کتابخانه تفاسیر
البحر المحيط فى التفسير، ج10، ص: 409
الكافر. و قتل دعاء عليه، و القتل أعظم شدائد الدنيا. ما أَكْفَرَهُ ، الظاهر أنه تعجب من إفراط كفره، و التعجب بالنسبة للمخلوقين، إذ هو مستحيل في حق اللّه تعالى، أي هو ممن يقال فيه ما أكفره. و قيل: ما استفهام توقيف، أي: أي شيء أكفره؟ أي جعله كافرا، بمعنى لأي شيء يسوغ له أن يكفر.
مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ : استفهام على معنى التقرير على حقارة ما خلق منه. ثم بين ذلك الشيء الذي خلق منه فقال: مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ : أي فهيأه لما يصلح له. و قال ابن عباس: أي في بطن أمه، و عنه قدر أعضاءه، و حسنا و دميما و قصيرا و طويلا و شقيا و سعيدا. و قيل: من حال إلى حال، نطفة ثم علقة، إلى أن تم خلقه. ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ :
أي ثم يسر السبيل، أي سهل. قال ابن عباس و قتادة و أبو صالح و السدي: سبيل النظر القويم المؤدي إلى الإيمان، و تيسيره له هو هبة العقل. و قال مجاهد و الحسن و عطاء و ابن عباس في رواية أبي صالح عنه: السبيل العام اسم الجنس في هدى و ضلال، أي يسر قوما لهذا، كقوله: إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ «1» الآية، و قوله تعالى: وَ هَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ «2» ؛ و عن ابن عباس: يسره للخروج من بطن أمه. ثُمَّ أَماتَهُ فَأَقْبَرَهُ : أي جعل له قبرا صيانة لجسده أن يأكله الطير و السباع. قبره: ذفنه، و أقبره: صيره بحيث يقبر و جعل له قبرا، و القابر:
الدافن بيده. قال الأعشى:
لو أسندت ميتا إلى قبرها
عاش و لم ينقل إلى قابر
ثُمَّ إِذا شاءَ أَنْشَرَهُ : أي إذا أراد إنشاره أنشره، و المعنى: إذا بلغ الوقت الذي قد شاءه اللّه، و هو يوم القيامة. و في كتاب اللوامح شعيب بن الحبحاب: شاء نشره، بغير همز قبل النون، و هما لغتان في الأحياء؛ و في كتاب ابن عطية: و قرأ شعيب بن أبي حمزة: شاء نشره. كَلَّا : ردع للإنسان عن ما هو فيه من الكفر و الطغيان. لَمَّا يَقْضِ : يفي من أول مدة تكليفه إلى حين إقباره، ما أَمَرَهُ به اللّه تعالى، فالضمير في يقض للإنسان.
و قال ابن فورك: للّه تعالى، أي لم يقض اللّه لهذا الكافر ما أمره به من الإيمان، بل أمره بما لم يقض له. و لما عدّد تعالى نعمه في نفس الإنسان، ذكر النعم فيما به قوام حياته، و أمره بالنظر إلى طعامه و كيفيات الأحوال التي اعتورت على طعامه حتى صار بصدد أن يطعم.
و الظاهر أن الطعام هو المطعوم، و كيف ييسره اللّه تعالى بهذه الوسائط المذكورة من صب
(1) سورة الإنسان: 76/ 3.
(2) سورة البلد: 90/ 10.
البحر المحيط فى التفسير، ج10، ص: 410
الماء و شق الأرض و الإنبات، و هذا قول الجمهور. و قال أبيّ و ابن عباس و مجاهد و الحسن و غيرهم: إِلى طَعامِهِ : أي إذا صار رجيعا ليتأمل عاقبة الدنيا على أي شيء يتفانى أهلها. و قرأ الجمهور: إنا بكسر الهمزة؛ و الأعرج و ابن وثاب و الأعمش و الكوفيون و رويس: أَنَّا بفتح الهمزة؛ و
الحسين بن عليّ رضي اللّه تعالى عنهما: أني بفتح الهمزة مما لا
؛ فالكسر على الاستئناف في ذكر تعداد الوصول إلى الطعام، و الفتح قالوا على البدل، ورده قوم، لأن الثاني ليس الأول. قيل: و ليس كما ردوا لأن المعنى: فلينظر الإنسان إلى إنعامنا في طعامه، فترتب البدل و صح. انتهى. كأنهم جعلوه بدل كل من كل، و الذي يظهر أنه بدل الاشتمال. و قراءة أبي ممالا على معنى: فلينظر الإنسان كيف صببنا.
