کتابخانه تفاسیر
البحر المحيط فى التفسير، ج10، ص: 319
مفرده تاء التأنيث و أن مفرده سماء، و اسم الجنس يجوز فيه التذكير و التأنيث، فجاء منفطر على التذكير. و قال أبو عمرو بن العلاء، و أبو عبيدة و الكسائي، و تبعهم القاضي منذر بن سعيد: مجازها السقف، فجاء عليه منفطر، و لم يقل منفطرة. و قال أبو علي أيضا: التقدير ذات انفطار كقولهم: امرأة مرضع، أي ذات رضاع، فجرى على طريق التسبب. و قال الزمخشري: أو السماء شيء منفطر، فجعل منفطر صفة لخبر محذوف مقدر بمذكر و هو شيء، و الانفطار: التصدع و الانشقاق؛ و الضمير في به الظاهر أنه يعود على اليوم، و الباء للسبب، أي بسبب شدة ذلك اليوم، أو ظرفية، أي فيه. و قال مجاهد: يعود على اللّه، أي بأمره و سلطانه. و الظاهر أن الضمير في وَعْدُهُ عائد على اليوم، فهو من إضافة المصدر إلى المفعول، أي أنه تعالى وعد عباده هذا اليوم، و هو يوم القيامة، فلا بد من إنجازه.
و يجوز أن يكون عائدا على اللّه تعالى، فيكون من إضافة المصدر إلى الفاعل، و إن لم يجر له ذكر قريب، لأنه معلوم أن الذي هذه مواعيده هو اللّه تعالى.
إِنَّ هذِهِ : أي السورة، أو الأنكال و ما عطف عليه، و الأخذ الوبيل، أو آيات القرآن المتضمنة شدة القيامة، تَذْكِرَةٌ : أي موعظة، فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلًا بالتقرب إليه بالطاعة، و مفعول شاء محذوف يدل عليه الشرط، لأن من شرطية، أي فمن شاء أن يتخذ سبيلا اتخذه إلى ربه، و ليست المشيئة هنا على معنى الإباحة، بل تتضمن معنى الوعد و الوعيد. إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى : تصلي، كقوله: قُمِ اللَّيْلَ . لما كان أكثر أحوال الصلاة القيام عبر به عنها، و هذه الآية نزلت تخفيفا لما كان استمرار استعماله من أمر قيام الليل، إما على الوجوب، و إما على الندب، على الخلاف الذي سبق؛ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ : أي زمانا هو أقل من ثلثي الليل، و استعير الأدنى، و هو الأقرب للأول، لأن المسافة بين الشيئين إذا دنت قل ما بينهما من الأحياز، و إذا بعدت كثر ذلك. و قرأ الجمهور: مِنْ ثُلُثَيِ بضم اللام؛ و الحسن و شيبة و أبو حيوة و ابن السميفع و هشام و ابن مجاهد، عن قنبل فيما ذكر صاحب الكامل: بإسكانها، و جاء ذلك عن نافع و ابن عامر فيما ذكر صاحب اللوامح. و قرأ العربيان و نافع: و نصفه و ثلثه، بجرهما عطفا على ثُلُثَيِ اللَّيْلِ ؛ و باقي السبعة و زيد بن علي: بالنصب عطفا على أَدْنى ، لأنه منصوب على الظرف، أي وقتا أدنى من ثلثي الليل. فقراءة النصب مناسبة للتقسيم الذي في أول السورة، لأنه إذا قام الليل إلا قليلا صدق عليه أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ ، لأن الزمان الذي لم يقم فيه يكون الثلث و شيئا من الثلثين، فيصدق عليه قوله: إِلَّا قَلِيلًا . و أما
البحر المحيط فى التفسير، ج10، ص: 320
قوله: وَ نِصْفَهُ فهو مطابق لقوله أولا: نِصْفَهُ . و أما ثلثه فإن قوله: أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا قد ينتهي النقص في القليل إلى أن يكون الوقت ثلث الليل. و أما قوله: أَوْ زِدْ عَلَيْهِ ، فإنه إذا زاد على النصف قليلا، كان الوقت أقل من الثلثين، فيكون قد طابق قوله:
أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ ، و يكون قوله تعالى: نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا شرحا لمبهم ما دل عليه قوله: قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا ، و على قراءة النصب.
