کتابخانه تفاسیر
البحر المحيط فى التفسير، ج1، ص: 150
و ظاهر الكلام أن هذا كله مما يتعلق بذوي صيب، فصرف ظاهره إلى أنه مما يتعلق بالمنافقين غير ظاهر، و إنما هذا مبالغة في تحير هؤلاء السفر و شدة ما أصابهم من الصيب الذي اشتمل على ظلمات و رعد و برق، بحيث تكاد الصواعق تصمهم و البرق يعميهم. ثم ذكر أنه لو سبقت المشيئة بذهاب سمعهم و أبصارهم لذهبت، و كما اخترنا في قوله ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ إلى آخره أنه مبالغة في حال المستوقد، كذلك اخترنا هنا أن هذا مبالغة في حالة السفر، و شدة المبالغة في حال المشبه بهما يقتضي شدة المبالغة في حال المشبه، فهو و إن لم تكن هذه الجزئيات التي للمشبه به ثابتة للمشبه بنظائرها ثابتة له، و لا سيما إذا كان التمثيل من قبيل التمثيلات المفردة. و أما على ما اخترناه من أنه من التمثيلات المركبة، فتكون المبالغة في التشبيه بما آل إليه حال المشبه به، و قد تقدم الكلام على ذلك قبل، و خص السمع و الأبصار في قوله: لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَ أَبْصارِهِمْ لتقدم ذكرهما في قوله:
فِي آذانِهِمْ ، و في قوله: يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ . و قال بعضهم: تقدم ذكر الرعد و الصواعق، و مدركهما السمع، و الظلمات و البرق، و مدركهما: البصر، ثم قال: لو شاء أذهب ذلك من المنافقين عقوبة لهم على نفاقهم، أعقب تعالى ما علقه على المشيئة بالإخبار عنه تعالى بالمقدرة لأن بهما تمام الأفعال، أعني القدرة و الإرادة و أتى بصيغة المبالغة إذ لا أحق بها منه تعالى. و على كل شيء: متعلق بقوله: قدير، و في لفظ قدير ما يشعر بتخصيص العموم، إذ القدرة لا تتعلق بالمستحيلات.
و قد تقدم لنا بعض كلام على تناسق الآي التي تقدم الكلام عليها، و نحن نلخص ذلك هنا، فنقول: افتتح تعالى هذه السورة بوصف كلامه المبين، ثم بين أنه هدى لمؤمني هذه الأمة و مدحهم، ثم مدح من ساجلهم في الإيمان و تلاهم من مؤمني أهل الكتاب، و ذكر ما هم عليه من الهدى في الحال و من الظفر في المآل، ثم تلاهم بذكر أضدادهم المختوم على قلوبهم و أسماعهم المغطي أبصارهم الميئوس من إيمانهم، و ذكر ما أعد لهم من العذاب العظيم، ثم أتبع هؤلاء بأحوال المنافقين المخادعين المستهزئين و أخر ذكرهم و إن كانوا أسوأ أحوالا من المشركين، لأنهم اتصفوا في الظاهر بصفات المؤمنين و في الباطن بصفات الكافرين، فقدم اللّه ذكر المؤمنين، و ثنّى بذكر أهل الشقاء الكافرين، و ثلّث بذكر المنافقين الملحدين، و أمعن في ذكر مخازيهم فأنزل فيهم ثلاث عشرة آية، كل ذلك تقبيح لأحوالهم و تنبيه على مخازي أعمالهم، ثم لم يكتف بذكر ذلك حتى أبرز أحوالهم في صورة الأنفال، فكان ذلك أدعى للتنفير عما اجترحوه من قبيح الأفعال. فانظر إلى حسن
البحر المحيط فى التفسير، ج1، ص: 151
هذا السياق الذي نوقل في ذروة الإحسان و تمكن في براعة أقسام البديع و بلاغة معاني البيان.
