کتابخانه تفاسیر
البحر المحيط فى التفسير، ج9، ص: 541
و فنقبوا متسبب عن شدة بطشهم، فهي التي أقدرتهم على التنقيب و قوتهم عليه.
و يجوز أن يعود الضمير في فنقبوا على قريش، أي فنقبوا في أسفارهم في بلاد القرون، فهل رأوا محيصا حتى يؤملوه لأنفسهم؟ و يدل على عود الضمير على أهل مكة قراءة ابن عباس، و ابن يعمر، و أبي العالية، و نصر بن يسار، و أبي حيوة، و الأصمعي عن أبي عمرو:
بكسر القاف مشدّدة على الأمر لأهل مكة، أي فسيحوا في البلاد و ابحثوا. و قرىء: بكسر القاف خفيفة، أي نقبت أقدامهم و أخفاف إبلهم، أو حفيت لكثرة تطوافهم في البلاد، من نقب خف البعير إذا انتقب و دمى. و يحتمل أن يكون هَلْ مِنْ مَحِيصٍ على إضمار القول، أي يقولون هل من محيص من الهلاك؟ و احتمل أن لا يكون ثم قول، أي لا محيص من الموت، فيكون توفيقا و تقريرا.
إِنَّ فِي ذلِكَ : أي في إهلاك تلك القرون، لَذِكْرى : لتذكرة و اتعاظا، لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ : أي واع، و المعنى: لمن له عقل و عبر عنه بمحله، و من له قلب لا يعي، كمن لا قلب له. و قرأ الجمهور: أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ ، مبنيا للفاعل، و السمع نصب به، أي أو أصغى سمعه مفكرا فيه، و شَهِيدٌ : من الشهادة، و هو الحضور. و قال قتادة: لمن كان له، قيل: من أهل الكتاب، فيعتبر و يشهد بصحتها لعلمه بذلك من التوراة، فشهيد من الشهادة. و قرأ السلمي، و طلحة، و السدي، و أبو البرهسم: أو ألقى مبنيا، للمفعول، السمع: رفع به، أي السمع منه، أي من الذي له قلب. و قيل: المعنى: أو لمن ألقى غيره السمع و فتح له أذنه و لم يحضر ذهنه، أي الملقي و الفاتح و الملقى له و المفتوح أذنه حاضر الذهن متفطن. و ذكر لعاصم أنها قراءة السدي، فمقته و قال: أليس يقول يلقون السمع؟
وَ لَقَدْ خَلَقْنَا السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ : نزلت في اليهود تكذيبا لهم في قولهم: إنه تعالى استراح من خلق السموات و الأرض، فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ : يوم السبت، و استلقى على العرش، و قيل: التشبيه الذي وقع في هذه الأمة إنما أخذ من اليهود. وَ ما مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ : احتمل أن تكون جملة حالية، و احتمل أن تكون استئنافا؛ و اللغوب: الإعياء.
و قرأ الجمهور: بضم اللام،
و علي، و السلمي، و طلحة، و يعقوب، بفتحها
، و هما مصدران، الأول مقيس و هو الضم، و أما الفتح فغير مقيس، كالقبول و الولوع، و ينبغي أن يضاف إلى تلك الخمسة التي ذكرها سيبويه، و زاد الكسائي الوزوع فتصير سبعة.
فَاصْبِرْ ، قيل: منسوخ بآية السيف، عَلى ما يَقُولُونَ : أي اليهود و غيرهم من الكفار قريش و غيرهم، وَ سَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ ، أي فصلّ، قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ ، هي
البحر المحيط فى التفسير، ج9، ص: 542
صلاة الصبح، وَ قَبْلَ الْغُرُوبِ : هي صلاة العصر، قاله قتادة و ابن زيد و الجمهور. و قال ابن عباس: قبل الغروب: الظهر و العصر. وَ مِنَ اللَّيْلِ : صلاة العشاءين، وَ قَبْلَ الْغُرُوبِ : ركعتان قبل المغرب. و في صحيح مسلم، عن أنس ما معناه: أن الصحابة كانوا يصلونها قبل المغرب. و قال قتادة: ما أدركت أحدا يصليها إلا أنسا و أبا برزة الأسلمي. و قال بعض التابعين: كان الصحابة يهبون إليهما كما يهبون إلى المكتوبة. و قال ابن زيد: هي العشاء فقط. و قال مجاهد: هي صلاة الليل. وَ أَدْبارَ السُّجُودِ ، قال أبو الأحوص: هو التسبيح في أدبار الصلوات. و قال عمر،
و عليّ، و أبو هريرة، و الحسن، و الشعبي، و إبراهيم، و مجاهد، و الأوزاعي: هما ركعتان بعد المغرب.
و قال ابن عباس:
هو الوتر بعد العشاء. و قال ابن عباس، و مجاهد أيضا، و ابن زيد: النوافل بعد الفرائض.
و قال مقاتل: ركعتان بعد العشاء، يقرأ في الأولى: قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ «1» ، و في الثانية: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ «2» . و قرأ ابن عباس، و أبو جعفر، و شيبة، و عيسى، و الأعمش، و طلحة، و شبل، و حمزة، و الحرميان: و إدبار بكسر الهمزة، و هو مصدر، تقول: أدبرت الصلاة، انقضت و نمت. و قال الزمخشري و غيره: معناه و وقت انقضاء السجود، كقولهم:
آتيك خفوق النجم. و قرأ الحسن و الأعرج و باقي السبعة: بفتحها، جمع دبر، كطنب و أطناب، أي و في أدبار السجود: أي أعقابه. قال أوس بن حجر:
على دبر الشهر الحرام فأرضنا
و ما حولها جدب سنون تلمح
وَ اسْتَمِعْ : أمر بالاستماع، و الظاهر أنه أريد به حقيقة الاستماع، و المستمع له محذوف تقديره: و استمع لما أخبر به من حال يوم القيامة، و في ذلك تهويل و تعظيم لشأن المخبر به، كما
قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم لمعاذ: «يا معاذ اسمع ما أقول لك»، ثم حدثه بعد ذلك.
و انتصب يَوْمَ بما دل عليه ذلك. يَوْمُ الْخُرُوجِ : أي يوم ينادي المنادي يخرجون من القبور. و قيل: مفعول استمع محذوف تقديره: نداء المنادي. و قيل: تقديره:
نداء الكافر بالويل و الثبور. و قيل: لا يحتاج إلى مفعول، إذ حذف اقتصارا، و المعنى: كن مستمعا، و لا تكن غافلا معرضا. و قيل معنى و استمع: و انتظر، و الخطاب لكل سامع.
و قيل: للرسول، أي ارتقبه، فإن فيه تبين صحة ما قلته، كما تقول لمن تعده بورود فتح:
استمع كذا و كذا، أي كن منتظرا له مستمعا، فيوم منتصب على أنه مفعول به. و قرأ ابن كثير: المنادى بالياء وصلا و وقفا، و نافع، و أبو عمرو؛ بحذف الياء وقفا، و عيسى،
(1) سورة الكافرون: 109/ 1.
(2) سورة الإخلاص: 112/ 1.
البحر المحيط فى التفسير، ج9، ص: 543
و طلحة، و الأعمش، و باقي السبعة: بحذفها وصلا و وقفا اتباعا لخط المصحف، و من أثبتها فعلى الأصل، و من حذفها وقفا فلأن الوقف تغيير يبدل فيه التنوين ألفا نصبا، و التاء هاء، و يشدّد المخفف، و يحذف الحرف في القوافي. و المنادي
في الحديث: «أن ملكا ينادي من السماء أيتها الأجسام الهامدة و العظام البالية و الرمم الذاهبة هلموا إلى الحشر و الوقوف بين يدي اللّه تعالى».
مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ : وصفه بالقرب من حيث يسمع جميع الخلق.
قيل: و المنادي إسرافيل، ينفخ في الصور و ينادي. و قيل: المنادي جبريل. و قال كعب، و قتادة و غيرهما: المكان صخرة بيت المقدس، قال كعب: قربها من السماء بثمانية عشر ميلا، كذا في كتاب ابن عطية، و في كتاب الزمخشري: باثني عشر ميلا، و هي وسط الأرض. انتهى، و لا يصح ذلك إلا بوحي.
