کتابخانه تفاسیر
البحر المحيط فى التفسير، ج10، ص: 191
أَجَلَها* «1» ، و قوله: وَ ما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ* «2» ، أي بإرادته و علمه و تمكينه. وَ مَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ : أي يصدق بوجوده و يعلم أن كل حادثة بقضائه و قدره، يَهْدِ قَلْبَهُ على طريق الخير و الهداية. و قرأ الجمهور: يهد بالياء، مضارعا لهدى، مجزوما على جواب الشرط. و قرأ ابن جبير و طلحة و ابن هرمز و الأزرق عن حمزة: بالنون؛ و السلمي و الضحاك و أبو جعفر: يهد مبنيا للمفعول، قلبه: رفع؛ و عكرمة و عمرو بن دينار و مالك بن دينار: يهدأ بهمزة ساكنة، قلبه بالرفع: يطمئن قلبه و يسكن بإيمانه و لا يكون فيه اضطراب.
و عمرو بن فايد: يهدا بألف بدلا من الهمزة الساكنة؛ و عكرمة و مالك بن دينار أيضا: يهد بحذف الألف بعد إبدالها من الهمزة الساكنة و إبدال الهمزة ألفا في مثل يهدأ و يقرأ، ليس بقياس خلافا لمن أجاز ذلك قياسا، و بنى عليه جواز حذف تلك الألف للجازم، و خرج عليه قول زهير بن أبي سلمى:
جزى متى يظلم يعاقب بظلمه
سريعا و إن لا يبد بالظلم يظلم
أصله: يبدأ، ثم أبدل من الهمزة ألفا، ثم حذفها للجازم تشبيها بألف يخشى إذا دخل الجازم.
و لما قال تعالى: ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ ، ثم أمر بطاعة اللّه و طاعة رسوله، و حذر مما يلحق الرجل من امرأته و ولده بسبب ما يصدر من بعضهم من العداوة، و لا أعدى على الرجل من زوجته و ولده إذا كانا عدوين، و ذلك في الدنيا و الآخرة. أما في الدنيا فبإذهاب ماله و عرضه، و أما في الآخرة فبما يسعى في اكتسابه من الحرام لهما، و بما يكسبانه منه بسبب جاهه. و كم من امرأة قتلت زوجها و جذمت و أفسدت عقله، و كم من ولد قتل أباه. و في التواريخ و فيما شاهدناه من ذلك كثير.
و
عن عطاء بن أبي رباح: أن عوف بن مالك الأشجعي أراد الغزو مع النبي صلّى اللّه عليه و سلّم، فاجتمع أهله و ولده، فثبطوه و شكوا إليه فراقه، فرق و لم يغز؛ ثم إنه ندم و همّ بمعاقبتهم، فنزلت: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا الآية.
و قيل: آمن قوم باللّه، و ثبطهم أزواجهم و أولادهم عن الهجرة، و لم يهاجروا إلا بعد مدة، فوجدوا غيرهم قد تفقه في الدين، فندموا و أسفوا و هموا بمعاقبة أزواجهم و أولادهم،
(1) سورة الحجر: 15/ 5، و سورة المؤمنون: 23/ 43.
(2) سورة الرعد: 13/ 38، و سورة غافر: 40/ 78.
البحر المحيط فى التفسير، ج10، ص: 192
فنزلت. و قيل: قالوا لهم: أين تذهبون و تدعون بلدكم و عشيرتكم و أموالكم؟ فغضبوا عليهم و قالوا: لئن جمعنا اللّه في دار الهجرة لم نصبكم بخير. فلما هاجروا، منعوهم الخير، فحبوا أن يعفوا عنهم و يردوا إليهم البر و الصلة. و من في مِنْ أَزْواجِكُمْ وَ أَوْلادِكُمْ للتبعيض، و قد توجد زوجة تسر زوجها و تعينه على مقاصده في دينه و دنياه، و كذلك الولد.
و قال الشعب العبسي يمدح ولده رباطا:
إذا كان أولاد الرجال حزازة
فأنت الحلال الحلو و البارد العذب
لنا جانب منه دميث و جانب
إذا رامه الأعداء مركبه صعب
و تأخذه عند المكارم هزة
كما اهتز تحت البارح الغصن الرطب
و قال قرمان بن الأعرف في ابنه منازل، و كان عاقا له، قصيدة فيها بعض طول منها:
و ربيته حتى إذا ما تركته
أخا القوم و استغنى عن المسح شاربه
فلما رآني أحسب الشخص أشخصا
بعيدا و ذا الشخص البعيد أقاربه
تعمد حقي ظالما و لوى يدي
لوى يده اللّه الذي هو غالبه
إِنَّما أَمْوالُكُمْ وَ أَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ : أي بلاء و محنة، لأنهم يوقعون في الإثم و العقوبة، و لا بلاء أعظم منهما. و في باب العداوة جاء بمن التي تقتضي التبعيض، و في الفتنة حكم بها على الأموال و الأولاد على بعضها، و ذلك لغلبة الفتنة بهما، و كفى بالمال فتنة قصة ثعلبة بن حاطب، أحد من نزل فيه، و منهم من عاهد اللّه: لَئِنْ آتانا مِنْ فَضْلِهِ «1» الآيات. و قد شاهدنا من ذكر أنه يشغله الكسب و التجارة في أمواله حتى يصلي كثيرا من الصلوات الخمس فائتة. و قد شاهدنا من كان موصوفا عند الناس بالديانة و الورع، فحين لاح له منصب و تولاه، استناب من يلوذ به من أولاده و أقاربه، و إن كان بعض من استنابه صغير السن قليل العلم سيىء الطريقة، و نعوذ باللّه من الفتن. و قدمت الأموال على الأولاد لأنها أعظم فتنة، كَلَّا إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى، أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى «2» ، شغلتنا أموالنا و أهلونا.
