کتابخانه تفاسیر
البحر المحيط فى التفسير، ج9، ص: 501
لا بد من صنعا و إن طال السفر و في قوله: تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً دليل على كثرة ذلك منهم. و قرأ عمرو بن عبيد:
و رضوانا، بضم الراء. و قرىء: سيمياهم، بزيادة ياء و المد، و هي لغة فصيحة كثيرة في الشعر، قال الشاعر:
غلام رماه اللّه بالحسن يافعا
له سيمياء لا تشق على البصر
و هذه السيما، قال مالك بن أنس: كانت جباههم منيرة من كثرة السجود في التراب.
و قال ابن عباس، و خالد الحنفي، و عطية: وعد لهم بأن يجعل لهم نورا يوم القيامة من أثر السجود. و قال ابن عباس أيضا: السمت: الحسن و خشوع يبدو على الوجه. و قال الحسن، و معمر بن عطية: بياض و صفرة و بهيج يعتري الوجه من السهر. و قال عطاء، و الربيع بن أنس: حسن يعترى وجوه المصلين. و قال منصور: سألت مجاهدا: هذه السيما هي الأثر يكون بين عيني الرجل؟ قال: لا، و قد تكون مثل ركبة البعير، و هي أقسى قلبا من الحجارة. و قال ابن جبير: ذلك مما يتعلق بجباههم من الأرض عند السجود. و قال الزمخشري: المراد بها السمة التي تحدث في جبهة السجاد من كثرة السجود. و قوله:
مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ يفسرها: أي من التأثير الذي يؤثره السجود. و كان كل من العليين، علي بن الحسين زين العابدين، و علي بن عبد اللّه بن العباس أبي الملوك، يقال له ذو الثفنات، لأن كثرة سجودهما أحدثت في مواقعه منهما أشباه ثفنات البعير. انتهى. و قرأ ابن هرمز: إثر، بكسر الهمزة و سكون الثاء، و الجمهور بفتحهما. و قرأ قتادة: من آثار السجود، بالجمع.
ذلِكَ : أي ذلك الوصف من كونهم أشداء رحماء مبتغين سيماهم في وجوههم صفتهم في التوراة. قال مجاهد و الفراء: هو مثل واحد، أي ذلك صفتهم في التوراة و الإنجيل، فيوقف على الإنجيل. و قال ابن عباس: هما مثلان، فيوقف على ذلك في التوراة؛ و كزرع: خبر مبتدأ محذوف، أي مثلهم كزرع، أو هم كزرع. و قال الضحاك:
المعنى ذلك الوصف هو مثلهم في التوراة و تم الكلام، ثم ابتدأ و مثلهم في الإنجيل كزرع، فعلى هذا يكون كزرع خبر و مثلهم. و قال قتادة: مثل أصحاب النبي صلى اللّه عليه و سلم في الإنجيل مكتوب أنه سيخرج من أمة محمد صلى اللّه عليه و سلم قوم ينبتون نباتا كالزرع، يأمرون بالمعروف و ينهون عن المنكر. و قال الزمخشري: و يجوز أن يكون ذلك إشارة مبهمة أوضحت بقوله:
البحر المحيط فى التفسير، ج9، ص: 502
كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ ، كقوله: وَ قَضَيْنا إِلَيْهِ ذلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ «1» . و قال ابن عطية:
و قوله: كزرع، هو على كلا الأقوال، و في أي كتاب أنزل، فرض مثل للنبي صلى اللّه عليه و سلم و أصحابه في أن النبي صلى اللّه عليه و سلم بعث وحده، فكان كالزرع حبة واحدة، ثم كثر المسلمون فهم كالشطء، و هو فراخ السنبلة التي تنبت حول الأصل. انتهى. و قال ابن زيد: شطأه: فراخه و أولاده.
و قال الزجاج: نباته. و قال قطرب: شتول السنبل يخرج من الحبة عشر سنبلات و تسع و ثمان، قاله الفراء. و قال الكسائي و الأخفش: طرفه، قال الشاعر:
أخرج الشطء على وجه الثرى
و من الأشجار أفنان الثمر
و قرأ الجمهور: شطأه، بإسكان الطاء و الهمزة؛ و ابن كثير، و ابن ذكوان: بفتحهما؛ و كذلك: و بالمدّ، أبو حيوة و ابن أبي عبلة و عيسى الكوفي؛ و بألف بدل الهمزة، زيد بن علي؛ فاحتمل أن يكون مقصورا، و أن يكون أصله الهمز، فنقل الحركة و أبدل الهمزة ألفا.