قال الحسن و ابن جبير: معنى تحصوه: تطيقوه، أي قدر تعالى أنهم يقدرون الزمان على ما مر في أول السورة، فلم يطيقوا قيامه لكثرته و شدته، فخفف تعالى عنهم فضلا منه، لا لعلة جهلهم بالتقدير و إحصاء الأوقات. و أما قراءة الجر، فالمعنى أنه قيام مختلف؛ مرة أدنى من الثلثين، و مرة أدنى من النصف، و مرة أدنى من الثلث، و ذلك لتعذر معرفة البشر مقادير الزمان مع عذر النوم. و تقدير الزمان حقيقة إنما هو للّه تعالى، و البشر لا يحصون ذلك، أي لا يطيقون مقادير ذلك، فتاب عليهم، أي رجع بهم من الثقل إلى الخفة و أمرهم بقيام ما تيسر. و على القراءتين يكون علمه تعالى بذلك على حسب الوقوع منهم، لأنهم قاموا تلك المقادير في أوقات مختلفة قاموا أدنى من الثلثين و نصفا و ثلثا، و قاموا أدنى من النصف و أدنى من الثلث، فلا تنافي بين القراءتين. و قرأ الجمهور: وَ ثُلُثَهُ بضم اللام؛ و ابن كثير في رواية شبل: بإسكانها؛ و طائفة: معطوف على الضمير المستكن في تَقُومُ ، و حسنه الفصل بينهما. و قوله: وَ طائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ دليل على أنه لم يكن فرضا على الجميع، إذ لو كان فرضا، لكان التركيب: و الذين معك، إلا إن اعتقد أنهم كان منهم من يقوم في بيته، و منهم من يقوم معه، فيمكن إذ ذاك الفرضية في حق الجميع.
وَ اللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَ النَّهارَ : أي هو وحده تعالى العالم بمقادير الساعات. قال الزمخشري: و تقديم اسمه عز و جل مبتدأ مبنيا عليه يقدر هو الدال على معنى الاختصاص بالتقدير. انتهى. و هذا مذهبه، و إنما استفيد الاختصاص من سياق الكلام لا من تقديم المبتدأ. لو قلت: زيد يحفظ القرآن أو يتفقه في كتاب سيبويه، لم يدل تقديم المبتدأ على الاختصاص. و أن مخففة من الثقيلة، و الضمير في نحصوه، الظاهر أنه عائد على المصدر المفهوم من يقدر، أي أن لن تحصوا تقدير ساعات الليل و النهار، لا تحيطوا بها على الحقيقة. و قيل: الضمير يعود على القيام المفهوم من قوله: فَتابَ عَلَيْكُمْ . قيل:
فيه دليل على أنه كان فيهم من ترك بعض ما أمر به. و قيل: رجع بكم من ثقل إلى خف، و من عسر إلى عسر، و رخص لكم في ترك القيام المقدر. فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ :
البحر المحيط فى التفسير، ج10، ص: 321
عبر بالقراءة عن الصلاة لأنها بعض أركانها، كما عبر عنها بالقيام و الركوع و السجود، أي فصلوا ما تيسر عليكم من صلاة الليل. قيل: و هذا ناسخ للأول، ثم نسخا جميعا بالصلوات الخمس. و هذا الأمر بقوله: فَاقْرَؤُا ، قال الجمهور: أمر إباحة، و قال ابن جبير و جماعة: هو فرض لا بد منه، و لو خمسين آية. و قال الحسن و ابن سيرين: قيام الليل فرض، و لو قدر حلب شاة. و قيل: هو أمر بقراءة القرآن بعينها، لا كناية عن الصلاة. و إذا كان المراد: فاقرؤا في الصلاة ما تيسر، فالظاهر أنه لا يتعين ما يقرأ، بل إذا قرأ ما تيسر له و سهل عليه أجزأه و قدره، و أبو حنيفة بآية، حكاه عنه الماوردي؛ و بثلاث. حكاه ابن العربي؛ و عين مالك و الشافعي ما تيسر، قالا: هو فاتحة الكتاب، لا يعدل عنها و لا يقتصر على بعضها.
عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى : بيان لحكمة النسخ، و هي تعذر القيام على المرضى، و الضاربين في الأرض للتجارة، و المجاهدين في سبيل اللّه، فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ ، كرر ذلك على سبيل التوكيد. ثم أمر بعمودي الإسلام البدني و المالي، ثم قال:
وَ أَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً : العطف يشعر بالتغاير، فقوله: وَ آتُوا الزَّكاةَ أمر بأداء الواجب، وَ أَقْرِضُوا اللَّهَ : أمر بأداء الصدقات التي يتطوع بها. و قرأ الجمهور: هُوَ خَيْراً وَ أَعْظَمَ أَجْراً بنصبهما، و احتمل هو أن يكون فصلا، و أن يكون تأكيدا لضمير النصب في تَجِدُوهُ . و لم يذكر الزمخشري و الحوفي و ابن عطية في إعراب هو إلا الفصل. و قال أبو البقاء: هو فصل، أو بدل، أو تأكيد. فقوله: أو بدل، و هم لو كان بدلا لطابق في النصب فكان يكون إياه. و قرأ أبو السمال و ابن السميفع: هو خير و أعظم، برفعهما على الابتداء أو الخبر. قال أبو زيد: هو لغة بني تميم، يرفعون ما بعد الفاصلة، يقولون: كان زيد هو العاقل بالرفع، و هذا البيت لقيس بن ذريح و هو:
نحن إلى ليلى و أنت تركتها
و كنت عليها بالملا أنت أقدر
قال أبو عمرو الجرمي: أنشد سيبويه هذا البيت شاهدا للرفع و القوافي مرفوعة.
و يروى: أقدر. و قال الزمخشري: و هو فصل و جاز و إن لم يقع بين معرفتين، لأن أفعل من أشبه في امتناعه من حرف التعريف المعرفة. انتهى. و ليس ما ذكر متفقا عليه. و منهم من أجازه، و ليس أفعل من أحكام الفصل و مسائله، و الخلاف الوارد فيها كثير جدا، و قد جمعنا فيه كتابا سميناه بالقول الفصل في أحكام الفصل، و أودعنا معظمه شرح التسهيل من تأليفنا.
البحر المحيط فى التفسير، ج10، ص: 322
سورة المدّثر
[سورة المدثر (74): الآيات 1 الى 56]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ (2) وَ رَبَّكَ فَكَبِّرْ (3) وَ ثِيابَكَ فَطَهِّرْ (4)
البحر المحيط فى التفسير، ج10، ص: 323
تدثر: لبس الدثار، و هو الثوب الذي فوق الشعار، و الشعار: الثوب الذي يلي الجسد، و منه
قوله صلّى اللّه عليه و سلم: «الأنصار شعار و الناس دثار».
النقر: الصوت، قال الشاعر:
أخفضه بالنقر لما علوته
و يرفع طرفا غير خاف غضيض
و قال الراجز:
أنا ابن ماوية إذ جد النقر يريد النقر، فنقل الحركة، فالناقور فاعول منه، كالجاسوس مأخوذ من التجسس.
عبس يعبس عبسا و عبوسا: قطب، و العبس: ما تعلق بأذناب الإبل من أبعارها و أبوالها.
قال أبو النجم:
كأن في أذنابهن الشوّل
من عبس الضيف قرون الإبل
بسر: قبض ما بين عينيه و أربد وجهه، قال:
صحبنا تميما غداة الجفار
بشهبا ملومة باسره
و أهل اليمن يقولون: بسر المركب و أبسر إذا وقف، و قد أبسرنا، و تقول العرب: وجه باسر بين البسور، إذا تغير و اسود، لاحه البسر: غير خلقته، قال:
تقول ما لاحك يا مسافر
يا ابنة عمي لاحنى الهواجر
و قال آخر:
و تعجب هند إن رأتني شاحبا
تقول لشيء لوحته السمائم
و قال الأخفش: اللوح: شدة العطش، لاحه العطش و لوحه غيره.
و قال الشاعر:
سقتني على لوح من الماء شربة
سقاها به اللّه الرهام الغواديا
البحر المحيط فى التفسير، ج10، ص: 324
و يقال: التاح، أي عطش. القسورة: الرماة و الصيادون، قاله ابن كيسان؛ أو الأسد، قاله جماعة من اللغويين، قال:
مضمر تحدره الأبطال
كأنه القسورة الريبال
أو الرجال الشداد، قال لبيد:
إذا ما هتفنا هتفة في ندينا
أتانا الرجال الصائدون القساور
أو ظلمة أول الليل لا ظلمة آخره، قاله ابن الأعرابي و ثعلب.