وَ اللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ : تزهيد في الدنيا و ترغيب في الآخرة. و الأجر العظيم: الجنة.
فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ ، قال أبو العالية: جهدكم. و قال مجاهد: هو أن يطاع فلا يعصى، وَ اسْمَعُوا ما توعظون به، وَ أَطِيعُوا فيما أمرتم به و نهيتم عنه، وَ أَنْفِقُوا فيما وجب عليكم. و خَيْراً منصوب بفعل محذوف تقديره: و أتوا خيرا، أو على إضمار
(1) سورة التوبة: 9/ 75.
(2) سورة العلق: 96/ 6- 7.
البحر المحيط فى التفسير، ج10، ص: 193
يكن فيكون خبرا، أو على أنه نعت لمصدر محذوف، أي إنفاقا خيرا، أو على أنه حال، أو على أنه مفعول ب: و أنفقوا خيرا، أي مالا، أقوال، الأول عن سيبويه.
و لما أمر بالإنفاق، أكده بقوله: إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً ، و رتب عليه تضعيف القرض و غفران الذنوب. و في لفظ القرض تلطف في الاستدعاء، و في لفظ المضاعفة تأكيد للبذل لوجه اللّه تعالى. ثم أتبع جوابي الشرط بوصفين: أحدهما عائد إلى المضاعفة، إذ شكره تعالى مقابل للمضاعفة، و حلمه مقابل للغفران. قيل: و هذا الحض هو في الزكاة المفروضة، و قيل، هو في المندوب إليه. و تقدم الخلاف في القراءة في يُوقَ و في شُحَ و في يُضاعِفْهُ .
البحر المحيط فى التفسير، ج10، ص: 194
سورة الطّلاق
[سورة الطلاق (65): الآيات 1 الى 12]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
البحر المحيط فى التفسير، ج10، ص: 195
هذه السورة مدنية.
قيل: و سبب نزولها طلاق رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم حفصة، قاله قتادة عن أنس.
و قال السدي: طلاق عبد اللّه بن عمرو. و قيل: فعل ناس مثل فعله، منهم عبد اللّه بن عمرو بن العاصي، و عمرو بن سعيد بن العاص، و عتبة بن غزوان، فنزلت.
و قال القاضي أبو بكر بن العربي: و هذا و إن لم يصح، فالقول الأول أمثل، و الأصح فيه أنه بيان لشرع مبتدأ.
و مناسبتها لما قبلها: أنه لما ذكر الفتنة بالمال و الولد، أشار إلى الفتنة بالنساء، و إنهن قد يعرضن الرجال للفتنة حتى لا يجد مخلصا منها إلا بالطلاق، فذكر أنه ينفصل منهن بالوجه الجميل، بأن لا يكون بينهن اتصال، لا بطلب ولد و لا حمل.
البحر المحيط فى التفسير، ج10، ص: 196
يا أَيُّهَا النَّبِيُ : نداء للنبي صلّى اللّه عليه و سلّم، و خطاب على سبيل التكريم و التنبيه، إِذا طَلَّقْتُمُ : خطاب له عليه الصلاة و السلام مخاطبة الجمع على سبيل التعظيم، أو لأمته على سبيل تلوين الخطاب، أقبل عليه السلام أولا، ثم رجع إليهم بالخطاب، أو على إضمار القول، أي قل لأمتك إذا طلقتم، أو له و لأمته، و كأنه ثم محذوف تقديره: يا أيها النبي و أمة النبي إذا طلقتم، فالخطاب له و لهم، أي أنت و أمتك، أقوال. و قال الزمخشري: خص النبي صلّى اللّه عليه و سلّم، و عمّ بالخطاب، لأن النبي إمام أمته و قدوتهم. كما يقال لرئيس القوم و كبيرهم:
يا فلان افعلوا كيت و كيت، إظهارا لتقدمه و اعتبارا لترؤسه، و أنه مدره قومه و لسانهم، و الذي يصدرون عن رأيه و لا يستبدون بأمر دونه، فكان هو وحده في حكم كلهم، و سادا مسد جميعهم. انتهى، و هو كلام حسن.