و أسند تعالى الصب و الشق إلى نفسه إسناد الفعل إلى السبب، و صب الماء هو المطر.
و الظاهر أن الشق كناية عن شق الفلاح بما جرت العادة أن يشق به. و قيل: شق الأرض هو بالنبات. حَبًّا : يشمل ما يسمى حبا من حنطة و شعير و ذرة و سلت و عدس و غير ذلك.
وَ قَضْباً ، قال الحسن: العلف، و أهل مكة يسمون القت القضب. و قيل: الفصفصة، و ضعف لأنه داخل في الأب. و قيل: ما يقضب ليأكله ابن آدم غضا من النبات، كالبقول و الهليون. و قال ابن عباس: هو الرطب، لأنه يقضب من النخل، و لأنه ذكر العنب قبله.
غُلْباً ، قال ابن عباس: غلاظا، و عنه: طوالا؛ و عن قتادة و ابن زيد: كراما؛ وَ فاكِهَةً : ما يأكله الناس من ثمر الشجر، كالخوخ و التين؛ وَ أَبًّا : ما تأكله البهائم من العشب. و قال الضحاك: التبن خاصة. و قال الكلبي: كل نبات سوى الفاكهة رطبها، و الأب: يابسها. الصَّاخَّةُ : اسم من أسماء القيامة يصم نبأها الآذان، تقول العرب:
صختهم الصاخة و نابتهم النائبة، أي الداهية. و قال أبو بكر بن العربي: الصاخة هي التي تورث الصمم، و أنها لمسمعة، و هذا من بديع الفصاحة، كقوله:
أصمهم سرّهم أيام فرقتهم
فهل سمعتم بسرّ يورث الصمما
و قول الآخر:
أصم بك الناعي و إن كان أسمعا و لعمر اللّه إن صيحة القيامة مسمعه تصم عن الدنيا و تسمع أمور الآخرة. انتهى.
يَوْمَ يَفِرُّ : بدل من إذا، و جواب إذا محذوف تقديره: اشتغل كل إنسان بنفسه، يدل عليه: لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ ، و فراره من شدّة الهول يوم القيامة، كما جاء
البحر المحيط فى التفسير، ج10، ص: 411
من
قول الرسل: «نفسي نفسي».
و قيل: خوف التبعات، لأن الملابسة تقتضي المطالبة.
يقول الأخ: لم تواسني بمالك، و الأبوان قصرت في برنا، و الصاحبة أطعمتني الحرام و فعلت و صنعت، و البنون لم تعلمنا و ترشدنا. و قرأ الجمهور: يُغْنِيهِ : أي عن النظر في شأن الآخر من الإغناء؛ و الزهري و ابن محيصن و ابن أبي عبلة و حميد و ابن السميفع: يعنيه بفتح الياء و العين المهملة، من قولهم: عناني الأمر: قصدني. مُسْفِرَةٌ : مضيئة، من أسفر الصبح: أضاء، و تَرْهَقُها : تغشاها، قَتَرَةٌ : أي غبار. و الأولى ما يغشاه من العبوس عند الهم، و الثانية من غبار الأرض. و قيل: غَبَرَةٌ : أي من تراب الأرض، و قترة: سواد كالدخان. و قال زيد بن أسلم: الغبرة: ما انحطت إلى الأرض، و القترة: ما ارتفعت إلى السماء. و قرأ الجمهور: قترة، بفتح التاء؛ و ابن أبي عبلة: بإسكانها.
البحر المحيط فى التفسير، ج10، ص: 412
سورة التّكوير
[سورة التكوير (81): الآيات 1 الى 29]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
انكدرت النجوم: انتثرت. و قال أبو عبيدة: انصبت كما تنصب القعاب إذا كسرت.