[سورة البقرة (2): الآيات 21 الى 22]
يا: حرف نداء، و زعم بعضهم أنها اسم فعل معناها: أنادي، و على كثرة وقوع النداء في القرآن لم يقع نداء إلا بها، و هي أعم حروف النداء، إذ ينادي بها القريب و البعيد و المستغاث و المندوب. و أمالها بعضهم، و قد تتجرد للتنبيه فيليها المبتدأ و الأمر و التمني و التعليل، و الأصح أن لا ينوي بعدها منادي. أي: استفهام و شرط و صفة و وصلة لنداء ما فيه الألف و اللام، و موصولة، خلافا لأحمد بن يحيى، إذ أنكر مجيئها موصولة، و لا تكون موصوفة خلافا للأخفش. ها: حرف تنبيه، أكثر استعمالها مع ضمير رفع منفصل مبتدأ مخبر عنه باسم إشارة غالبا، أو مع اسم إشارة لا لبعد، و يفصل بها بين أي في النداء و بين المرفوع بعده، و ضمها فيه لغة بني مالك من بني أسد، يقولون: يا أيه الرجل، و يا أيتها المرأة. الخلق: الاختراع بلا مثال، و أصله التقدير، خلقت الأديم قدرته، قال زهير:
و لأنت تفري ما خلقت و بعض القوم يخلق ثم لا يفري قال قطرب: الخلق هو الإيجاد على تقدير و ترتيب، و الخلق و الخليقة تنطلق على المخلوق، و معنى الخلق و الإيجاد، و الإحداث، و الإبداع، و الاختراع، و الإنشاء، متقارب. قبل: ظرف زمان، و لا يعمل فيها عامل فيخرجها عن الظرفية إلا من، و أصلها وصف ناب عن موصوفة لزوما، فإذا قلت: قمت قبل زيد، فالتقدير قمت زمانا قبل زمان قيام زيد، فحذف هذا كله و ناب عنه قبل زيد. لعل: حرف ترجّ في المحبوبات، و توقع في المحدورات، و لا تستعمل إلا في الممكن، لا يقال: لعل الشباب يعود، و لا تكون بمعنى كي، خلافا لقطرب و ابن كيسان، و لا استفهاما خلافا للكوفيين، و فيها لغات لم يأت منها في القرآن إلا الفصحى، و لم يحفظ بعدها نصب الاسمين، و حكى الأخفش أن من العرب من يجر بلعل، و زعم أبو زيد أن ذلك لغة بني عقيل. الفراش: الوطاء الذي يقعد عليه و ينام و يتقلب عليه. البناء: مصدر، و قد براد به المنقول من بيت أو قبة أو خباء أو طراف و أبنية العرب أخبيتهم. الماء: معروف، و قال بعضهم: هو جوهر سيال به قوام الحيوان و وزنه
البحر المحيط فى التفسير، ج1، ص: 152
فعل و ألفه منقلبة من واو و همزته بدل من هاء يدل عليه: مويه، و مياه، و أمواه. الثمرة: ما تخرجه الشجرة من مطعوم أو مشموم. الند: المقاوم المضاهي مثلا كان أو ضدا أو خلافا.
و قال أبو عبيدة و المفضل: الند: الضد، قال ابن عطية، و هذا التخصيص تمثيل لا حصر.
و قال غيره: الند: الضد المبغض المناوي من الندود، و قال المهدوي: الند: الكفؤ و المثل، هذا مذهب أهل اللغة سوى أبي عبيدة. فإنه قال: الضد. قال الزمخشري: الند:
المثل، و لا يقال إلا للمثل المخالف للبارىء، قال جرير:
أتيما تجعلون إلي ندا
و ما تيم لذي حسب نديد
و ناددت الرجل: خالفته و نافرته، من ند ندودا إذا نفر. و معنى قولهم: ليس للّه ند و لا ضد، نفي ما يسد مسد و نفي ما ينافيه.
يا أيها الناس: خطاب لجميع من يعقل، قاله ابن عباس، أو اليهود خاصة، قاله الحسن و مجاهد، أو لهم و للمنافقين، قاله مقاتل، أو لكفار مشركي العرب و غيرهم، قاله السّدي، و الظاهر قول ابن عباس لأن دعوى الخصوص تحتاج إلى دليل. و وجه مناسبة هذه الآية لما قبلها هو أنه تعالى لما ذكر المكلفين من المؤمنين و الكفار و المنافقين و صفاتهم و أحوالهم و ما يؤول إليه حال كل منهم، انتقل من الإخبار عنهم إلى خطاب النداء، و هو التفات شبيه بقوله: إِيَّاكَ نَعْبُدُ ، بعد قوله: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ ، و هو من أنواع البلاغة كما تقدم، إذ فيه هز للسامع و تحريك له، إذ هو خروج من صنف إلى صنف، و ليس هذا انتقالا من الخطاب الخاص إلى الخطاب العام، كما زعم بعض المفسرين، إذ لم يتقدم خطاب خاص إلا إن كان ذلك تجوزا في الخطاب بأن يعني به الكلام، فكأنه قال: انتقل من الكلام الخاص إلى الكلام العام، قال هذا المفسر، و هذا من أساليب الفصاحة، فإنهم يخصون ثم يعمون. و لهذا
لما نزل: وَ أَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ «1» دعاهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم فخص و عم، فقال: «يا عباس عم محمد لا أغني عنك من اللّه شيئا، و يا فاطمة بنت محمد لا أغني عنك من اللّه شيئا، يا بني عبد المطلب لا أغني عنكم من اللّه شيئا».
و قال الشاعر:
يا بني اندبوا و يا أهل بيتي
و قبيلي عليّ عاما فعاما
(1) سورة الشعراء: 26/ 214.
البحر المحيط فى التفسير، ج1، ص: 153
انتهى كلامه.
و روي عن ابن عباس و مجاهد و علقمة أنهم قالوا: كل شيء نزل فيه: يا أَيُّهَا النَّاسُ فهو مكي، و يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا* فهو مدني. أما في يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا* فصحيح، و أما في يا أَيُّهَا النَّاسُ فيحمل على الغالب، لأن هذه السورة مدنية، و قد جاء فيها يا أيها الناس. و أي في أيها منادى مفرد مبني على الضم، و ليست الضمة فيه حركة إعراب خلافا للكسائي و الرياشي، و هي وصلة لنداء ما فيه الألف و اللام ما لم يمكن أن ينادى توصل بنداء أي إلى ندائه، و هي في موضع نصب، و هاء التنبيه كأنها عوض مما منعت من الإضافة و ارتفع الناس على الصفة على اللفظ، لأن بناء أي شبيه بالإعراب، فلذلك جاز مراعاة اللفظ، و لا يجوز نصبه على الموضع، خلافا لأبي عثمان. و زعم أبو الحسن في أحد قوليه أن أيا في النداء موصولة و أن المرفوع بعدها خبر مبتدأ محذوف، فإذا قال: يا أيها الرجل، فتقديره: يا من هو الرجل. و الكلام على هذا القول و قول أبي عثمان مستقصى في النحو.
اعبدوا ربكم: و لما واجه تعالى الناس بالنداء أمرهم بالعبادة، و قد تقدم تفسيرها في قوله تعالى: إِيَّاكَ نَعْبُدُ ، و الأمر بالعبادة شمل المؤمنين و الكافرين. لا يقال: المؤمنون عابدون، فكيف يصح الأمر بما هم ملتبسون به؟ لأنه في حقهم أمر بالازدياد من العبادة، فصح مواجهة الكل بالعبادة، و انظر لحسن مجيء الرب هنا، فإنه السيد و المصلح، و جدير بمن كان مالكا أو مصلحا أحوال العبد أن يخص بالعبادة و لا يشرك مع غيره فيها. و الخطاب، إن كان عاما، كان قوله: الَّذِي خَلَقَكُمْ صفة مدح، و إن كان لمشركي العرب كانت للتوضيح، إذ لفظ الرب بالنسبة إليهم مشترك بين اللّه تعالى و بين آلهتهم، و نبه بوصف الخلق على استحقاقه العبادة دون غيره، أَ فَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ «1» ، أو على امتنانه عليهم بالخلق على الصورة الكاملة، و التمييز عن غيرهم بالعقل، و الإحسان إليهم بالنعم الظاهرة و الباطنة، أو على إقامة الحجة عليهم بهذا الوصف الذي لا يمكن أن يشرك معه فيه غيره، و وصف الربوبية و الخلق موجب للعبادة، إذ هو جامع لمحبة الاصطناع و الاختراع، و المحب يكون على أقصى درجات الطاعة لمن يحب. و قالوا: المحبة ثلاث، فزادوا محبة الطباع كمحبة الوالد لولده، و أدغم أبو عمرو خلقكم، و تقدّم تفسير الخلق في اللغة، و إذا كان بمعنى الاختراع و الإنشاء فلا يتصف به إلا اللّه تعالى.
(1) سورة النمل: 16/ 17.
البحر المحيط فى التفسير، ج1، ص: 154
و قد أجمع المسلمون على أن لا خالق إلا اللّه تعالى، و إذا كان بمعنى التقدير، فمقتضى اللغة أنه قد يوصف به غير اللّه تعالى، كبيت زهير. و قال تعالى: فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ «1» ، وَ إِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ «2» . و قال أبو عبد اللّه البصري، أستاذ القاضي عبد الجبار: إطلاق اسم الخالق على اللّه تعالى محال، لأن التقدير و التسوية عبارة عن الفكر و الظن و الحسبان، و ذلك في حق اللّه تعالى محال. و كأنّ أبا عبد اللّه لم يعلم أن الخلق في اللغة يطلق على الإنشاء، و كلام البصري مصادم لقوله تعالى: هُوَ اللَّهُ الْخالِقُ الْبارِئُ «3» ، إذ زعم أنه لا يطلق اسم الخالق على اللّه، و في اللغة و القرآن و الإجماع ما يرد عليه. و عطف قوله: وَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ على الضمير المنصوب في خلقكم، و المعطوف متقدّم في الزمان على المعطوف عليه و بدأ به، و إن كان متأخرا في الزمان، لأن علم الإنسان بأحوال نفسه أظهر من علمه بأحوال غيره، إذ أقرب الأشياء إليه نفسه، و لأنهم المواجهون بالأمر بالعبادة، فتنبيههم أولا على أحوال أنفسهم آكد و أهم، و بدأ أولا بصفة الخلق، إذ كانت العرب مقرة بأن اللّه خالقها، و هم المخاطبون، و الناس تبع لهم، إذ نزل القرآن بلسانهم. و قرأ ابن السميفع: و خلق من قبلكم، جعله من عطف الجمل. و قرأ زيد بن علي: وَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بفتح ميم من، قال الزمخشري: و هي قراءة مشكلة و وجهها على أشكالها أن يقال: أقحم الموصول الثاني بين الأول وصلته تأكيدا، كما أقحم جرير في قوله:
يا تيم تيم عدي لا أبا لكم تيما الثاني بين الأول و ما أضيف إليه، و كإقحامهم لام الإضافة بين المضاف و المضاف إليه في لا أبا لك، انتهى كلامه. و هذا التخريج الذي خرج الزمخشري قراءة زيد عليه هو مذهب لبعض النحويين زعم أنك إذا أتيت بعد الموصول بموصول آخر في معناه مؤكد له، لم يحتج الموصول الثاني إلى صلة، نحو قوله:
من النفر اللائي الذين أذاهم
يهاب اللئام حلقة الباب قعقعوا
(1) سورة المؤمنون: 23/ 14.
(2) سورة المائدة: 5/ 110.
(3) سورة الحشر: 59/ 24.
البحر المحيط فى التفسير، ج1، ص: 155
فإذا و جوابها صلة اللائي، و لا صلة للذين، لأنه إنما أتى به للتأكيد. قال أصحابنا:
و هذا الذي ذهب إليه باطل، لأن القياس إذا أكد الموصول أن تكرره مع صلته لأنها من كماله، و إذا كانوا أكدوا حرف الجر أعادوه مع ما يدخل عليه لافتقاره إليه، و لا يعيدونه وحده إلا في ضرورة، فالأحرى أن يفعل مثل ذلك بالموصول الذي الصلة بمنزلة جزء منه. و خرج أصحابنا البيت على أن الصلة للموصول الثاني و هو خبر مبتدأ محذوف، ذلك المبتدأ و الموصول في موضع الصلة للأول تقديره من النفر اللائي هم الذين أذاهم، و جاز حذف المبتدأ و إضماره لطول خبره، فعلى هذا يتخرج قراءة زيد أن يكون قبلكم صلة من، و من خبر مبتدأ محذوف، و ذلك المبتدأ و خبره صلة للموصول الأول و هو الذين، التقدير و الذين هم من قبلكم. و على قراءة الجمهور تكون صلة الذين قوله: مِنْ قَبْلِكُمْ ، و في ذلك إشكال، لأن الذين أعيان، و من قبلكم جار و مجرور ناقص ليس في الإخبار به عن الأعيان فائدة، فكذلك الوصل به إلا على تأويل، و تأويله أنه يؤول إلى أن ظرف الزمان إذا وصف صح وقوعه خبرا نحو: نحن في يوم طيب، كذلك يقدر هذا و الذين كانوا من زمان قبل زمانكم. و هذا نظير قوله تعالى: كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ و إنما ذكر وَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ ، و إن كان خلقهم لا يقتضي العبادة علينا لأنهم كالأصول لهم، فخلق أصولهم يجري مجرى الإنعام على فروعهم، فذكرهم عظيم إنعامه تعالى عليهم و على أصولهم بالإيجاد.
