کتابخانه تفاسیر
البحر المحيط فى التفسير، ج10، ص: 378
جاء منها أجرام عظام. و قال ابن عباس أيضا: الجمالات: قطع النحاس الكبار، و كان اشتقاق هذه من اسم الجملة. و قرأ الحسن: صفر، بضم الفاء؛ و الجمهور: بإسكانها، شبه الشرر أولا بالقصر، و هو الحصن من جهة العظم و من جهة الطول في الهواء؛ و ثانيا بالجمال لبيان التشبيه. ألا تراهم يشبهون الإبل بالأفدان، و هي القصور؟ قال الشاعر:
فوقفت فيها ناقتي فكأنها
فدن لأقصى حاجة المتلوم
و من قرأ بضم الجيم، فالتشبيه من جهة العظم و الطول. و الصفرة الفاقعة أشبه بلون الشرر، قاله الجمهور: و قيل: صفر سود، و قيل: سود تضرب إلى الصفرة. و قال عمران بن حطان الرقاشي:
دعتهم بأعلى صوتها و رمتهم
بمثل الجمال الصفر نزاعة الشوى
و قرأ الأعمش و الأعرج و زيد بن علي و عيسى و أبو حيوة و عاصم في رواية: هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ ، بفتح الميم؛ و الجمهور: برفعها. قال ابن عطية: لما أضاف إلى غير متمكن بناه فهي فتحة بناء، و هي في موضع رفع. و قال صاحب اللوامح: قال عيسى: هي لغة سفلى مضر، يعني بناءهم يوم مع لا على الفتح، لأنهم جعلوا يوم مع لا كالاسم الواحد، فهو في موضع رفع لأنه خبر المبتدأ. انتهى. و الجملة المصدرة بمضارع مثبت أو منفي لا يجيز البصريون في الظرف المضاف إليها البناء بوجه، و إنما هذا مذهب كوفي. قال صاحب اللوامح: و يجوز أن يكون نصبا صحيحا على الظرف، فيصير هذا إشارة إلى ما تقدمه من الكلام دون إشارة إلى يوم، و يكون العامل في نصب يوم نداء تقدمه من صفة جهنم، و رميها بالشرر في يوم لا ينطقون، فيكون يومئذ كلام معترض لا يمنع من تفريغ العامل للمعمول، كما كانت فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ، ذَواتا أَفْنانٍ «1» . انتهى. و قال ابن عطية: و يحتمل أن يكون ظرفا، و تكون الإشارة بهذا إلى رميها بشرر. و قال الزمخشري:
و نصبه الأعمش، أي هذا الذي قص عليكم واقع يومئذ، و هنا نفي نطقهم. و قد أخبر اللّه تعالى عنهم أنهم نطقوا في مواضع من هذا اليوم، و ذلك باعتبار طول اليوم، فيصح أن ينفي القول فيه في وقت و يثبت في وقت، أو نفي نطقهم بحجة تنفع و جعل نطقهم بما لا ينفع كلا نطق.
(1) سورة الرحمن: 55/ 47- 48.
البحر المحيط فى التفسير، ج10، ص: 379
و قرأ القراء كلهم فيما أعلم: وَ لا يُؤْذَنُ مبنيا للمفعول. و حكى أبو علي الأهوازي أن زيد بن علي قرأ: و لا يأذن، مبنيا للفاعل، أي اللّه تعالى، فَيَعْتَذِرُونَ : عطف على وَ لا يُؤْذَنُ داخل في حيز نفي الإذن، أي فلا إذن فاعتذار، و لم يجعل الاعتذار متسببا عن الإذن فينصب. و قال ابن عطية: و لم ينصب في جواب النفي لتشابه رؤوس الآي، و الوجهان جائزان. انتهى. فجعل امتناع النصب هو تشابه رؤوس الآي و قال: و الوجهان جائزان، فظهر من كلامه استواء الرفع و النصب و أن معناهما واحد، و ليس كذلك لأن الرفع كما ذكرنا لا يكون متسببا بل صريح عطف، و النصب يكون فيه متسببا فافترقا. و ذهب أبو الحجاج الأعلم إلى أن قد يرفع الفعل و يكون معناه المنصوب بعد الفاء و ذلك قليل، و إنما جعل النحويون معنى الرفع غير معنى النصب رعيا للأكثر في كلام العرب، و جعل دليله ذلك، و هذه الآية كظاهر كلام ابن عطية، و قد رد ذلك عليه ابن عصفور و غيره.