قال العجاج يصف صقرا:
أبصر حرمات فلاة فانكدر
تقصي البازي إذا البازي كسر
العشار جمع عشراء، و هي الناقة التي مر لحملها عشرة أشهر، ثم هو اسمها إلى أن تضع في تمام السنة. التعطيل: التفريغ و الإهمال. الوحش: حيوان البر الذي ليس في
البحر المحيط فى التفسير، ج10، ص: 413
طبعه التآنس ببني آدم. الموءودة: البنت التي تدفن حية، و أصله من النقل، كأنها تنقل من التراب حتى تموت، و منه اتئد: أي توقر و أثقل و لا تخف. الكشط: التقشير، كشطت جلد الشاة: سلخته عنها. الخنس جمع خانس، و الخنوس: الانقباض و الاستخفاء. تقول خنس بين القوم و انخنس. الكنس جمع كانس و كانسه، يقال: كنس إذا دخل الكناس، و هو المكان الذي تأوي إليه الظباء. و الخنس: تأخر الأنف عن الشفة مع ارتفاع قليل من الأرنبة. عسعس، قال الفراء: عسعس الليل و عسس، إذا لم يبق منه إلا القليل. و قال الخليل: عسعس الليل: أقبل و أدبر. قال المبرد: هو من الأضداد. و قال علقمة بن قرط:
حتى إذا الصبح لها تنفسا
و انجاب عنها ليلها و عسعسا
و قال رؤبة:
يا هند ما أسرع ما تعسعسا
من بعد ما كان فتى ترعرعا
التنفس: خروج النسيم من الجوف، و استعير للصبح و معناه: امتداده حتى يصير نهارا واضحا. الظنين: المتهم، فعيل بمعنى مفعول، ظننت الرجل: اتهمته، و الظنين:
البخيل، قال الشاعر:
أجود بمكنون الحديث و إنني
بسرّك عن ما سألتني لضنين
هذه السورة مكية. و مناسبتها لما قبلها في غاية الظهور. و تكوير الشمس، قال ابن عباس: إدخالها في العرش. و قال مجاهد و قتادة و الحسن: ذهاب ضوئها. و قال الربيع بن خيثم: رمى بها، و منه: كورته فتكوّر. و قال أبو صالح: نكست؛ و عن ابن عباس أيضا:
أظلمت؛ و عن مجاهد: اضمحلت. و قيل: غوّرت؛ و قيل: يلف بعضها ببعض و يرمى بها
البحر المحيط فى التفسير، ج10، ص: 414
في البحر. و قال أبو عبيدة: كورت مثل تكوير العمامة. و قال القرطبي: من كار العمامة على رأسه يكورها، أي لاثها و جمعها، فهي تكور، ثم يمحى ضوءها، ثم يرمى بها. و قال الزمخشري: فإن قلت: ارتفاع الشمس على الابتداء أو الفاعلية؟ قلت: بل على الفاعلية، رافعها فعل مضمر يفسره كُوِّرَتْ ، لأن إذا يطلب الفعل لما فيه من معنى الشرط.
انتهى. و من طريقته أنه يسمي المفعول الذي لم يسم فاعله فاعلا، و لا مشاحة في الاصطلاح. و ليس ما ذكر من الإعراب مجمعا على تحتمه عند النحاة، بل يجوز رفع الشمس على الابتداء عند الأخفش و الكوفيين، لأنهم يجيزون أن تجيء الجملة الاسمية بعد إذا، نحو: إذا زيد يكرمك فأكرمه.
انْكَدَرَتْ ، عن ابن عباس: تساقطت؛ و عنه أيضا: تغيرت فلم يبق لها ضوء لزوالها عن أماكنها، من قولهم: ماء كدر: أي متغير. و تسيير الجبال: أي عن وجه الأرض، أو سيرت في الجو تسيير السحاب، كقوله: وَ هِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ «1» ، و هذا قبل نسفها، و ذلك في أول هول يوم القيامة. و العشار: أنفس ما عند العرب من المال، و تعطيلها: تركها مسيبة مهملة، أو عن الحلب لاشتغالهم بأنفسهم، أو عن أن يحمل عنها الفحول؛ و أطلق عليها عشارا باعتبار ما سبق لها ذلك. قال القرطبي: و هذا على وجه المثل، لأنه في القيامة لا يكون عشراء، فالمعنى: أنه لو كان عشراء لعطلها أهلها و اشتغلوا بأنفسهم. و قيل: إذا قاموا من القبور شاهدوا الوحوش و الدواب محشورة و عشارهم فيها التي كانت كرائم أموالهم، لم يعبأوا بها لشغلهم بأنفسهم. و قيل: العشار: السحاب، و تعطيلها من الماء فلا تمطر. و العرب تسمي السحاب بالحامل. و قيل: العشار: الديار تعطل فلا تسكن. و قيل: العشار: الأرض التي يعشر زرعها، تعطل فلا تزرع.
