کتابخانه تفاسیر
البحر المحيط فى التفسير، ج10، ص: 27
سام بن نوح؛ و عاد الثانية: من ولد عاد الأولى. و قرأ الجمهور: عاداً الْأُولى ، بتنوين عادا و كسره لالتقائه ساكنا مع سكون لام الأولى و تحقيق الهمزة بعد اللام. و قرأ قوم كذلك، غير أنهم نقلوا حركة الهمزة إلى اللام و حذفوا الهمزة. و قرأ نافع و أبو عمرو: بإدغام التنوين في اللام المنقول إليها حركة الهمزة المحذوفة، و عاد هذه القراءة للمازني و المبرد. و قالت العرب في الابتداء بعد النقل: الحمر و لحمر، فهذه القراءة جاءت على الحمر، فلا عيب فيها، و همز قالون عين الأولى بدل الواو الساكنة. و لما لم يكن بين الضمة و الواو حائل، تخيل أن الضمة على الواو فهمزها، كما قال:
أحب المؤقدين إليّ مؤسى و كما قرأ بعضهم: على سؤقه، و هو توجيه شذوذ، و في حرف أبي عاد غير مصروف جعله اسم قبيلة، فمنعه الصرف للتأنيث و العملية، و الدليل على التأنيث وصفه بالأولى.
و قرأ الجمهور: و ثمودا مصروفا، و قرأه غير مصروف: الحسن و عاصم و عصمة. فَما أَبْقى : الظاهر أن متعلق أبقى يرجع إلى عاد و ثمود معا، أي فما أبقى عليهم، أي أخذهم بذنوبهم. و قيل: فَما أَبْقى : أي فما أبقى منهم عينا تطرف. و قال ذلك الحجاج بن يوسف حين قيل له إن ثقيفا من نسل ثمود، فقال: قال اللّه تعالى: وَ ثَمُودَ فَما أَبْقى ، و هؤلاء يقولون: بقيت منهم بقية، و الظاهر القول الأول، لأن ثمود كان قد آمن منهم جماعة بصالح عليه السلام، فما أهلكهم اللّه مع الذين كفروا به.
وَ قَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ : أي من قبل عاد و ثمود، و كانوا أول أمة كذبت من أهل الأرض، و نوح عليه السلام أول الرسل. و الظاهر أن الضمير في إِنَّهُمْ عائد على قوم نوح، و جعلهم أَظْلَمَ وَ أَطْغى لأنهم كانوا في غاية العتو و الإيذاء لنوح عليه السلام، يضربونه حتى لا يكاد يتحرك، و لا يتأثرون لشيء مما يدعوهم إليه. و
قال قتادة: دعاهم ألف سنة إلا خمسين عاما، كلما هلك قرن نشأ قرن، حتى كان الرجل يأخذ بيد ابنه يتمشى به إليه، يحذره منه و يقول: يا بني إن أبي مشى بي إلى هذا و لنا مثلك يومئذ، فإياك أن تصدقه، فيموت الكبير على الكفر، و ينشأ الصغير على وصية أبيه.
و قيل: الضمير في إنهم عائد على من تقدم عاد و ثمود و قوم نوح، أي كانوا أكفر من قريش و أطغى، ففي ذلك تسلية لرسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم. و هم يجوز أن يكون تأكيدا للضمير المنصوب، و يجوز أن يكون فصلا، لأنه واقع بين معرفة و أفعل التفضيل، و حذف المفضول بعد الواقع خبرا لكان، لأنه جار مجرى خبر المبتدأ، و حذفه فصيح فيه، فكذلك في خبر كان.