هذا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْناكُمْ للكفار، وَ الْأَوَّلِينَ : قوم نوح عليه السلام و غيرهم من الكفار الذين تقدم زمانهم على زمان المخاطبين، أي جمعناكم للفصل بين السعداء و الأشقياء. فَإِنْ كانَ لَكُمْ كَيْدٌ : أي في هذا اليوم، كما كان لكم في الدنيا ما تكيدون به دين اللّه و أولياءه، فَكِيدُونِ اليوم، و هذا تعجيز لهم و توبيخ. و لما كان في سورة الإنسان ذكر نزرا من أحوال الكفار في الآخرة، و أطنب في وصف أحوال المؤمنين فيها، جاء في هذه السورة الإطناب في وصف الكفار و الإيجاز في وصف المؤمنين، فوقع بذلك الاعتدال بين السورتين. و قرأ الجمهور: فِي ظِلالٍ جمع ظل؛ و الأعمش: في ظلل جمع ظلة.
كُلُوا وَ اشْرَبُوا : خطاب لهم في الآخرة على إضمار القول، و يدل عليه بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ . كُلُوا وَ تَمَتَّعُوا : خطاب للكفار في الدنيا، قَلِيلًا : أي زمانا قليلا، إذ قصارى أكلكم و تمتعكم الموت، و هو خطاب تهديد لمن أجرم من قريش و غيرهم.
وَ إِذا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا : من قال إنها مكية، قال هي في قريش؛ و من قال إن هذه الآية مدنية، قال هي في المنافقين. و
قال مقاتل: نزلت في ثقيف، قالوا لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم:
حط عنا الصلاة فإنا لا ننحني إنها مسبة، فأبى و قال: «لا خير في دين لا صلاة فيه».
و معنى اركعوا: اخشعوا للّه و تواضعوا له بقبول وحيه. و قيل: الركوع هنا عبارة عن الصلاة؛ و خص من أفعالها الركوع، لأن العرب كانوا يأنفون من الركوع و السجود. و جاه في هذه السورة بعد كل جملة قوله: وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ، لأن كل جملة منها فيها إخبار اللّه تعالى عن أشياء من أحوال الآخرة و تقريرات من أحوال الدنيا، فناسب أن نذكر الوعيد عقيب كل
البحر المحيط فى التفسير، ج10، ص: 380
جملة منها للمكذب بالويل في يوم الآخرة. و الضمير في بَعْدَهُ عائد على القرآن، و المعنى أنه قد تضمن من الإعجاز و البلاغة و الإخبار المغيبات و غير ذلك مما احتوى عليه ما لم يتضمنه كتاب إلهي، فإذا كانوا مكذبين به، فبأي حديث بعده يصدقون به؟ أي لا يمكن تصديقهم بحديث بعد أن كذبوا بهذا الحديث الذي هو القرآن. و قرأ الجمهور: يُؤْمِنُونَ بياء الغيبة؛ و يعقوب و ابن عامر في رواية: بتاء الخطاب.