كما قالوا في المرأة و الكمأة: المراة و الكماة، و هو تخفيف مقيس عند الكوفيين، و هو عند البصريين شاذ لا يقاس عليه. و قرأ أبو جعفر: شطه، بحذف الهمزة و إلقاء حركتها على الطاء. و رويت عن شيبة، و نافع، و الجحدري، و عن الجحدري أيضا: شطوه بإسكان الطاء و واو بعدها. و قال أبو الفتح: هي لغة أو بدل من الهمزة، و لا يكون الشط إلا في البر و الشعير، و هذه كلها لغات. و قال صاحب اللوامح: شطأ الزرع و أشطأ، إذا أخرج فراخه، و هو في الحنطة و الشعير و غيرهما. و قرأ ابن ذكوان: فأزره ثلاثيا؛ و باقي السبعة: فآزره، على وزن أفعله. و قرىء: فازّره، بتشديد الزاي. و قول مجاهد و غيره: آزره فاعله خطأ، لأنه لم يسمع في مضارعه إلا يؤزر، على وزن يكرم؛ و الضمير المنصوب في آزره عائد على الزرع، لأن الزرع أول ما يطلع رقيق الأصل، فإذا خرجت فراخه غلظ أصله و تقوى، و كذلك أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم كانوا أقلة ضعفاء، فلما كثروا و تقووا قاتلوا المشركين. و قال الحسن: آزره: قواه و شدّ أزره. و قال السدي: صار مثل الأصل في الطول. فَاسْتَغْلَظَ :
صار من الرقة إلى الغلظ. فَاسْتَوى : أي تم نباته. عَلى سُوقِهِ : جمع ساق، كناية عن أصوله. و قرأ ابن كثير: على سؤقه بالهمز. قيل: و هي لغة ضعيفة يهمزون الواو الذي قبلها ضمة، و منه قول الشاعر:
أحب المؤقدين إليّ مؤسي
(1) سورة الحجر: 15/ 66.
البحر المحيط فى التفسير، ج9، ص: 503
يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ : جملة في موضع الحال؛ و إذا أعجب الزراع، فهو أحرى أن يعجب غيرهم لأنه لا عيب فيه، إذ قد أعجب العارفين بعيوب الزرع، و لو كان معيبا لم يعجبهم، و هنا تم المثل. و لِيَغِيظَ : متعلق بمحذوف يدل عليه الكلام قبله تقديره:
جعلهم اللّه بهذه الصفة لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ . و قال الزمخشري: فإن قلت: ليغيظ بهم الكفار تعليل لما ذا؟ قلت: لما دل عليه تشبيههم بالزرع من نمائهم و ترقيهم في الزيادة و القوّة، و يجوز أن يعلل به. وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا : لأن الكفار إذا سمعوا بما أعدّ لهم في الآخرة مع ما يعزهم به في الدنيا غاظهم ذلك. و معنى: مِنْهُمْ : للبيان، كقوله تعالى: فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ «1» . و قال ابن عطية: و قوله منهم، لبيان الجنس و ليست للتبعيض، لأنه وعد مدح الجميع. و قال ابن جرير: منهم يعني: من الشطء الذي أخرجه الزرع، و هم الداخلون في الإسلام بعد الزرع إلى يوم القيامة، فأعاد الضمير على معنى الشطء لا على لفظه. و الأجر العظيم: الجنة. و ذكر عند مالك بن أنس رجل ينتقص الصحابة، فقرأ مالك هذه الآية و قال: من أصبح بين الناس في قلبه غيظ من أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم، فقد أصابته هذه الآية، و اللّه الموفق.
(1) سورة الحج: 22/ 30.
البحر المحيط فى التفسير، ج9، ص: 504
سورة الحجرات
[سورة الحجرات (49): الآيات 1 الى 18]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
البحر المحيط فى التفسير، ج9، ص: 505
التنابز بالألقاب: التداعي بها، تفاعل من نبزه، و بنو فلان يتنابزون و يتنازبون، و يقال: النبز و النزب لقب السوء. اللقب: هو ما يدعى به الشخص من لفظ غير اسمه و غير كنيته، و هو قسمان: قبيح، و هو ما يكرهه الشخص لكونه تقصيرا به و ذما؛ و حسن، و هو بخلاف ذلك، كالصديق لأبي بكر، و الفاروق لعمر، و أسد اللّه لحمزة، رضي اللّه تعالى عنهم. تجسس الأمر: تطلبه و بحث عن خفيه، تفعل من الجس، و منه الجاسوس: و هو الباحث عن العورات ليعلم بها؛ و يقال لمشاعر الإنسان: الحواس، بالحاء و الجيم.
