/ 38.
(2) سورة محمد: 47/ 38.
(3) سورة محمد: 47/ 35.