البحر المحيط فى التفسير، ج10، ص: 381
سورة النّبإ
[سورة النبإ (78): الآيات 1 الى 40]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
البحر المحيط فى التفسير، ج10، ص: 382
السبات، قال ابن قتيبة: السبات أصله القطع و المدّ، فالنوم قطع الأشغال الشاقة، و من المدّ قول الشاعر:
و إن سبتته مال حبلا كأنه
سدى و أملات من نواسج خثعما
أي: إن مدت شعرها مال و التف كالتفاف السدى بأيدي نساء ناسجات. الوهاج: المتوقد المتلالئ. المعصر، قال الفراء: السحاب الذي يجلب المطر، و لما يجتمع مثل الجارية المعصر، قد كادت تحيض و لما تحض، و قال نحوه ابن قتيبة، و قال أبو النجم العجلي:
تمشي الهوينا مائلا خمارها
قد أعصرت أو قد دنا إعصارها
الثج، قال ثعلب: أصله شدّة الانصباب. و قال الأزهري: مطر ثجاج: شديد الانصباب، ثج الماء و ثججته ثجا و ثجوجا: يكون لازما بمعنى الانصباب و واقعا بمعنى الصب. قال الشاعر في وصف الغيث:
إذا رمقت فيها رحى مرجحنه
تنعج ثجاجا عزير الحوافل
ألفافا جمع لف، ثم جمع لف على ألفاف. الكواعب جمع كاعب: و هي التي برز نهدها، و منه كعب الرجل لبروزه، و منه الكعبة. قال عاصم بن قيس المنقري:
و كم من حصان قد حوينا كريمة
و من كاعب لم تدر ما البؤس معصر
الدهاق: الملأى، مأخوذ من الدهق، و هو ضغط الشيء و شده باليد كأنه لامتلائه انضغط.
و قيل: الدهاق: المتتابعة، قال الشاعر:
أتانا عامر يبغي قرانا
فأترعنا له كأسا دهاقا
و قال آخر:
لأنت إلى الفؤاد أحب قربا
من الصادي إلى كأس دهاق
البحر المحيط فى التفسير، ج10، ص: 383
هذه السورة مكية. و
روي أنه صلّى اللّه عليه و سلم لما بعث، جعل المشركون يتساءلون بينهم فيقولون: ما الذي أتى به؟ و يتجادلون فيما بعث به، فنزلت.
و مناسبتها لما ذكر قبلها ظاهرة. لما ذكر فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ* «1» ، أي بعد الحديث الذي هو القرآن، و كانوا يتجادلون فيه و يسائلون عنه، قال: عَمَّ يَتَساءَلُونَ . و قرأ الجمهور: عَمَ ؛ و عبد اللّه و أبيّ و عكرمة و عيسى: عما بالألف، و هو أصل عم، و الأكثر حذف الألف من ما الاستفهامية إذا دخل عليها حرف الجر و أضيف إليها. و من إثبات الألف قوله:
على ما قام يشتمني لئيم
كخنزير تمرغ في رماد
و قرأ الضحاك و ابن كثير في رواية: عمه بهاء السكت، أجرى الوصل مجرى الوقف، لأن الأكثر في الوقف على ما الاستفهامية هو بإلحاق هاء السكت، إلا إذا أضيفت إليها فلا بد من الهاء في الوقف، نحو: بحي مه. و الاستفهام عن هذا فيه تفخيم و تهويل و تقرير و تعجيب، كما تقول: أي رجل زيد؟ و زيد ما زيد، كأنه لما كان عديم النظير أو قليله خفي عليك جنسه فأخذت تستفهم عنه. ثم جرد العبارة عن تفخيم الشيء، فجاء في القرآن، و الضمير في يَتَساءَلُونَ لأهل مكة. ثم أخبر تعالى أنهم يَتَساءَلُونَ عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ ، و هو أمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم، و ما جاء به من القرآن. و قيل: الضمير لجميع العالم، فيكون الاختلاف تصديق المؤمن و تكذيب الكافر. و قيل: المتساءل فيه البعث، و الاختلاف فيه عم متعلق بيتساءلون. و من قرأ عمه بالهاء في الوصل فقد ذكرنا أنه يكون أجرى الوصل مجرى الوقف، و عن النبأ متعلق بمحذوف، أي يتساءلون عن النبأ. و أجاز الزمخشري أن يكون وقف على عمه، ثم ابتدأ بيتسألون عن النبأ العظيم على أن يضمر لعمه يتساءلون، و حذفت لدلالة ما بعدها عليه، كشيء مبهم ثم يفسر. و قال ابن عطية: قال أكثر النحاة قوله عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ متعلق بيتساءلون، الظاهر كأنه قال: لم يتساءلون عن النبأ العظيم؟ و قال الزجاج: الكلام تام في قوله عَمَّ يَتَساءَلُونَ ، ثم كان مقتضى القول أن يجيب مجيب فيقول: يتساءلون عن النبأ، فاقتضى إيجاز القرآن و بلاغته أن يبادر المحتج بالجواب الذي يقتضيه الحال، و المجاورة اقتضاء بالحجة و إسراعا إلى موضع قطعهم. و قرأ عبد اللّه و ابن جبير: يسألون بغير تاء و شد السين، و أصله يتساءلون بتاء الخطاب، فأدغم التاء الثانية في السين. كَلَّا : ردع للمتسائلين. و قرأ الجمهور: بياء الغيبة فيهما. و عن الضحاك: الأول
(1) سورة المرسلات: 77/ 50.