الشعب: الطبقة الأولى من الطبقات الست التي عليها العرب و هي: الشعب، و القبيلة، و العمارة، و البطن، و الفخذ، و الفصيلة. فالشعب يجمع القبائل؛ و القبيلة تجمع العمائر؛ و العمارة تجمع البطون؛ و البطن يجمع الأفخاذ؛ و الفخذ يجمع الفصائل. خزيمة شعب؛
البحر المحيط فى التفسير، ج9، ص: 506
و كنانة قبيلة؛ و قريش عمارة؛ و قصي بطن؛ و هاشم فخذ؛ و العباس فصيلة. و سميت الشعوب، لأن القبائل تشعبت منها. و روي عن ابن عباس: الشعوب: البطون، هذا غير ما تمالأ عليه أهل اللغة، و يأتي خلاف في ذلك عند قوله: وَ جَعَلْناكُمْ شُعُوباً . القبيلة دون الشعب، شبهت بقبائل الرأس لأنها قطع تقابلت. ألت يألت: بضم اللام و كسرها ألتا، و لات يليت و ألات يليت، رباعيا، ثلاث لغات حكاها أبو عبيدة، و المعنى نقص. و قال رؤبة:
و ليلة ذات ندى سريت
و لم يلتني عن سراها ليت
أي: لم يمنعني و لم يحبسني. و قال الحطيئة:
أبلغ سراة بني سعد مغلظة
جهد الرسالة لا ألتا و لا كذبا
هذه السورة مدنية. و مناسبتها لآخر ما قبلها ظاهرة، لأنه ذكر رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم و أصحابه، ثم قال: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ «1» ، فربما صدر من المؤمن عامل الصالحات بعض شيء مما ينبغي أن ينهى عنه، فقال تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَ رَسُولِهِ .
و كانت عادة العرب، و هي إلى الآن الاشتراك في الآراء، و أن يتكلم كل بما شاء و يفعل ما أحب، فجرى من بعض من لم يتمرن على آداب الشريعة بعض ذلك. قال قتادة:
فربما قال قوم: ينبغي أن يكون كذا لو أنزل في كذا. و قال الحسن: ذبح قوم ضحايا قبل
(1) سورة الفتح: 48/ 29.
البحر المحيط فى التفسير، ج9، ص: 507
النبي صلى اللّه عليه و سلم، و فعل قوم في بعض غزواته شيئا بآرائهم، فنزلت هذه الآية ناهية عن جميع ذلك. فقال ابن عباس: نهوا أن يتكلموا بين يدي كلامه. و تقول العرب: تقدمت في كذا و كذا، و قدمت إذ قلت فيه.
و قرأ الجمهور: لا تقدموا، فاحتمل أن يكون متعديا، و حذف مفعوله ليتناول كل ما يقع في النفس مما تقدم، فلم يقصد لشيء معين، بل النهي متعلق بنفس الفعل دون تعرض لمفعول معين، كقولهم: فلان يعطي و يمنع. و احتمل أن يكون لازما بمعنى تقدم، كما تقول: وجه بمعنى توجه، و يكون المحذوف مما يوصل إليه بحرف، أي لا تتقدّموا في شيء ما من الأشياء، أو بما يحبون. و يعضد هذا الوجه قراءة ابن عباس و أبي حيوة و الضحاك و يعقوب و ابن مقسم. لا تقدموا، بفتح التاء و القاف و الدال على اللزوم، و حذفت التاء تخفيفا، إذ أصله لا تتقدموا. و قرأ بعض المكيين: تقدموا بشد التاء، أدغم تاء المضارعة في التاء بعدها، كقراءة البزي. و قرىء: لا تقدموا، مضارع قدم، بكسر الدال، من القدوم، أي لا تقدموا إلى أمر من أمور الدين قبل قدومها، و لا تعجلوا عليها، و المكان المسامت وجه الرجل قريبا منه. قيل: فيه بين يدي المجلوس إليه توسعا، لما جاور الجهتين من اليمين و اليسار، و هي في قوله: بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ ، مجاز من مجاز التمثيل.
و فائدة تصوير الهجنة و الشناعة فيها؛ نهوا عنه من الإقدام على أمر دون الاهتداء على أمثلة الكتاب و السنة؛ و المعنى: لا تقطعوا أمرا إلا بعد ما يحكمان به و يأذنان فيه، فتكونوا عاملين بالوحي المنزل، أو مقتدين برسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم، و هذا، و على هذا مدار تفسير ابن عباس. و قال مجاهد: لا تفتاتوا على اللّه شيئا حتى يقصه اللّه على لسان رسوله صلى اللّه عليه و سلم، و في هذا النهي توطئة لما يأتي بعد من نهيهم عن رفع أصواتهم. و لما نهى أمر بالتقوى، لأن من التقوى اجتناب المنهي عنه. إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ لأقوالكم، عَلِيمٌ بنياتكم و أفعالكم.
ثم ناداهم ثانيا، تحريكا لما يلقيه إليهم، و استبعادا لما يتجدد من الأحكام، و تطرية للإنصات. و نزلت بسبب عادة الأعراب من الجفاء و علو الصوت. لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ :