کتابخانه تفاسیر
البحر المحيط فى التفسير، ج10، ص: 543
سورة الفيل
[سورة الفيل (105): الآيات 1 الى 5]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ (5)
الفيل أكبر ما رأيناه من وحوش البر يجلب إلى ملك مصر، و لم تره بالأندلس بلادنا، و يجمع في القلة على أفيال، و في الكثرة على فيول و فيلة. الأبابيل: الجماعات تجيء شيئا بعد شيء. قال الشاعر:
كادت تهد من الأصوات راحلتي
إذ سالت الأرض بالجرد الأبابيل
و قال الأعشى:
طريق و خبار رواء أصوله
عليه أبابيل من الطير تنعب
قال أبو عبيدة و الفراء: لا واحد له من لفظه، فيكون مثل عبابيد و بيادير. و قيل:
واحده أبول مثل عجول، و قيل: إبيل مثل سكين، و قيل: أبال، و ذكر الرقاشي، و كان ثقة، أنه سمع في واحده إبالة؛ و حكى الفراء: أبالة مخففا.
هذه السورة مكية. و لما ذكر فيما قبلها عذاب الكفار في الآخرة، أخبر هنا بعذاب ناس منهم في الدنيا. و الظاهر أن الخطاب للرسول صلّى اللّه عليه و سلم، يذكر نعمته عليه، إذ كان صرف
البحر المحيط فى التفسير، ج10، ص: 544
ذلك العدوّ العظيم عام مولده السعيد عليه السلام، و إرهاصا بنبوّته، إذ مجيء تلك الطيور على الوصف المنقول، من خوارق العادات و المعجزات المتقدمة بين أيدي الأنبياء عليهم الصلاة و السلام. و معنى أَ لَمْ تَرَ : ألم تعلم قدره على وجود علمه بذلك؟ إذ هو أمر منقول نقل التواتر، فكأنه قيل: قد علمت فعل اللّه ربك بهؤلاء الذين قصدوا حرمه، ضلل كيدهم و أهلكهم بأضعف جنوده، و هي الطير التي ليست من عادتها أنها تقتل.
و قصة الفيل ذكرها أهل السير و التفسير مطولة و مختصرة، و تطالع في كتبهم.
و أصحاب الفيل: أبرهة بن الصباح الحبشي و من كان معه من جنوده. و الظاهر أنه فيل واحد، و هو قول الأكثرين. و قال الضحاك: ثمانية فيلة، و قيل: اثنا عشر فيلا، و قيل: ألف فيل، و هذه أقوال متكاذبة. و كان العسكر ستين ألفا، لم يرجع أحد منهم إلا أميرهم في شرذمة قليلة، فلما أخبروا بما رأوا هلكوا. و كان الفيل يوجهونه نحو مكة لما كان قريبا منها فيبرك، و يوجهونه نحو اليمن و الشام فيسرع. و قال الواقدي: أبرهة جد النجاشي الذي كان في زمن الرسول صلّى اللّه عليه و سلم. و قرأ السلمي: ألم تر بسكون، و هو جزم بعد جزم. و نقل عن صاحب اللوامح ترأ بهمزة مفتوحة مع سكون الراء على الأصل، و هي لغة لتيم، وتر معلقة، و الجملة التي فيها الاستفهام في موضع نصب به؛ و كيف معمول لفعل. و في خطابه تعالى لنبيه صلّى اللّه عليه و سلم بقوله: فَعَلَ رَبُّكَ تشريف له صلّى اللّه عليه و سلم و إشادة من ذكره، كأنه قال: ربك معبودك هو الذي فعل ذلك لا أصنام قريش أساف و نائلة و غيرهما.
أَ لَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ و إبطال، يقال: ضلل كيدهم، إذا جعله ضالا ضائعا. و قيل لامرىء القيس الضليل، لأنه ضلل ملك أبيه، أي ضيعه. و تضييع كيدهم هو بأن أحرق اللّه تعالى البيت الذي بنوه قاصدين أن يرجع حج العرب إليه، و بأن أهلكهم لما قصدوا هدم بيت اللّه الكعبة بأن أرسل عليهم طيرا جاءت من جهة البحر، ليست نجدية و لا تهامية و لا حجازية سوداء. و قيل: خضراء على قدر الخطاف. و قرأ الجمهور: تَرْمِيهِمْ بالتاء، و الطير اسم جمع بهذه القراءة، و قوله:
كالطير ينجو من الشؤبوب ذي البرد و تذكر كقراءة أبي حنيفة و ابن يعمر و عيسى و طلحة في رواية عنه: يرميهم. و قيل:
الضمير عائد على رَبُّكَ . بِحِجارَةٍ ؛ كان كل طائر في منقاره حجر، و في رجليه حجران، كل حجر فوق حبة العدس و دون حبة الحمص، مكتوب في كل حجر اسم مرميه، ينزل على رأسه و يخرج من دبره. و مرض أبرهة، فتقطع أنملة أنملة، و ما مات حتى
البحر المحيط فى التفسير، ج10، ص: 545
انصدع صدره عن قلبه، و انفلت أبو مكسوم وزيره، و طائره يتبعه حتى وصل إلى النجاشي و أخبره بما جرى للقوم، فرماه الطائر بحجره فمات بين يدي الملك. و تقدم شرح سجيل في سورة هود، و العصف في سورة الرحمن. شبهوا بالعصف ورق الزرع الذي أكل، أي وقع فيه الأكال، و هو أن يأكله الدود و التبن الذي أكلته الدواب وراثته. و جاء على آداب القرآن نحو قوله: كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ «1» ، أو الذي أكل حبه فبقي فارغا، فنسبه أنه أكل مجاز، إذ المأكول حبه لا هو. و قرأ الجمهور: مَأْكُولٍ : بسكون الهمزة و هو الأصل، لأن صيغة مفعول من فعل. و قرأ أبو الدرداء، فيما نقل ابن خالويه: بفتح الهمزة اتباعا لحركة الميم و هو شاذ، و هذا كما اتبعوه في قولهم: محموم بفتح الحاء لحركة الميم. قال ابن إسحاق:
لما رد اللّه الحبشة عن مكة، عظمت العرب قريشا و قالوا: أهل اللّه قاتل عنهم و كفاهم مؤونة عدوّهم، فكان ذلك نعمة من اللّه تعالى عليهم. و قيل: هو إجابة لدعاء الخليل عليه الصلاة و السلام.
(1) سورة المائدة: 5/ 75.
البحر المحيط فى التفسير، ج10، ص: 546
سورة قريش
[سورة قريش (106): الآيات 1 الى 4]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
قريش: علم اسم قبيلة، و هم بنو النضر بن كنانة، فمن كان من بني النضر فهو من قريش دون بني كنانة. و قيل: هم بنو فهر بن مالك بن النضر، فمن لم يلده فهر فليس بقرشي. قال القرطبي: و القول الأول أصح و أثبت، و سموا بذلك لتجمعهم بعد التفرق، و التقريش: التجمع و الالئتام، و منه قول الشاعر:
إخوة قرشوا الذنوب علينا
في حديث من دهرهم و قديم
كانوا متفرقين في غير الحرم، فجمعهم قصي بن كلاب في الحرم حتى اتخذوه مسكنا، و منه قوله:
أبونا قصي كان يدعى مجمعا
به جمع اللّه القبائل من فهر
و قال الفراء: التقرش: التكسب، و قد قرش يقرش قرشا، إذا كسب و جمع، و منه سميت قريش. و قيل: كانوا يفتشون على ذي الخلة من الحاج ليسدوها، و القرش:
التفتيش، و منه قول الشاعر:
أيها الناطق المقرش عنا
عند عمرو و هل لذاك بقاء
و سأل معاوية ابن عباس: بم سميت قريش قريشا؟ فقال: بدابة في البحر أقوى دوابه يقال لها القرش، تأكل و لا تؤكل، و تعلو و لا تعلى، و منه قول تبع:
البحر المحيط فى التفسير، ج10، ص: 547
و قريش هي التي تسكن البحر بها سميت قريش قريشا تأكل الغث و السمين و لا تترك فيها لذي جناحين ريشا
هكذا في البلاد حيّ قريش
يأكلون البلاد أكلا كميشا
و لهم آخر الزمان نبي
يكثر القتل فيهم و الخموشا
و في الكشاف: دابة تعبث بالسفن و لا تطاق إلا بالنار. فإن كان قريش من مزيد فيه فهو تصغير ترخيم، و إن كان من ثلاثي مجرد فهو تصغير على أصل التصغير. الشتاء و الصيف فصلان معروفان من فصول السنة الأربعة، و همزة الشتاء مبدلة من واو، قالوا: شتا يشتو، و قالوا: شتوة، و الشتاء مفرد و ليس بجمع شتوة.
هذه السورة مكية في قول الجمهور، مدنية في قول الضحاك و ابن السائب.
و مناسبتها لما قبلها ظاهرة، و لا سيما أن جعلت اللام متعلقة بنفس فجعلهم، و هو قول الأخفش، أو بإضمار فعلنا ذلك لإيلاف قريش، و هو مروي عن الأخفش حتى تطمئن في بلدها. فذكر ذلك للامتنان عليهم، إذ لو سلط عليهم أصحاب الفيل لتشتتوا في البلاد و الأقاليم، و لم تجتمع لهم كلمة. قال الزمخشري: و هذا بمنزلة التضمين في الشعر، و هو أن يتعلق معنى البيت بالذي قبله تعلقا لا يصح إلا به، و هما في مصحف أبي سورة واحدة بلا فصل. و عن عمر: أنه قرأهما في الثانية من صلاة المغرب، و قرأ في الأوليين: و التين، و المعنى أنه أهلك أهل الحبشة الذين قصدوهم ليتسامع الناس بذلك، فيتهيبوهم زيادة تهيب، و يحترموهم فضل احترام حتى ينتظم لهم الأمن في رحلتهم، انتهى.
قال الحوفي: ورد هذا القول جماعة، و قالوا: لو كان كذا لكان لإيلاف بعض سورة ألم تر؛ و في إجماع الجميع على الفصل بينهما ما يدل على غير ما قال، يعني الأخفش و الكسائي و الفراء، تتعلق بأعجبوا مضمرة، أي اعجبوا لإيلاف قريش رحلة الشتاء و الصيف، و تركهم عبادة رب هذا البيت، ثم أمرهم بالعبادة بعد و أعلمهم أن اللّه هو الذي أطعمهم و آمنهم لا آسفهم، أي فليعبدوا الذي أطعمهم بدعوة أبيهم حيث قال: وَ ارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ «1» ، و آمنهم بدعوته حيث قال: رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً «2» ، و لا تشتغلوا
(1) سورة إبراهيم: 14/ 37.
(2) سورة إبراهيم: 14/ 35.
البحر المحيط فى التفسير، ج10، ص: 548
بالأسفار التي إنما هي طلب كسب و عرض دنيا. و قال الخليل بن أحمد: تتعلق بقوله:
فَلْيَعْبُدُوا ، و المعنى لأن فعل اللّه بقريش هذا و مكنهم من إلفهم هذه النعمة.
فَلْيَعْبُدُوا : أمرهم أن يعبدوه لأجل إيلافهم الرحلة. قال الزمخشري: فإن قلت: فلم دخلت الفاء؟ قلت: لما في الكلام من معنى الشرط، لأن المعنى: إما لا فليعبدوا لإيلافهم على معنى أن نعم اللّه عليهم لا تحصى، فإن لم يعبدوه لسائر نعمه، فليعبدوه لهذه النعمة الواحدة التي هي نعمة ظاهرة، انتهى. و قرأ الجمهور: لِإِيلافِ قُرَيْشٍ ، مصدر آلف رباعيا؛ و ابن عامر: لالاف على وزن فعال، مصدر ألف ثلاثيا. يقال: ألف الرجل الأمر إلفا و إلافا، و آلفه غيره إياه إيلافا، و قد يأتي ألف متعديا لواحد كإلف، قال الشاعر:
من المؤلفات الرمل أدماء حرة
شعاع الضحى في متنها يتوضح
و لم يختلف القراء السبعة في قراءة إيلافهم مصدرا للرباعي. و روي عن أبي بكر، عن عاصم أنه قرأ بهمزتين، فيهما الثانية ساكنة، و هذا شاذ، و إن كان الأصل أبدلوا الهمزة التي هي فاء الكلمة لثقل اجتماع همزتين، و لم يبدلوا في نحو يؤلف على جهة اللزوم لزوال الاستثقال بحذف الهمزة فيه، و هذا المروي عن عاصم هو من طريق الشمني عن الأعشى عن أبي بكر. و روى محمد بن داود النقار عن عاصم: إإيلافهم بهمزتين مكسورتين بعدهما ياء ساكنة ناشئة عن حركة الهمزة الثانية لما أشبع كسرتها، و الصحيح رجوع عاصم عن الهمزة الثانية، و أنه قرأ كالجماعة. و قرأ أبو جعفر فيما حكى الزمخشري: لإلف قريش؛ و قرأ فيما حكى ابن عطية الفهم. قال الشاعر:
زعمتم أن إخوتكم قريشا
لهم إلف و ليس لكم إلاف
جمع بين مصدري ألف الثلاثي. و عن أبي جعفر و ابن عامر: الافهم على وزن فعال. و عن أبي جعفر و ابن كثير: إلفهم على وزن فعل، و بذلك قرأ عكرمة. و عن أبي جعفر أيضا: ليلاف بياء ساكنة بعد اللام اتبع، لما أبدل الثانية ياء حذف الأولى حذفا على غير قياس. و عن عكرمة: ليألف قريش؛ و عنه أيضا: لتألف قريش على الأمر، و عنه و عن هلال بن فتيان: بفتح لام الأمر، و أجمعوا هنا على صرف قريش، راعوا فيه معنى الحي، و يجوز منع صرفه ملحوظا فيه معنى القبيلة للتأنيث و العلمية. قال الشاعر:
و كفى قريش المعضلات وسادها جعله اسما للقبيلة سيبويه في نحو معد و قريش و ثقيف، و كينونة هذه للإحياء أكثر،
البحر المحيط فى التفسير، ج10، ص: 549
و إن جعلتها اسما للقبائل فجائز حسن. و قرأ الجمهور: رِحْلَةَ بكسر الراء؛ و أبو السمال: بضمها، فبالكسر مصدر، و بالضم الجهة التي يرحل إليها، و الجمهور على أنهما رحلتان. فقيل: إلى الشام في التجارة و نيل الأرباح، و منه قول الشاعر:
سفرين بينهما له و لغيره
سفر الشتاء و رحلة الأصياف
و قال ابن عباس: رحلة إلى اليمن، و رحلة إلى بصرى. و قال: يرحلون في الصيف إلى الطائف حيث الماء و الظل، و يرحلون في الشتاء إلى مكة للتجارة و سائر أغراضهم.
و قال الزمخشري: و أراد رحلتي الشتاء و الصيف، فأفرد لأمن الإلباس، كقوله:
كلوا في بعض بطنكم تعفوا
فإن زمانكم زمن خميص
انتهى، و هذا عند سيبويه لا يجوز إلا في الضرورة، و مثله:
حمامة بطن الواديين ترنمي يريد: بطني الواديين، أنشده أصحابنا على الضرورة. و قال النقاش: كانت لهم أربع رحل. قال ابن عطية: و هذا قول مردود. انتهى، و لا ينبغي أن يرد، فإن أصحاب الإيلاف كانوا أربعة إخوة و هم: بنو عبد مناف هاشم، كان يؤلف ملك الشام، أخذ منه خيلا، فأمن به في تجارته إلى الشام، و عبد شمس يؤلف إلى الحبشة؛ و المطلب إلى اليمن؛ و نوفل إلى فارس. فكان هؤلاء يسمون المجيرين، فتختلف تجر قريش إلى الأمصار بحبل هؤلاء الإخوة، فلا يتعرض لهم. قال الأزهري: الإيلاف شبه الإجارة بالخفارة، فإذا كان كذلك جاز أن يكون لهم رحل أربع، باعتبار هذه الأماكن التي كانت التجار في خفارة هؤلاء الأربعة فيها، و فيهم يقول الشاعر يمدحهم:
يا أيها الرجل المحول رحله
هلا نزلت بآل عبد مناف
الآخذون العهد من آفاقها
و الراحلون لرحلة الإيلاف
و الرائشون و ليس يوجد رائش
و القائلون هلمّ للأضياف
و الخالطون غنيهم لفقيرهم
حتى يصير فقيرهم كالكاف