البحر المحيط فى التفسير، ج10، ص: 28
وَ الْمُؤْتَفِكَةَ : هي مدائن قوم لوط بإجماع من المفسرين، و سميت بذلك لأنها انقلبت، و منه الإفك، لأنه قلب الحق كذبا، أفكه فأئتفك. قيل: و يحتمل أن يراد بالمؤتفكة: كل ما انقلبت مساكنه و دبرت أماكنه. أَهْوى : أي خسف بهم بعد رفعهم إلى السماء، رفعها جبريل عليه السلام، ثم أهوى بها إلى الأرض. و قال المبرد: جعلها تهوي. و قرأ الحسن: و المؤتفكات جمعا، و الظاهر أن أهوى ناصب للمؤتفكة، و أخر العامل لكونه فاصلة. و يجوز أن يكون وَ الْمُؤْتَفِكَةَ معطوفا على ما قبله، و أَهْوى جملة في موضع الحال يوضح كيفية إهلاكهم، أي و إهلاك المؤتفكة مهويا لها. فَغَشَّاها ما غَشَّى : فيه تهويل للعذاب الذي حل بهم، لما قلبها جبريل عليه السلام اتبعت حجارة غشيتهم. و احتمل أن يكون فعل المشدد بمعنى المجرد، فيتعدى إلى واحد، فيكون الفاعل ما، كقوله تعالى: فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ ما غَشِيَهُمْ «1» .
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكَ تَتَمارى : الباء ظرفية، و الخطاب للسامع، و تتمارى: تتشكك، و هو استفهام في معنى الإنكار، أي آلاؤه، و هي النعم لا يتشكك فيها سامع، و قد سبق ذكر نعم و نقم، و أطلق عليها كلها آلاء لما في النقم من الزجر و الوعظ لمن اعتبر. و قرأ يعقوب و ابن محيصن: ربك تمارى، بتاء واحدة مشددة. و قال أبو مالك الغفاري: إن قوله: أَلَّا تَزِرُ إلى قوله: تَتَمارى هو في صحف إبراهيم و موسى عليهما الصلاة و السلام.
قال قتادة و محمد بن كعب و أبو جعفر: الإشارة إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم، افتتح أول السورة به، و اختتم آخرها به.
و قيل: الإشارة إلى القرآن. و قال أبو مالك: إلى ما سلف من الأخبار عن الأمم، أي هذا إنذار من الإنذارات السابقة، و النذير يكون مصدرا أو اسم فاعل، و كلاهما من أنذر، و لا يتقاسان، بل القياس في المصدر إنذار، و في اسم الفاعل منذر؛ و النذر إما جمع للمصدر، أو جمع لاسم الفاعل. فإن كان اسم فاعل، فوصف النذر بالأولى على معنى الجماعة.
و لما ذكر إهلاك من تقدّم ذكره، و ذكر قوله: هذا نَذِيرٌ ، ذكر أن الذي أنذر به قريب الوقوع فقال: أَزِفَتِ الْآزِفَةُ : أي قربت الموصوفة بالقرب في قوله: اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ «2» ، و هي القيامة. لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللَّهِ كاشِفَةٌ : أي نفس كاشفة تكشف وقتها و تعلمه، قاله الطبري و الزجاج. و قال القاضي منذر بن سعيد: هو من كشف الضر و دفعه، أي ليس لها من يكشف خطبها و هو لها. انتهى. و يجوز أن تكون الهاء في كاشفة للمبالغة.
(1) سورة طه: 20/ 78.
(2) سورة القمر: 54/ 1.
البحر المحيط فى التفسير، ج10، ص: 29
و قال الرماني و جماعة: و يحتمل أن يكون مصدرا، كالعاقبة، و خائِنَةَ الْأَعْيُنِ ، أي ليس لها كشف من دون اللّه. و قيل: يحتمل أن يكون التقدير حال كاشفة. أَ فَمِنْ هذَا الْحَدِيثِ . و هو القرآن، تَعْجَبُونَ فتنكرون، وَ تَضْحَكُونَ مستهزئين، وَ لا تَبْكُونَ جزعا من وعيده. وَ أَنْتُمْ سامِدُونَ ، قال مجاهد: معرضون. و قال عكرمة:
لاهون. و قال قتادة: غافلون. و قال السدّي: مستكبرون. و قال ابن عباس: ساهون. و قال المبرد: جامدون، و كانوا إذا سمعوا القرآن غنوا تشاغلا عنه. و
روي أنه عليه الصلاة و السلام لم ير ضاحكا بعد نزولها.
