کتابخانه تفاسیر
البحر المحيط فى التفسير، ج10، ص: 174
توكيدا، لأن الموت و ملاقيكم خبر إن. لما طال الكلام، أكد الحرف مصحوبا بضمير الاسم الذي لإن.
إِذا نُودِيَ : أي إذا أذن، و كان الأذان عند قعود الإمام على المنبر. و كذا كان في زمن الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم، كان إذا صعد على المنبر أذن على باب المسجد، فإذا نزل بعد الخطبة أقيمت الصلاة. و كذا كان في عهد أبي بكر و عمر إلى زمان عثمان، كثر الناس و تباعدت المنازل، فزاد مؤذنا آخر على داره التي تسمى الزوراء، فإذا جلس على المنبر أذن الثاني، فإذا نزل من المنبر أقيمت الصلاة، و لم يعب ذلك أحد على عثمان رضى اللّه عنه. فإن قلت: من في قوله: مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ ما هي؟ قلت: هي بيان لإذا و تفسير له. انتهى.
و قرأ الجمهور: الجمعة بضم الميم؛ و ابن الزبير و أبو حيوة و ابن أبي عبلة، و رواية عن أبي عمرو و زيد بن علي و الأعمش: بسكونها، و هي لغة تميم، و لغة بفتحها لم يقرأ بها، و كان هذا اليوم يسمى عروبة، و يقال: العروبة. قيل: أول من سماه الجمعة كعب بن لؤي، و أول جمعة صليت جمعة سعد بن أبي زرارة، صلى بهم ركعتين و ذكرهم، فسموهم يوم الجمعة لاجتماعهم فيه، فأنزل اللّه آية الجمعة، فهي أول جمعة جمعت في الإسلام.
و أما
أول جمعة جمعها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم، فإنه لما قدم المدينة، نزل بقباء على بني عمرو بن عوف، و أقام بها يوم الاثنين و الثلاثاء و الأربعاء و الخميس، و أسس مسجدهم، ثم خرج يوم الجمعة عامدا المدينة، فأدرك صلاة الجمعة في بني سالم بن عوف، في بطن واد لهم، فخطب و صلى الجمعة.
و الظاهر وجوب السعي لقوله تعالى: فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللَّهِ ، و أنه يكون في المشي خفة و بدار. و قال الحسن و قتادة و مالك و غيرهم: إنما تؤتى الصلاة بالسكينة، و السعي هو بالنية و الإرادة و العمل، و ليس الإسراع في المشي، كالسعي بين الصفا و المروة؛ و إنما هو بمعنى قوله تعالى: وَ أَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى «1» ، فالقيام و الوضوء و لبس الثوب و المشي كله سعي. و الظاهر أن الخطاب بالأمر بالسعي للمؤمنين عموما، و أنهما فرض على الأعيان. و عن بعض الشافعية، أنها فرض كفاية، و عن مالك رواية شاذة: أنها سنة. و
قال القاضي أبو بكر بن العربي: ثبت عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم أنه قال: «الرواح إلى الجمعة واجب على كل مسلم».
و قالوا: المأمور بالسعي المؤمن الصحيح الحر الذكر المقيم. فلو حضر غيره أجزأتهم. انتهى.
و المسافة التي يسعى منها إلى صلاة الجمعة لم تتعرض الآية لها، و اختلف الفقهاء
(1) سورة النجم: 53/ 39.
البحر المحيط فى التفسير، ج10، ص: 175
في ذلك. فقال ابن عمرو و أبو هريرة و أنس و الزهري: ستة أميال. و قيل: خمسة. و قال ربيعة: أربعة أميال. و روي ذلك عن الزهري و ابن المنكدر. و قال مالك و الليث: ثلاثة.
و قال أبو حنيفة و أصحابه: على من في المصر، سمع النداء أو لم يسمع، لا على من هو خارج المصر، و إن سمع النداء. و عن ابن عمر و ابن المسيب و الزهري و أحمد و إسحاق:
على من سمع النداء. و عن ربيعة: على من إذا سمع النداء و خرج من بيته ماشيا أدرك الصلاة. و قرأ كبراء من الصحابة و التابعين: فامضوا بدل فَاسْعَوْا ، و ينبغي أن يحمل على التفسير من حيث أنه لا يراد بالسعي هنا الإسراع في المشي، ففسروه بالمضي، و لا يكون قرآنا لمخالفته سواد ما أجمع عليه المسلمون.
