کتابخانه تفاسیر
البحر المحيط فى التفسير، ج10، ص: 287
لمن صرف ذلك للمناسبة. و قال الزمخشري: و هذه قراءة مشكلة، لأنهما إن كانا عربيين أو أعجميين ففيهما منع الصرف، و لعله قصد الازدواج فصرفهما لمصادفته أخواتهما منصرفات وَدًّا و سُواعاً و نَسْراً ، كما قرىء: وَ ضُحاها «1» بالإمالة لوقوعه مع الممالات للازدواج. انتهى. و كان الزمخشري لم يدر أن ثم لغة لبعض العرب تصرف كل ما لا ينصرف عند عامتهم، فلذلك استشكلها.
وَ قَدْ أَضَلُّوا : أي الرؤساء المتبوعون، كَثِيراً : من أتباعهم و عامتهم، و هذا إخبار من نوح عليه السلام عنهم بما جرى على أيديهم من الضلال. و قال الحسن: وَ قَدْ أَضَلُّوا : أي الأصنام، عاد الضمير عليها كما يعود على العقلاء، كقوله تعالى: رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ «2» و يحسنه عوده على أقرب مذكور، و لكن عوده على الرؤساء أظهر، إذ هم المحدث عنهم و المعنى فيهم أمكن. و لما أخبر أنهم قد ضلوا كثيرا، دعا عليهم بالضلال، فقال: وَ لا تَزِدِ : و هي معطوفة على وَ قَدْ أَضَلُّوا ، إذ تقديره:
و قال و قد أضلوا كثيرا، فهي معمولة لقال المضمرة المحكي بها قوله: وَ قَدْ أَضَلُّوا ، و لا يشترط التناسب في عطف الجمل، بل قد يعطف، جملة الإنشاء على جملة الخبر و العكس، خلافا لمن يدعي التناسب. و قال الزمخشري ما ملخصه: عطف وَ لا تَزِدِ على رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي ، أي قال هذين القولين. إِلَّا ضَلالًا ، قال الزمخشري: فإن قلت: كيف جاز أن يريد لهم الضلال و يدعو اللّه بزيادته؟ قلت: المراد بالضلال أن يخذلوا و يمنعوا الألطاف لتصميمهم على الكفر و وقوع اليأس من إيمانهم، و ذلك حسن جميل يجوز الدعاء به، بل لا يحسن الدعاء بخلافه. انتهى، و ذلك على مذهب الاعتزال. قال:
و يجوز أن يراد بالضلال الضياع و الهلاك، كما قال: وَ لا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَباراً . و قال ابن بحر: إِلَّا ضَلالًا : إلا عذابا، قال كقوله: إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَ سُعُرٍ .
و قيل: إلا خسرانا. و قيل: إلا ضلالا في أمر دنياهم و ترويج مكرهم و حيلهم.
و قرأ الجمهور: مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ جمعا بالألف و التاء مهموزا؛ و أبو رجاء كذلك، إلا أنه أبدل الهمزة ياء و أدغم فيها ياء المد؛ و الجحدري و عبيد، عن أبي عمرو: على الإفراد مهموزا؛ و الحسن و عيسى و الأعرج: بخلاف عنهم؛ و أبو عمرو: خطاياهم جمع تكسير، و هذا إخبار من اللّه تعالى للرسول عليه الصلاة و السلام بأن دعوة نوح عليه السلام
(1) سورة الشمس: 91/ 1.
(2) سورة إبراهيم: 14/ 36.
البحر المحيط فى التفسير، ج10، ص: 288
قد أجيبت. و ما زائدة للتوكيد؛ و من، قال ابن عطية: لابتداء الغاية، و لا يظهر إلا أنها للسبب. و قرأ عبد اللّه: من خطيئاتهم ما أغرقوا، بزيادة ما بين أغرقوا و خطيئاتهم. و قرأ الجمهور: أُغْرِقُوا بالهمزة؛ و زيد بن عليّ: غرقوا بالتشديد و كلاهما للنقل و خطيئاتهم الشرك و ما انجر معه من الكبائر، فَأُدْخِلُوا ناراً : أي جهنم، و عبر عن المستقبل بالماضي لتحققه، و عطف بالفاء على إرادة الحكم، أو عبر بالدخول عن عرضهم على النار غدوّا و عشيا، كما قال: النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها «1» . قال الزمخشري: أو أريد عذاب القبر. انتهى. و قال الضحاك: كانوا يغرقون من جانب و يحرقون بالنار من جانب.
فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصاراً : تعريض بانتفاء قدرة آلهتهم عن نصرهم، و دعاء نوح عليه السلام بعد أن أوحى إليه أنه لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ «2» ، قاله قتادة. و عنه أيضا: ما دعا عليهم إلا بعد أن أخرج اللّه كل مؤمن من الأصلاب، و أعقم أرحام نسائهم، و هذا لا يظهر لأنه قال: إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادَكَ الآية، فقوله:
وَ لا يَلِدُوا إِلَّا فاجِراً كَفَّاراً يدل على أنه لم يعقم أرحام نسائهم، و قاله أيضا محمد بن كعب و الربيع و ابن زيد، و لا يظهر كما قلنا، و قد كان قبل ذلك طامعا في إيمانهم عاطفا عليهم. و
في الحديث: «أنه ربما ضربه ناس منهم أحيانا حتى يغشى عليه، فإذا أفاق قال:
اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون».