فاسجدوا: أي صلوا له، وَ اعْبُدُوا : أي أفردوه بالعبادة، و لا تعبدوا اللات و العزى و مناة و الشعرى و غيرها من الأصنام. و
خرّج البغوي بإسناد متصل إلى عبد اللّه، قال: أول سورة نزلت فيها السجدة النجم، فسجد رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم، و سجد من خلفه إلا رجلا رأيته أخذ كفا من تراب فسجد عليه، فرأيته بعد ذلك قتل كافرا، و الرجل أمية بن خلف.
و
روي أن المشركين سجدوا مع رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم.
و في حرف أبي و عبد اللّه: تضحكون بغير واو.
و قرأ الحسن: تعجبون تضحكون، بغير واو و بضم التاء و كسر الجيم و الحاء. و في قوله:
وَ لا تَبْكُونَ ، حض على البكاء عند سماع القرآن. و السجود هنا عند كثير من أهل العلم، منهم عمر بن الخطاب رضي اللّه تعالى عنه، و وردت به أحاديث صحاح، و ليس يراها مالك هنا. و
عن زيد بن ثابت: أنه قرأ بها عند رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم، فلم يسجد
، و اللّه تعالى أعلم.
البحر المحيط فى التفسير، ج10، ص: 30
سورة القمر
[سورة القمر (54): الآيات 1 الى 55]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ (55)
البحر المحيط فى التفسير، ج10، ص: 31
الجدث: القبر، و تبدل ثاؤه فاء فيقال: جدف، كما أبدلوا في ثم فقالوا: فم. انهمر الماء: نزل بقوة غزيرا، قال الشاعر:
راح تمريه الصبا ثم تنحى
فيه شؤبوب جنوب منهمر
الدسر: المسامير التي تشدّ بها السفينة، واحدها دسار، نحو كتاب و كتب. و يقال:
دسرت السفينة، إذا شددتها بالمسامير. و قال الليث و صاحب الصحاح: الدسر: خيوط تشدّ
البحر المحيط فى التفسير، ج10، ص: 32
بها ألواح السفينة. الصرصر: الشديدة الصوت، أو البرد، إما من صرير الباب، و هو تصويته، أو من الصر الذي هو البرد، و هو بناء متأصل على وزن فعلل عند الجمهور.
العجز: مؤخر الشيء. المنقعر: المنقلع: من أصله، قعرت الشجرة قعرا: قلعتها من أصلها فانقعرت، و البئر: نزلت حتى انتهيت إلى قعرها، و الإناء: شربت ما فيه حتى انتهيت إلى قعره، و أقعرته البئر: جعلت لها قعرا. الأشر: البطر. و قرأ: أشر بالكسر يأشر أشرا، فهو أشر و آشر و أشران، و قوم أشارى، مثل: سكران و سكارى. سقر: علم لجهنم مشتق من سقرته النار بالسين، و صقرته بالصاد إذا لوّحته. قال ذو الرمّة:
إذا دابت الشمس اتقى صقراتها
بأفنان مربوع الصريمة معيل
و امتنعت سقر من الصرف للعلمية، و التأنيث تنزلت حركة وسطه تنزل الحرف الرابع في زينب.
هذه السورة مكية في قول الجمهور. و قيل: هي مما نزل يوم بدر. و قال مقاتل: مكية إلا ثلاث آيات، أولها: أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ ، و آخرها: أَدْهى وَ أَمَرُّ .