و ذكر اللّه هنا الخطبة، قاله ابن المسيب، و هي شرط في انعقاد الجمعة عند الجمهور. و قال الحسن: هي مستحبة، و الظاهر أنه يجزىء من ذكر اللّه تعالى ما يسمى ذكرا. قال أبو حنيفة: لو قال الحمد للّه أو سبحان اللّه و اقتصر عليه جاز، و قال غيره: لا بد من كلام يسمى خطبة، و هو قول الشافعي و أبي سفيان و محمد بن الحسن، و الظاهر تحريم البيع، و أنه لا يصح. و قال ابن العربي: يفسخ، و هو الصحيح. و قال الشافعي: ينعقد و لا يفسخ، و كلما يشغل من العقود كلها فهو حرام شرعا، مفسوخ ورعا. انتهى. و إنما ذكر البيع من بين سائر المحرمات، لأنه أكثر ما يشتغل به أصحاب الأسواق، إذ يكثر الوافدون الأمصار من القرى و يجتمعون للتجارة إذا تعالى النهار، فأمروا بالبدار إلى تجارة الآخرة، و نهوا عن تجارة الدنيا، و وقت التحريم من الزوال إلى الفراغ من الصلاة، قاله الضحاك و الحسن و عطاء. و قال ناس غيرهم: من وقت أذان الخطبة إلى الفراغ، و الإشارة بذلكم إلى السعي و ترك البيع، و الأمر بالانتشار و الابتغاء أمر إباحة، و فضل اللّه هو ما يلبسه في حالة حسنة، كعيادة المريض، و صلة صديق، و اتباع جنازة، و أخذ في بيع و شراء، و تصرفات دينية و دنيوية؛ فأمر مع ذلك بإكثار ذكر اللّه. و قال مكحول و الحسن و ابن المسيب: الفضل:
المأمور بابتغائه هو العلم. و
قال جعفر الصادق: ينبغي أن يكون فجر صبح يوم السبت، و يعني أن يكون بقية يوم الجمعة في عبادة.
و
روي أنه كان أصاب أهل المدينة جوع و غلاء سعر، فقدم دحية بعير تحمل ميرة.
قال مجاهد: و كان من عرفهم أن يدخل بالطبل و المعازف من درابها، فدخلت بها، فانفضوا إلى رؤية ذلك و سماعه، و تركوه صلّى اللّه عليه و سلّم قائما على المنبر في اثني عشر رجلا.
قال جابر: أنا أحدهم. قال أبو بكر غالب بن عطية: هم العشرة المشهود لهم بالجنة، و الحادي عشر
البحر المحيط فى التفسير، ج10، ص: 176
قيل: عمار. و قيل: ابن مسعود. و قيل: ثمانية، قالوا: فنزلت: وَ إِذا رَأَوْا تِجارَةً . و قرأ الجمهور: إِلَيْها بضمير التجارة؛ و ابن أبي عبلة: إليه بضمير اللهو، و كلاهما جائز، نص عليه الأخفش عن العرب. و قال ابن عطية: و قال إليها و لم يقل إليهما تهمما بالأهم، إذ كانت سبب اللهو، و لم يكن اللهو سببها. و تأمّل أن قدّمت التجارة على اللهو في الرؤية لأنها أهم، و أخرت مع التفضيل لتقع النفس أولا على الأبين. انتهى. و في قوله: قائِماً دلالة على مشروعية القيام في الخطبة. و أول من استراح في الخطبة عثمان، و أول من خطب جالسا معاوية. و قرىء: إليهما بالتثنية للضمير، كقوله تعالى: إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلى بِهِما «1» ، و تخريجه على أن يتجوّز بأو، فتكون بمعنى الواو، و قد تقدّم غير هذا التخريج في قوله: فَاللَّهُ أَوْلى بِهِما في موضعه في سورة النساء. و ناسب ختمها بقوله:
وَ اللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ ، لأنهم كانوا قد مسهم شيء من غلاء الأسعار، كما تقدم في سبب النزول، و قد ملأ المفسرون كثيرا من أوراقهم بأحكام و خلاف في مسائل الجمعة مما لا تعلق لها بلفظ القرآن.