و قرأ الجمهور: عُطِّلَتْ بتشديد الطاء؛ و مضر عن اليزيدي: بتخفيفها، كذا في كتاب ابن خالويه، و في كتاب اللوامح عن ابن كثير، قال في اللوامح، و قيل: هو وهم إنما هو عطلت بفتحتين بمعنى تعطلت، لأن التشديد فيه التعدي، يقال: منه عطلت الشيء و أعطلته فعطل بنفسه، و عطلت المرأة فهي عاطل إذا لم يكن عليها الحلي، فلعل هذه القراءة عن ابن كثير لغة استوى فيها فعلت و أفعلت، و اللّه أعلم. انتهى. و قال امرؤ القيس:
و جيد كجيد الريم ليس بفاحش
إذا هي نصته و لا بمعطل
(1) سورة النمل: 27/ 88.
البحر المحيط فى التفسير، ج10، ص: 415
حُشِرَتْ : أي جمعت من كل ناحية. فقال ابن عباس: جمعت بالموت، فلا تبعث و لا يحضر في القيامة غير الثقلين. و عنه و عن قتادة و جماعة: يحشر كل شيء حتى الذباب. و عنه: تحشر الوحوش حتى يقتص من بعضها لبعض، ثم يقتص للجماء من القرناء، ثم يقال لها موتي فتموت. و قيل: إذا قضى بينها ردت ترابا فلا يبقى منها إلا ما فيه سرور لبني آدم و إعجاب بصورته، كالطاووس و نحوه. و قال أبيّ: في الدنيا في أول الهول تفر في الأرض و تجتمع إلى بني آدم تآنسا بهم. و قرأ الجمهور: حُشِرَتْ بخف الشين؛ و الحسن و عمرو بن ميمون: بشدها. وَ إِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ : تقدم أقوال العلماء في سجر البحر في الطور، و البحر المسجور، و في كتاب لغات القراءات، سجرت: جمعت، بلغة خثعم. و قال هنا ابن عطية: و يحتمل أن يكون المعنى: ملكت و قيد اضطرابها حتى لا تخرج على الأرض من الهول، فتكون اللفظة مأخوذة من ساجور الكلب. و قرأ ابن كثير و أبو عمرو: بخف الجيم؛ و باقي السبعة: بشدها.
قال ابن عطية: و ذهب قوم إلى أن هذه الأشياء المذكورة استعارات في كل ابن آدم و أحواله عند الموت. فالشمس نفسه، و النجوم عيناه و حواسه، و هذا قول ذاهب إلى إثبات الرموز في كتاب اللّه تعالى. انتهى. و هذا مذهب الباطنية، و مذاهب من ينتمي إلى الإسلام من غلاة الصوفية، و قد أشرنا إليهم في خطبة هذا الكتاب؛ و إنما هؤلاء زنادقة تستروا بالانتماء إلى ملة الإسلام. و كتاب اللّه جاء بلسان عربي مبين، لا رمز فيه و لا لغز و لا باطن، و لا إيماء لشيء مما تنتحله الفلاسفة و لا أهل الطبائع. و لقد ضمن تفسيره أبو عبد اللّه الرازي المعروف بابن خطيب الري أشياء مما قاله الحكماء عنده و أصحاب النجوم و أصحاب الهيئة، و ذلك كله بمعزل عن تفسير كتاب اللّه عز و جل. و كذلك ما ذكره صاحب التحرير و التحبير في آخر ما يفسره من الآيات من كلام من ينتمي إلى الصوف و يسميها الحقائق، و فيها ما لا يحل كتابته، فضلا عن أن يعتقد، نسأل اللّه تعالى السلامة في ديننا و عقائدنا و ما به قوام ديننا و دنيانا.
وَ إِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ : أي المؤمن مع المؤمن و الكافر مع الكافر، كقوله:
وَ كُنْتُمْ أَزْواجاً ثَلاثَةً «1» ، قاله عمرو ابن عباس؛ أو نفوس المؤمنين بأزواجهم من الحور العين و غيرهن، قاله مقاتل بن سليمان؛ أو الأزواج الأجساد، قاله عكرمة و الضحاك