و سبب نزولها أن مشركي قريش قالوا للرسول صلى اللّه عليه و سلم: إن كنت صادقا فشق لنا القمر فرقتين، و وعدوه بالإيمان إن فعل. و كانت ليلة بدر، فسأل ربه، فانشق القمر نصف على الصفا و نصف على قيقعان.
فقال أهل مكة: آية سماوية لا يعمل فيها السحر. فقال أبو جهل: اصبروا حتى تأتينا أهل البوادي، فإن أخبروا بانشقاقه فهو صحيح، و إلا فقد سحر محمد أعيننا. فجاءوا فأخبروا بانشقاق القمر، فأعرض أبو جهل و قال: سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ .
و
عن ابن عباس: شق القمر باشين، شطرة على السويداء و شطرة على الحديبية. و عنه: انشق القمر بمكة مرتين.
و عنه: انفلق فلقتين، فلقة ذهبت و فلقة بقيت.
البحر المحيط فى التفسير، ج10، ص: 33
و مناسبة أول السورة لآخر ما قبلها ظاهرة، قال: أَزِفَتِ الْآزِفَةُ «1» ، و قال:
اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ . و ممن عاين انشقاق القمر ابن مسعود و جبير بن مطعم، و أخبر به ابن عمر و أنس و حذيفة و ابن عباس.
و حين أرى اللّه الناس انشقاق القمر، قال الرسول صلى اللّه عليه و سلم:
«اشهدوا»، و قال المشركون إذ ذاك: سحرنا محمد. و قال بعضهم: سحر القمر.
و الأمة مجمعة على خلاف من زعم أن قوله: وَ انْشَقَّ الْقَمَرُ معناه: أنه ينشق يوم القيامة، و يرده من الآية قوله: وَ إِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَ يَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ . فلا يناسب هذا الكلام أن يأتي إلا بعد ظهور ما سألوه معينا من انشقاق القمر. و قيل: سألوا آية في الجملة، فأراهم هذه الآية السماوية، و هي من أعظم الآيات، و ذلك التأثير في العالم العلوي. و قرأ حذيفة:
و قد انشق القمر، أي اقتربت، و تقدم من آيات اقترابها انشقاق القمر، كما تقول: أقبل الأمير و قد جاء المبشر بقدومه. و خطب حذيفة بالمدائن، ثم قال: ألا إن الساعة قد اقتربت، و إن القمر قد انشق على عهد نبيكم، و لا التفات إلى قول الحسن أن المعنى: إذ جاءت الساعة انشق القمر بعد النفخة الثانية، و لا إلى قول من قال: إن انشقاقه عبارة عن انشقاق الظلمة عند طلوعه في أثنائها، فالمعنى: ظهر الأمر، فإن العرب تضرب بالقمر مثلا فيما وضح، كما يسمى الصبح فلقا عند انفلاق الظلمة عنه، و قد يعبر عن الانفلاق بالانشقاق. قال النابغة:
فلما أدبروا و لهم دويّ
دعانا عند شق الصبح داعي
و هذه أقوال فاسدة، و لو لا أن المفسرين ذكروها، لأضربت عن ذكرها صفحا. وَ إِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا ، و قرىء: و إن يروا مبنيا للمفعول: أي من شأنهم و حالتهم أنهم متى رأوا ما يدل على صدق الرسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم من الآيات الباهرة أعرضوا عن الإيمان به و بتلك الآية. و جاءت الجملة شرطية ليدل على أنهم في الاستقبال على مثل حالهم في الماضي، و يقولوا: سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ : أي دائم، و منه قول الشاعر:
ألا إنما الدنيا ليال و أعصر
و ليس على شيء قويم بمستمر
لما رأوا الآيات متوالية لا تنقطع، قالوا ذلك. و قال أبو العالية و الضحاك و الأخفش:
مستمر: مشدود موثق من مرائر الحبل، أي سحر قد أحكم، و منه قول الشاعر:
حتى استمرت على سر مريرته
صدق العزيمة لا ريا و لا ضرعا