البحر المحيط فى التفسير، ج10، ص: 384
بالتاء على الخطاب، و الثاني بالياء على الغيبة. و هذا التكرار توكيد في الوعيد و حذف ما يتعلق به العلم على سبيل التهويل، أي سيعلمون ما يحل بهم.
ثم قررهم تعالى على النظر في آياته الباهرة و غرائب مخلوقاته التي ابتدعها من العدم الصرف، و أن النظر في ذلك يفضي إلى الإيمان بما جاءت به الرسل من البعث و الجزاء، فقال: أَ لَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً ، فبدأ بما هم دائما يباشرونه، و المهاد: الفراش الموطأ. و قرأ الجمهور: مِهاداً ؛ و مجاهد و عيسى و بعض الكوفيين: مهدا، بفتح الميم و سكون الهاء، و لم ينسب ابن عطية عيسى في هذه القراءة. و قال ابن خالويه: مهدا على التوحيد، مجاهدا و عيسى الهمداني و هو الحوفي، فاحتمل أن يكون قول ابن عطية و بعض الكوفيين كناية عن عيسى الهمداني. و إذا أطلقوا عيسى، أو قالوا عيسى البصرة، فهو عيسى بن عمر الثقفي. و تقدم الكلام في المهاد في البقرة في أول حزب، وَ اذْكُرُوا اللَّهَ «1» . وَ الْجِبالَ أَوْتاداً : أي ثبتنا الأرض بالجبال، كما ثبت البيت بالأوتاد. قال الأفوه:
و البيت لا ينبني إلا له عمد
و لا عماد إذا لم ترس أوتاد
أَزْواجاً : أي أنواعا من اللون و الصورة و اللسان. و قال الزجاج و غيره: مزدوجين، ذكرا و أنثى. سُباتاً : سكونا و راحة. سبت الرجل: استراح و ترك الشغل، و السبات علة معروفة يفرط على الإنسان السكوت حتى يصير قاتلا، و النوم شبيه به إلا في الضرر. و قال قتادة: النائم مسبوت لا يعقل، كأنه ميت. لِباساً : أي يستترون به عن العيون فيما لا يحبون أن يظهر عليه. وَ جَعَلْنَا النَّهارَ : قابل النوم بالنهار، إذ فيه اليقظة. مَعاشاً :
وقت عيش، و هو الحياة تتصرفون فيه في حوائجكم. سَبْعاً : أي سموات، شِداداً :
محكمة الخلق قوية لا تتأثر بمرور الأعصار إلا إذا أراد اللّه عز و جل. و قال الشاعر:
فلما جئته أعلى محلي
و أجلسني على السبع الشداد
سِراجاً : هو الشمس، وَهَّاجاً : حارا مضطرم الاتقاد. و قال عبد اللّه بن عمرو. الشمس في السماء الرابعة، إلينا ظهرها، و لهيبها يضطرم علوا. مِنَ الْمُعْصِراتِ ، قال أبي و الحسن و ابن جبير و زيد بن أسلم و قتادة و مقاتل: هي السموات.
و قال ابن عباس و أبو العالية و الربيع و الضحاك: السحاب القاطرة، مأخوذ من العصر، لأن