(1) سورة النساء: 4/ 135.
البحر المحيط فى التفسير، ج10، ص: 177
سورة المنافقون
[سورة المنافقون (63): الآيات 1 الى 11]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
البحر المحيط فى التفسير، ج10، ص: 178
الجسم و الخشب معروفان. أسندت ظهري إلى الحائط: أملته و أضفته إليه، و تساند القوم:
اصطفوا و تقابلوا للقتال.
هذه السورة مدنية، نزلت في غزوة بني المصطلق، كانت من عبد اللّه بن أبيّ بن سلول و أتباعه فيها أقوال، فنزلت. و سبب نزولها مذكور في قصة طويلة، من مضمونها: أن اثنين من الصحابة ازدحما على ماء، و ذلك في غزوة بني المصطلق، فشج أحدهما الآخر، فدعا المشجوج: يا للأنصار، و الشاج: يا للمهاجرين، فقال عبد اللّه بن أبيّ بن سلول:
ما حكى اللّه تعالى عنه من قوله: لا تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا ، و قوله: لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَ ، و عنى الأعز نفسه، و كلاما قبيحا.
فسمعه زيد بن أرقم، و نقل ذلك إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم. فلام رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم عبد اللّه، فحلف ما قال شيئا من ذلك، فاتهم زيد، فأنزل اللّه تعالى إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ إلى قوله: لا يَعْلَمُونَ ،
تصديقا لزيد و تكذيبا لعبد اللّه بن أبيّ.
البحر المحيط فى التفسير، ج10، ص: 179
و مناسبة هذه السورة لما قبلها: أنه لما كان سبب الانفضاض عن سماع الخطبة ربما كان حاصلا عن المنافقين، و اتبعهم ناس كثير من المؤمنين في ذلك، و ذلك لسرورهم بالعير التي قدمت بالميرة، إذ كان وقت مجاعة، جاء ذكر المنافقين و ما هم عليه من كراهة أهل الإيمان، و أتبعه بقبائح أفعالهم و قولهم: لا تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا ، إذ كانوا هم أصحاب أموال، و المهاجرون فقراء قد تركوا أموالهم و متاجرهم و هاجروا للّه تعالى. قالُوا نَشْهَدُ : يجري مجرى اليمين، و لذلك تلقى بما يتلقى به القسم، و كذا فعل اليقين. و العلم يجري مجرى القسم بقوله: إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ ، و أصل الشهادة أن يواطىء اللسان القلب هذا بالنطق، و ذلك بالاعتقاد؛ فأكذبهم اللّه و فضحهم بقوله: وَ اللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ : أي لم تواطئ قلوبهم ألسنتهم على تصديقك، و اعتقادهم أنك غير رسول، فهم كاذبون عند اللّه و عند من خبر حالهم، أو كاذبون عند أنفسهم، إذ كانوا يعتقدون أن قولهم: إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ كذب. و جاء بين شهادتهم و تكذيبهم قوله تعالى: وَ اللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ ، إيذانا أن الأمر كما لفظوا به من كونه رسول اللّه حقا. و لم تأت هذه الجملة لتوهم أن قولهم هذا كذب، فوسطت الأمر بينهما ليزول ذلك التوهم. اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ : سمى شهادتهم تلك أيمانا. و قرأ الجمهور: أيمانهم، بفتح الهمزة جمع يمين؛ و الحسن: بكسرها، مصدر آمن. و لما ذكر أنهم كاذبون، أتبعهم بموجب كفرهم، و هو اتخاذ أيمانهم جنة يستترون بها، و يذبون بها عن أنفسهم و أموالهم، كما قال بعض الشعراء:
و ما انتسبوا إلى الإسلام إلا
لصون دمائهم أن لا تسالا