و ديارا: من ألفاظ العموم التي تستعمل في النفي و ما أشبهه، و وزنه فيعال، أصله ديوار، اجتمعت الياء و الواو و سبقت إحداهما بالسكون فأدغمت؛ و يقال: منه دوّار و وزنه فعال، و كلاهما من الدوران، كما قالوا: قيام و قوام، و المعنى معنى أحد. و عن السدّي: من سكن دارا. و قال الزمخشري: و هو فيعال من الدور أو من الدار. انتهى. و الدار أيضا من الدور، و ألفها منقلبة عن واو. وَ لا يَلِدُوا إِلَّا فاجِراً كَفَّاراً : وصفهم و هم حالة الولادة بما يصيرون إليه من الفجور و الكفر.
و لما دعا على الكفار، استغفر للمؤمنين، فبدأ بنفسه ثم بمن وجب برّه عليه، ثم للمؤمنين، فكأن هو و والده اندرجوا في المؤمنين و المؤمنات. و قرأ الجمهور:
وَ لِوالِدَيَ ، و الظاهر أنهما أبوه لمك بن متوشلخ و أمه شمخاء بنت أنوش. و قيل: هما آدم و حوّاء. و قرأ ابن جبير و الجحدري: و لوالدي بكسر الدال، فأما أن يكون خص أباه
(1) سورة غافر: 40/ 46.
(2) سورة هود: 11/ 36.
البحر المحيط فى التفسير، ج10، ص: 289
الأقرب، أو أراد جميع من ولدوه إلى آدم عليه السلام. و قال ابن عباس: لم يكن لنوح عليه السلام أب ما بينه و بين آدم عليه السلام. و
قرأ الحسن بن عليّ و يحيى بن يعمر و النخعي و الزهري و زيد بن عليّ: و لولداي تثنية ولد
، يعني ساما و حاما. وَ لِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ ، قال ابن عباس و الجمهور: مسجدي؛ و عن ابن عباس أيضا: شريعتي، استعار لها بيتا، كما قالوا: قبة الإسلام و فسطاطه. و قيل: سفينته. و قيل: داره. وَ لِلْمُؤْمِنِينَ وَ الْمُؤْمِناتِ : دعا لكل مؤمن و مؤمنة في كل أمّة. و التبار: الهلاك.
البحر المحيط فى التفسير، ج10، ص: 290
سورة الجن
[سورة الجن (72): الآيات 1 الى 28]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
البحر المحيط فى التفسير، ج10، ص: 291
الجد: لغة العظمة و الجلال، وجد في عيني: عظم وجل. و قال أبو عبيدة و الأخفش: الملك و السلطان، و الجد: الحظ، و الجد: أبو الأب. الحرس: اسم جمع، الواحد حارس، كغيب واحده غائب، و قد جمع على أحراس. قال الشاعر:
تجاوزت أحراسا و أهوال معشر كشاهد و أشهاد، و الحارس: الحافظ للشيء يرقبه. القدد: السير المختلفة، الواحدة قدة. قال الشاعر:
القابض الباسط الهادي بطاعته
في قنية الناس إذ أهواؤهم قدد
و قال الكميت:
جمعت بالرأي منهم كل رافضة
إذ هم طرائق في أهوائهم قدد
تحرى الشيء: طلبه باجتهاد و توخاه و قصده. الغدق: الكثير. اللبد، جمع لبدة:
و هو تراكم بعضه فوق بعض، و منه لبدة الأسد. و يقال للجراد الكثير المتراكم: لبد، و منه اللبد الذي يفرش، يلبد صوفه: دخل بعضه في بعض.
البحر المحيط فى التفسير، ج10، ص: 292
هذه السورة مكية. و وجه مناسبتها لما قبلها: أنه لما حكي تمادي قوم نوح في الكفر و عكوفهم على عبادة الأصنام، و كان عليه الصلاة و السلام أول رسول إلى الأرض؛ كما أن محمدا صلّى اللّه عليه و سلم آخر رسول إلى الأرض، و العرب الذي هو منهم عليه الصلاة و السلام كانوا عباد أصنام كقوم نوح، حتى أنهم عبدوا أصناما مثل أصنام أولئك في الأسماء، و كان ما جاء به محمد صلّى اللّه عليه و سلم من القرآن هاديا إلى الرشد، و قد سمعته العرب، و توقف عن الإيمان به أكثرهم، أنزل اللّه تعالى سورة الجن إثر سورة نوح، تبكيتا لقريش و العرب في كونهم تباطؤا عن الإيمان، إذ كانت الجن خيرا لهم و أقبل للإيمان، هذا و هم من غير جنس الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم؛ و مع ذلك فبنفس ما سمعوا القرآن استعظموه و آمنوا به للوقت، و عرفوا أنه ليس من نمط كلام الناس، بخلاف العرب فإنه نزل بلسانهم و عرفوا كونه معجزا، و هم مع ذلك مكذبون له و لمن جاء به حسدا و بغيا أن ينزل اللّه من فضله على من يشاء من عباده.