و معنى إِذا طَلَّقْتُمُ : أي إذا أردتم تطليقهن، و النساء يعني: المدخول بهن، و طلقوهن: أي أوقعوا الطلاق، لِعِدَّتِهِنَ : هو على حذف مضاف، أي لاستقبال عدّتهن، و اللام للتوقيت، نحو: كتبته لليلة بقيت من شهر كذا، و تقدير الزمخشري هنا حالا محذوفة يدل عليها المعنى يتعلق بها المجرور، أي مستقبلات لعدتهن، ليس بجيد، لأنه قدر عاملا خاصا، و لا يحذف العامل في الظرف و الجار و المجرور إذا كان خاصا، بل إذا كان كونا مطلقا. لو قلت: زيد عندك أو في الدار، تريد: ضاحكا عندك أو ضاحكا في الدار، لم يجز. فتعليق اللام بقوله: فَطَلِّقُوهُنَ ، و يجعل على حذف مضاف هو الصحيح.
و ما روي عن جماعة من الصحابة و التابعين، رضي اللّه تعالى عنهم، من أنهم قرأوا:
فطلقوهن في قبل عدتهن؛ و عن بعضهم: في قبل عدّتهن؛ و عن عبد اللّه: لقبل طهرهن، هو على سبيل التفسير، لا على أنه قرآن، لخلافه سواد المصحف الذي أجمع عليه المسلمون شرقا و غربا، و هل تعتبر العدة بالنسبة إلى الأطهار أو الحيض؟ تقدم ذلك في البقرة في قوله: ثَلاثَةَ قُرُوءٍ «1» . و المراد: أن يطلقهن في طهر لم يجامعهن فيه، ثم يخلين حتى تنقضي عدتهن، فإن شاء ردها، و إن شاء أعرض عنها لتكون مهيأة للزوج؛ و هذا الطلاق أدخل في السنة. و قال مالك: لا أعرف طلاق السنة إلا واحدة، و كره الثلاث مجموعة أو مفرقة. و أبو حنيفة كره ما زاد على الواحدة في طهر واحد، فأما مفرقا في
(1) سورة البقرة: 2/ 228.
البحر المحيط فى التفسير، ج10، ص: 197
الأطهار فلا. و قال الشافعي: لا بأس بإرسال الطلاق الثلاث، و لا أعرف في عدد الطلاق سنة و لا بدعة و هو مباح، راعى في السنة الوقت فقط، و أبو حنيفة التفريق و الوقت.
و قوله: فَطَلِّقُوهُنَ مطلق، لا تعرض فيه لعدد و لا لوصف من تفريق أو جمع؛ و الجمهور: على أنه لو طلق لغير السنة وقع. و عن ابن المسيب و جماعة من التابعين: أنه لو طلق في حيض أو ثلاث، لم يقع. و الظاهر أن الخطاب في وَ أَحْصُوا الْعِدَّةَ للأزواج:
أي اضبطوا بالحفظ، و في الإحصاء فوائد مراعاة الرجعة و زمان النفقة و السكنى و توزيع الطلاق على الأقراء. و إذا أراد أن يطلق ثلاثا، و العلم بأنها قد بانت، فيتزوج بأختها و بأربع سواها.
و نهى تعالى عن إخراجهنّ من مساكنهنّ حتى تنقضي العدّة، و نهاهنّ أيضا عن خروجهنّ، و أضاف البيوت إليهنّ لما كان سكناهنّ فيها، و نهيهنّ عن الخروج لا يبيحه إذن الأزواج، إذ لا أثر لإذنهم. و الإسكان على الزوج، فإن كان ملكه أو بكراء فذاك، أو ملكها فلها عليه أجرته، و سواء في ذلك الرجعية و المبتوبة، و سنة ذلك أن لا تبيت عن بيتها و لا تخرج عنه نهارا إلا لضرورة، و ذلك لحفظ النسب و الاحتفاظ بالنساء. إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ : و هي الزنا، عند قتادة و مجاهد و الحسن و الشعبي و زيد بن أسلم و الضحاك و عكرمة و حماد و الليث، و رواه مجاهد عن ابن عباس، فيخرجن للحد. و عن ابن عباس:
البذاء على الاحماء، فتخرج و يسقط حقها في السكنى، و تلزم الإقامة في مسكن تتخذه حفظا للنسب. و عنده أيضا: جميع المعاصي، من سرقة، أو قذف، أو زنا، أو غير ذلك، و اختاره الطبري، فيسقط حقها في السكنى. و عند ابن عمر و السدي و ابن السائب: هي خروجها من بيتها خروج انتقال، فيسقط حقها في السكنى. و عند قتادة أيضا: نشوزها عن الزوج، فتطلق بسبب ذلك، فلا يكون عليه سكنى؛ و إذا سقط حقها من السكنى أتمت العدّة. لا تَدْرِي أيها السامع، لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً ، قال المفسرون:
الأمر هنا الرغبة في ارتجاعها، و الميل إليها بعد انحرافه عنها؛ أو ظهور حمل فيراجعها من أجله. و نصب لا تدري على جملة الترجي، فلا تدري معلقة عن العمل، و قد تقدم لنا الكلام على قوله: وَ إِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ «1» ، و ذكرنا أنه ينبغي أن يزاد في المعلقات لعل، فالجملة المترجاة في موضع نصب بلا تدري.