هذه السورة مكية، قال ابن عطية بإجماع. و في التحرير، قال مقاتل: إلا آية و هي:
وَ ما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً . و مناسبتها لما قبلها أن في ما قبلها ذَرْنِي وَ الْمُكَذِّبِينَ «1» ، و فيه إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ* «2» ، فناسب يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ ، و ناسب ذكر يوم القيامة بعد، و ذكر بعض المكذبين في قوله: ذَرْنِي وَ مَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً .
قال الجمهور: لما فزع من رؤية جبريل على كرسي بين السماء و الأرض و رعب منه، رجع إلى خديجة فقال: زملوني دثروني، نزلت
قال النخعي و قتادة و عائشة: نودي و هو في حال تدثره، فدعى بحال من أحواله. و روي أنه كان تدثر في قطيفة. قيل: و كان يسمع من قريش ما كرهه، فاغتم و تغطى بثوبه مفكرا، فأمر أن لا يدع إنذارهم و إن أسمعوه و آذوه.
و قال عكرمة معناه: يا أيها المدثر للنبوة و أثقالها، كما قال في
(1) سورة المزمل: 73/ 11.
(2) سورة المزمل: 73/ 19.
البحر المحيط فى التفسير، ج10، ص: 325
المزمل. و قرأ الجمهور: الْمُدَّثِّرُ بشد الدال. و أصله المتدثر فأدغم، و كذا هو في حرف أبيّ على الأصل. و قرأ عكرمة: بتخفيف الدال، كما قرىء بتخفيف الزاي في المزمل، أي دثر نفسه. و عن عكرمة أيضا: فتح التاء اسم مفعول، و قال: دثرت هذا الأمر و عصب بك.
قُمْ فَأَنْذِرْ : أي قم من مضجعك، أو قم بمعنى الأخذ في الشيء، كما تقول: قام زيد يضرب عمرا، أي أخذ، و كما قال:
علام قام يشتمني لئيم أي أخذ، و المعنى قم قيام تصميم وجد، فَأَنْذِرْ : أي حذر عذاب اللّه و وقائعه، و الإنذار عام بجميع الناس و بعثه إلى الخلق. وَ رَبَّكَ فَكَبِّرْ : أي فعظم كبرياءه. و قال الزمخشري: و اختص ربك بالتكبير، و هو الوصف بالكبرياء، و أن يقال: اللّه أكبر. انتهى.
و هذا على مذهبه من أن تقديم المفعول على الفعل يدل على الاختصاص، قال: و دخلت الفاء لمعنى الشرط، كأنه قيل: و ما كان فلا تدع تكبيره. انتهى. و هو قريب مما قدره النحاة في قولك: زيدا فاضرب، قالوا تقديره: تنبه فاضرب زيدا، فالفاء هي جواب الأمر، و هذا الأمر إما مضمن معنى الشرط، و إما الشرط بعده محذوف على الخلاف الذي فيه عند النحاة. وَ ثِيابَكَ فَطَهِّرْ : الظاهر أنه أمر بتطهير الثياب من النجاسات، لأن طهارة الثياب شرط في صحة الصلاة، و يقبح أن تكون ثياب المؤمن نجسة، و القول بأنها الثياب حقيقة هو قول ابن سيرين و ابن زيد و الشافعي، و من هذه الآية ذهب الشافعي إلى وجوب غسل النجاسة من ثياب المصلي. و قيل: تطهيرها: تقصيرها، و مخالفة العرب في تطويل الثياب و جرهم الذيول على سبيل الفخر و التكبر، قال الشاعر:
ثم راحوا عبق المسك بهم
يلحفون الأرض هداب الأزر
و لا يؤمن من أصابتها النجاسة و
في الحديث: «أزرة المؤمن إلى أنصاف ساقيه، لا جناح عليه فيما بينه و بين الكعبين، ما كان أسفل من ذلك ففي النار».
و ذهب الجمهور إلى أن الثياب هنا مجاز. فقال ابن عباس و الضحاك: تطهيرها أن لا تكون تتلبس بالقذر.
و قال ابن عباس و ابن جبير أيضا: كنى بالثياب عن القلب، كما قال امرؤ القيس:
فسلي ثيابي من ثيابك تنسلي أي قلبي من قلبك و على الطهارة من القذر، و أنشد قول غيلان بن سلمة الثقفي:
إني بحمد اللّه لا ثوب غادر