و قرأ الجمهور: قُلْ أُوحِيَ رباعيا؛ و ابن أبي عبلة و العتكي، عن أبي عمرو، و أبو أناس جوية بن عائذ الأسدي: وحي ثلاثيا، يقال: وحي و أوحى بمعنى واحد. قال العجاج: وحي إليها القرار فاستقرت. و قرأ زيد بن عليّ و جوية، فيما روي عن الكسائي و ابن أبي عبلة أيضا: أحى بإبدال الواو همزة، كما قالوا في وعد أعد. و قال الزمخشري:
و هو من القلب المطلق جوازه في كل واو مضمومة. انتهى. و ليس كما ذكر، بل في ذلك تفصيل، و ذلك أن الواو المضمومة قد تكون أولا وحشوا و آخرا، و لكل منها أحكام، و في بعضها خلاف و تفصيل مذكور في النحو. قال الزمخشري: و قد أطلقه المازني في المكسور أيضا، كإشاح و إسادة و إعاء أخيه. انتهى، و هذا تكثير و تبجح. و كان يذكر هذا في وِعاءِ أَخِيهِ* «1» في سورة يوسف. و عن المازني في ذلك قولان: أحدهما: القياس كما قال، و الآخر: قصر ذلك على السماع.
(1) سورة يوسف: 12/ 76.
البحر المحيط فى التفسير، ج10، ص: 293
و أَنَّهُ اسْتَمَعَ في موضع المفعول الذي لم يسم فاعله؛ أي استماع نَفَرٌ مِنَ الْجِنِ ، و المشهور أن هذا الاستماع هو المذكور في الأحقاف في قوله تعالى: وَ إِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ «1» ، و هي قصة واحدة. و قيل: قصتان، و الجن الذين أتوه بمكة جن نصيبين، و الذين أتوه بنخلة جن نينوى، و السورة التي استمعوها، قال عكرمة: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ «2» . و قيل: سورة الرحمن. و لم تتعرض الآية، لا هنا و لا في سورة الأحقاف، إلى أنه رآهم و كلمهم عليه الصلاة و السلام. و يظهر من
الحديث «أن ذلك كان مرتين: إحداهما: في مبدأ مبعث رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم، و هو في الوقت الذي أخبر فيه عبد اللّه بن مسعود أنه لم يكن معه ليلة الجن، و قد كانوا فقدوه عليه الصلاة و السلام، فالتمسوه في الأودية و الشعاب فلم يجدوه. فلما أصبح، إذا هو جاء من قبل حراء، و فيه أتاني داعي الجن، فذهبت معه و قرأت عليهم القرآن، فانطلق بنا و أرانا آثارهم و آثار نارهم. و المرة الأخرى: كان معه ابن مسعود، و قد استندب صلّى اللّه عليه و سلم من يقوم معه إلى أن يتلو القرآن على الجن، فلم يقم أحد غير عبد اللّه بن مسعود، فذهب معه إلى الحجون عند الشعب، فخط عليه خطا و قال: لا تجاوزه. فانحدر عليه صلّى اللّه عليه و سلم أمثال الحجر يجرون الحجارة بأقدامهم يمشون يقرعون في دفوفهم كما تقرع النسوة في دفوفهن حتى غشوه فلا أراه فقمت فأومأ إليّ بيده أن اجلس فتلا القرآن فلم يزل صوته يرتفع و اختفوا في الأرض حتى ما أراهم».
الحديث. و يدل على أنهما قصتان، اختلافهم في العدد، فقيل: سبعة، و قيل:
تسعة، و عن زر: كانوا ثلاثة من أهل حران، و أربعة من أهل نصيبين، قرية باليمن غير القرية التي بالعراق. و عن عكرمة: كانوا اثني عشر ألفا من جزيرة الموصل، و أين سبعة من اثني عشر ألفا؟
فَقالُوا إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً : أي قالوا لقومهم لما رجعوا إليهم، و وصفوا قرآنا بقولهم عَجَباً وصفا بالمصدر على سبيل المبالغة، أي هو عجب في نفسه لفصاحة كلامه، و حسن مبانيه، و دقة معانيه، و غرابة أسلوبه، و بلاغة مواعظه، و كونه مباينا لسائر الكتب. و العجب ما خرج عن أحد أشكاله و نظائره. يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ : أي يدعو إلى الصواب. و قيل: إلى التوحيد و الإيمان. و قرأ الجمهور: الرُّشْدِ بضم الراء و سكون الشين؛ و عيسى: بضمهما؛ و عنه أيضا: فتحهما. فَآمَنَّا بِهِ : أي بالقرآن. و لما كان
(1) سورة الأحقاف: 46/ 29.