يَوْمَ يَسْمَعُونَ : بدل من يَوْمَ يُنادِ ، و الصَّيْحَةَ : صيحة المنادي. قيل:
يسمعون من تحت أقدامهم. و قيل: من تحت شعورهم، و هي النفخة الثانية، و بِالْحَقِ متعلق بالصيحة، و المراد به البعث و الحشر. ذلِكَ : أي يوم النداء و السماع، يَوْمُ الْخُرُوجِ من القبور، و قيل: الإشارة بذلك إلى النداء، و اتسع في الظرف فجعل خبرا عن المصدر، أو يكون على حذف، أي ذلك لنداء نداء يوم الخروج، أو وقت النداء يوم الخروج. و قرأ نافع، و ابن عامر: تشقق بشدّ الشين؛ و باقي السبعة: بتخفيفها. و قرىء:
تشقق بضم التاء، مضارع شققت على البناء للمفعول، و تنشق مضارع انشقت. و قرأ زيد بن علي: تشقق بفك الإدغام، ذكره أبو عليّ الأهوازي في قراءة زيد بن عليّ من تأليفه، و يوم بدل من يوم الثاني. و قيل: منصوب بالمصدر، و هو الخروج. و قيل: المصير، و انتصب سِراعاً على الحال من الضمير في عنهم، و العامل تشقق. و قيل: محذوف تقديره يخرجون، فهو حال من الواو في يخرجون، قاله الحوفي. و يجوز أن يكون هذا المقدر عاملا في يَوْمَ تَشَقَّقُ . ذلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنا يَسِيرٌ : فصل بين الموصوف و صفته بمعمول الصفة، و هو علينا، أي يسير علينا، و حسن ذلك كون الصفة فاصلة. و قال الزمخشري: عَلَيْنا يَسِيرٌ ، تقديم الظرف يدل على الاختصاص، يعني لا يتيسر مثل ذلك اليوم العظيم إلا على القادر الذات الذي لا يشغله شأن عن شأن، كما قال: ما خَلْقُكُمْ وَ لا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ واحِدَةٍ «1» . انتهى، و هو على طريقه في أن تقديم المفعول
(1) سورة لقمان: 31/ 28.
البحر المحيط فى التفسير، ج9، ص: 544
و ما أشبهه من دلالة ذلك على الاختصاص، و قد بحثنا معه في ذلك في سورة الفاتحة في إِيَّاكَ نَعْبُدُ «1» .
نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ : هذا وعيد محض للكفار و تهديد لهم، و تسلية للرسول صلى اللّه عليه و سلم. وَ ما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ : بمتسلط حتى تجبرهم على الإيمان، قاله الطبري. و قيل: التحلم عنهم و ترك الغلظة عليهم. فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ : لأن من لا يخاف الوعيد لكونه غير مصدّق بوقوعه لا يذكر، إذ لا تنفع فيه الذكرى، كما قال:
وَ ذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ «2» ، و ختمت بقوله: فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ ، كما افتتحت ب ق وَ الْقُرْآنِ .
(1) سورة الفاتحة: 1/ 5
. (2) سورة الذاريات: 51/ 55
.
البحر المحيط فى التفسير، ج9، ص: 545
سورة الذّاريات
[سورة الذاريات (51): الآيات 1 الى 60]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (60)
البحر المحيط فى التفسير، ج9، ص: 546
الحبك: الطرائق، مثل حبك الرمل و الماء القائم إذا ضربته الريح، و كذلك حبك الشعر آثار تثنيه و تكسره قال الشاعر:
مكلل بأصول النجم ينسجه
ريح خريق لضاحي مائة حبك
و الدرع محبوكة لأن حلقها مطرق طرائق، و واحدها حبيكة، كطريقة و طرق، أو حباك، كمثال و مثل، قال الراجز:
كأنما حللها الحوّاك
طنفسة في وشيها حباك
البحر المحيط فى التفسير، ج9، ص: 547
و يقال: حباك للظفيرة التي يشد بها خطار القصب بكرة، و هي مستطيلة تصنع في ترحيب الغراسات المصطفة. و قال ابن الأعرابي: حبكت الشيء: أحكمته و أحسنت عمله. قال الفراء: الحبك: تكسر كل شيء. و قال غيره: المحبوك: الشديد الخلق من فرس و غيره. قال امرؤ القيس:
قد غدا يحملني في أنفه
لاحق الأيطل محبوك ممر
الهجوم: النوم. السمن: معروف، و هو امتلاء الجسد بالشحم و اللحم. يقال: سمن سمنا فهو سمين، شذوا في المصدر و اسم الفاعل، و القياس سمن و سمن. و قالوا: سامن، إذا حدث له السمن. الذنوب: الدلو العظيمة، قال الراجز:
إنا إذا نازلنا غريب
له ذنوب و لنا ذنوب
و إن أبيتم فلنا القليب و أنشده الزمخشري:
لنا ذنوب و لكم ذنوب و يطلق، و يراد به الحظ و النصيب، قال علقمة بن عبدة:
و في كل حي قد خبطت بنعمة
فحق لشاس من نداك ذنوب
و نسبه الزمخشري لعمرو بن شاس، و هو وهم في ديوان علقمة. و كان الحارث بن أبي شمر الغساني أسر شاسا أخا علقمة، فدخل إليه علقمة، فمدحه بالقصيدة التي فيها هذا البيت، فلما وصل إلى هذا البيت في الإنشاد قال الحارث: نعم و أذنبه، و قال حسان:
لا يبعدن ربيعة بن مكرم
و سقى الغوادي قبره بذنوب
و قال آخر:
لعمرك و المنايا طارقات
لكل بني أب منها ذنوب