و من أيمانهم أيمان عبد اللّه، و من حلف معه من قومه أنه ما قال ما نقله زيد بن أرقم إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم، جعلوا تلك الأيمان جنة تقي من القتل، و قال أعشى همدان:
إذا أنت لم تجعل لعرضك جنة
من المال سار القوم كل مسير
و قال الضحاك: اتخذوا حلفهم باللّه أنهم لمنكم. و قال قتادة: كلما ظهر شيء منهم يوجب مؤاخذتهم، حلفوا كاذبين عصمة لأموالهم و دمائهم. و قال السدي: جُنَّةً من ترك الصلاة عليهم إذا ماتوا، فَصَدُّوا : أي أعرضوا و صدوا اليهود و المشركين عن الدخول في الإسلام، ذلِكَ أي ذلك الحلف الكاذب و الصد المقتضيان لهم سوء العمل بسبب أيمانهم ثم كفرهم. و قال ابن عطية: ذلك إشارة إلى فعل اللّه بهم في فضيحتهم و توبيخهم، و يحتمل أن تكون الإشارة إلى سوء ما عملوا، فالمعنى: ساء عملهم بأن
البحر المحيط فى التفسير، ج10، ص: 180
كفروا. و قال الزمخشري: ذلك القول الشاهد عليهم بأنهم أسوأ الناس أعمالا بسبب أنهم آمنوا ثم كفروا، أو إلى ما وصف من حالهم في النفاق و الكذب و الاستخفاف بالإيمان، أي ذلك كله بسبب أنهم آمنوا ثم كفروا. و قرأ الجمهور: فَطُبِعَ مبنيا للمفعول؛ و زيد بن علي: مبنيا للفاعل: أي فطبع اللّه؛ و كذا قراءة الأعمش و زيد في رواية مصرحا باللّه.
و يحتمل على قراءة زيد الأولى أن يكون الفاعل ضميرا يعود على المصدر المفهوم من ما قبله، أي فطبع هو، أي بلعبهم بالدين. و معنى آمَنُوا : نطقوا بكلمة الشهادة و فعلوا كما يفعل المسلمون، ثُمَّ كَفَرُوا : أي ظهر كفرهم بما نطقوا به من قولهم: لئن كان محمد ما يقوله حقا فنحن شر من الحمير، و قولهم: أ يطمع هذا الرجل أن تفتح له قصور كسرى و قيصر؟ هيهات، أو نطقوا بالإيمان عند المؤمنين و بالكفر عند شياطينهم، أو ذلك فيمن آمن ثم ارتد.
وَ إِذا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسامُهُمْ : الخطاب للرسول صلّى اللّه عليه و سلّم، أو للسامع: أي لحسنها و نضارتها و جهارة أصواتهم، فكان منظرهم يروق، و منطقهم يحلو. و قرأ الجمهور:
تَسْمَعْ بتاء الخطاب؛ و عكرمة و عطية العوفي: يسمع بالياء مبنيا للمفعول، و لِقَوْلِهِمْ : الجار و المجرور هو المفعول الذي لم يسم فاعله، و ليست اللام زائدة، بل ضمن يسمع معنى يصغ و يمل، تعدى باللام و ليست زائدة، فيكون قولهم هو المسموع.
و شبهوا بالخشب لعزوب أفهامهم و فراغ قلوبهم من الإيمان، و لم يكن حتى جعلها مسندة إلى الحائط، لا انتفاع بها لأنها إذا كانت في سقف أو مكان ينتفع بها، و أما إذا كانت غير منتفع بها فإنها تكون مهملة مسندة إلى الحيطان أو ملقاة على الأرض قد صففت، أو شبهوا بالخشب التي هي الأصنام و قد أسندت إلى الحيطان، و الجملة التشبيهية مستأنفة، أو على إضمارهم. و قرأ الجمهور: خُشُبٌ بضم الخاء و الشين؛ و البراء بن عازب و النحويان و ابن كثير: بإسكان الشين، تخفيف خشب المضموم. و قيل: جمع خشباء، كحمر جمع حمراء، و هي الخشبة التي نخر جوفها، شبهوا بها في فساد بواطنهم. و قرأ ابن المسيب و ابن جبير: خشب بفتحتين، اسم جنس، الواحد خشبة، و أنث وصفه كقوله: أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ «1» ، أشباح بلا أرواح، و أجسام بلا أحلام. و ذكر ممن كان ذا بهاء و فصاحة عبد اللّه بن أبيّ، و الجد بن قيس، و معتب بن قشير. قال الشاعر في مثل هؤلاء:
لا تخدعنك اللحى و لا الصور
تسعة أعشار من ترى بقر