و ليست لعل هنا بمعنى كي لأنه قول مرغوب عنه و لكنها للترجي و الأطماع، و هو بالنسبة إلى المخاطبين، لأن الترجي لا يقع من اللّه تعالى إذ هُوَ عالِمُ الْغَيْبِ وَ الشَّهادَةِ «1» ، و هي متعلقة بقوله: اعْبُدُوا رَبَّكُمُ ، فكأنه قال: إذا عبدتم ربكم رجوتم التقوى، و هي التي تحصل بها الوقاية من النار و الفوز بالجنة. قال ابن عطية: و يتجه تعلقها بخلقكم لأن كل مولود يوجد على الفطرة فهو بحيث يرجى أن يكون متقيا. و لم يذكر الزمخشري غير تعلقها بخلقكم، قال: لعل واقعة في الآية موقع المجاز لا الحقيقة، لأن اللّه تعالى خلق عباده ليتعبدهم بالتكليف، و ركب فيهم العقول و الشهوات، و أزاح العلة في أقدارهم و تمكينهم، و هداهم النجدين، و وضع في أيديهم زمام الاختيار، و أراد منهم الخير و التقوى، فهم في صورة المرجو منهم أن يتقوا لترجح أمرهم، و هم مختارون بين الطاعة، و العصيان، كما ترجحت حال المرتجي بين أن يفعل و أن لا يفعل، انتهى كلامه. و هو مبني على مذهبه الاعتزالي من أن العبد مختار، و أنه لا يريد اللّه منه إلا فعل الخير، و هي مسألة
(1) سورة الأنعام: 6/ 73.
البحر المحيط فى التفسير، ج1، ص: 156
يبحث فيها في أصول الدين. و الذي يظهر ترجيحه أن يكون: لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ متعلقا بقوله: اعْبُدُوا رَبَّكُمُ . فالذي نودوا لأجله هو الأمر بالعبادة، فناسب أن يتعلق بها ذلك و أتى بالموصول وصلته على سبيل التوضيح أو المدح للذي تعلقت به العبادة، فلم يجأ بالموصول ليحدث عنه بل جاء في ضمن المقصود بالعبادة. و أما صلته فلم يجأ بها لإسناد مقصود لذاته، إنما جيء بها لتتميم ما قبلها. و إذا كان كذلك فكونها لم يجأ بها لإسناد يقتضي أن لا يهتم بها فيتعلق بها ترج أو غيره، بخلاف قوله: اعبدوا، فإنها الجملة المفتتح بها أولا و المطلوبة من المخاطبين. و إذا تعلق بقوله: اعبدوا، كان ذلك موافقا، إذ قوله:
اعبدوا خطاب، و لعلكم تتقون خطاب.
و لما اختار الزمخشري تعلقه بالخلق قال: فإن قلت كما خلق المخاطبين لعلهم يتقون، فكذلك خلق الذين من قبلهم، لذلك قصره عليهم دون من قبلهم، قلت: لم يقصره عليهم و لكن غلب المخاطبين على الغائبين في اللفظ و المعنى على إرادتهم جميعا، انتهى كلامه. و قد تقدم ترجيح تعلقه بقوله: اعبدوا، فيسقط هذا السؤال. و قال المهدوي:
لعل متصلة باعبدوا لا بخلقكم، لأن من درأه اللّه عز و جل لجهنم لم يخلقه ليتقي. و المعنى عند سيبويه: افعلوا ذلك على الرجاء و الطمع أن تتقوا، انتهى كلامه. و لما جعل الزمخشري لعلكم تتقون متعلقا بالخلق قال: فإن قلت: فهلا قيل: تعبدون لأجل اعبدوا أو اتقوا المكان تتقون ليتجاوب طرفا النظم؟ قلت: ليست التقوى غير العبادة حتى يؤدي ذلك إلى تنافر النظم، و إنما التقوى قصارى أمر العابد و منتهى جهده، فإذا قال: اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ للاستيلاء على أقصى غايات العبادة كان أبعث على العبادة و أشد إلزاما لها و أثبت لها في النفوس، انتهى كلامه. و هو مبني على مذهبه في أن الخلق كان لأجل التقوى، و قد تقدم ذلك. و أما قوله: ليتجاوب طرفا النظم فليس بشيء لأنه لا يمكن هنا تجاوب طرفي النظم لأنه يصير المعنى: اعبدوا ربكم لعلكم تتقون، أو اتقوا ربكم لعلكم تتقون، و هذا بعيد في المعنى، إذ هو مثل: اضرب زيدا لعلك تضربه، و اقصد خالدا لعلك تقصده. و لا يخفى ما في هذا من غثاثة اللفظ و فساد المعنى، و القرآن متنزه عن ذلك.