کتابخانه تفاسیر
البحر المحيط فى التفسير، ج1، ص: 241
قريت، و أخطيت، و توضيت، قال: و ربما حولوه إلى الواو، و هو قليل، نحو: رفوت، و الجيد: رفأت، و لم أسمع: رفيت. انتهى كلام الأخفش. و دل ذلك على أنه ليس من ضرائر الشعر، كما ذكر أبو الفتح، و هو قوله تعالى: أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ . و قوله: فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمائِهِمْ : جملة محذوفة، التقدير: فأنبئهم بها، فلما أنبأهم حذفت لفهم المعنى، و في قوله: أنبئوني، فلما أنبأهم تنبيه على إعلام اللّه أنه قد أعلم اللّه أنه قد أعلم آدم من أحوالهم ما لم يعلمهم من حاله، لأنهم رأوه قبل النفخ مصورا، فلم يعلموا ما هو، و على أنه رفع درجة آدم عندهم، لكونه قد علم لآدم ما لم يعلمهم، و على إقامته مقام المفيد المعلم، و إقامتهم مقام المستفيدين منه، لأنه أمره أن يعلمهم أسماء الذين عرضهم عليهم و على أدبهم على ترك الأدب من حيث قالوا: أَ تَجْعَلُ فِيها ، فإن الطواعية المحضة أن يكونوا مع عدم العلم بالحكمة فيما أمروا به، و عدم الاطلاع على ذلك الأمر و مصلحته و مفسدته كهم مع العلم و الاطلاع. و كان الامتثال و التسليم، بغير تعجب و لا استفهام، أليق بمقامهم لطهارة ذواتهم و كمال صفاتهم.
و في كتاب بعض من عاصرناه، قالت المعتزلة: ظهر من آدم عليه السلام في علمه بالأسماء معجزة دالة على نبوته في ذلك الوقت، و الأقرب أنه كان مبعوثا إلى حواء، و لا يبعد أن يكون أيضا مبعوثا إلى من توجه التحدي إليهم من الملائكة، لأن جميعهم، و إن كانوا رسلا، فقد يجوز الإرسال إلى الرسول، كبعثه إبراهيم عليه السلام إلى لوط عليه السلام، و احتجوا بكونه ناقضا للعادة. و لقائل أن يقول: حصول العلم باللغة لمن علمه اللّه و عدم حصوله لمن لم يعلم ليس بناقض للعادة. و أيضا، فالملائكة أما إن علموا وضع تلك الأسماء للمسميات فلا مزية أو لا، فكيف علموا إصابته في ذلك؟ و الجواب من وجهين:
أحدهما: أنه ربما يكون لكل صنف منهم لغة، ثم حضر جميعهم فعرف كل صنف إصابته في تلك اللغة، إلا أنهم بأسرهم عجزوا عن معرفتها بأسرها. الثاني: أن اللّه عرفهم الدليل على صدقه، و لم لا يكون من باب الكرامات أو من باب الإرهاص؟ و احتج من قال: لم يكن نبيا، بوجوه: أحدها: صدور المعصية عنه بعد، و ذلك غير جائز على النبي.
و ثانيها: أنه لو كان مبعوثا لكان إلى أحد، لأن المقصود منه التبليغ، و ذلك لا يكون الملائكة، لأنهم أفضل، و لا حوّاء، لأنها مخاطبة بلا واسطة بقوله: وَ لا تَقْرَبا ، و لا الجن، لأنهم لم يكونوا في السماء. و ثالثها: قوله: ثُمَّ اجْتَباهُ ، و هذا يدل على أن الاجتباء كان بعد الزلة، و النبي لا بد أن يكون مجتبى وقت كونه نبيا.
البحر المحيط فى التفسير، ج1، ص: 242
قالَ أَ لَمْ أَقُلْ لَكُمْ ؛ جواب فلما، و قد تقدّم ذكر الخلاف في لما المقتضية للجواب، أ هي حرف أم ظرف؟ و رجحنا الأول و ذكرنا أنه مذهب سيبويه. و ألم: أقل تقرير، لأن الهمزة إذا دخلت على النفي كان الكلام في كثير من المواضع تقريرا نحو قوله تعالى:
أَ لَسْتُ بِرَبِّكُمْ «1» ؟ أَ لَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ «2» ؟ أَ لَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً «3» ؟ و لذلك جاز العطف على جملة إثباتية نحو: و وضعنا، و لبثت، و لكم فيه، تنبيههم بالخطاب و هزهم لسماع المقول، نحو قوله: أَ لَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً «4» نبهه في الثانية بالخطاب. و قد تقدم أن اللام في نحو: قلت لك، أو لزيد، للتبليغ، و هو أحد المعاني التي ذكرناها فيها. إِنِّي أَعْلَمُ : ياء المتكلم المتحرك ما قبلها، إذا لقيت همزة القطع المفتوحة، جاز فيها وجهان: التحريك و الإسكان، و قرىء بالوجهين في السبعة، على اختلاف بينهم في بعض ذلك، و تفصيل ذلك مذكور في كتب القراءات. و سكنوا في السبعة إجماعا: تفتني ألا، أَرِنِي أَنْظُرْ «5» ، فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ «6» وَ تَرْحَمْنِي أَكُنْ «7» ، و لا يظهر بشيء من اختلافهم و اتفاقهم علة إلا اتباع الرواية. و الخلاف الذي تقدم في أعلم من كونه منصوبا أو مجرورا جار هنا، و قد تقدم إيضاحه هناك فلا نعيده هنا.
و قد حكى ابن عطية عن المهدوي ما نصه: قال المهدوي: و يجوز أن يكون قوله:
أعلم اسما بمعنى التفضيل في العلم، فتكون ما في موضع خفض بالإضافة. قال ابن عطية: و إذا قدر الأول اسما، فلا بد بعده من إضمار فعل ينصب غيب، تقديره: إني أعلم من كل أعلم غيب، و كونها في الموضعين فعلا مضارعا أخصر و أبلغ. انتهى. و ما نقله ابن عطية عن المهدوي و هم. و الذي ذكر المهدوي في تفسيره ما نصه: وَ أَعْلَمُ ما تُبْدُونَ ، يجوز أن ينتصب ما بأعلم على أنه فعل، و يجوز أن يكون بمعنى عالم، أو يكون ما جرا بالإضافة، و يجوز أن يقدر التنوين في أعلم إذا قدرته بمعنى عالم و تنصب ما به، فيكون بمعنى حواج بيت اللّه، انتهى. فأنت ترى أنه لم يذهب إلى أن أفعل للتفضيل و أنه لم يجز الجر في ما و النصب، و تكون أفعل اسما إلا إذا كان بمعنى فاعل لا أفعل تفضيل، و لا
(1) سورة الأعراف: 7/ 172.
(2) سورة الشرح: 94/ 1.
(3) سورة الشعراء: 26/ 18.
(4) سورة الكهف: 18/ 75.
(5) سورة الأعراف: 7/ 141.
(6) سورة مريم: 19/ 43.
(7) سورة هود: 11/ 47.
البحر المحيط فى التفسير، ج1، ص: 243
يمكن أن يقال ما نقله ابن عطية عن المهدوي من جواز أن يكون أعلم أفعل بمعنى التفضيل، و خفض ما بالإضافة البتة.
غَيْبَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ : تقدم الكلام على هذه الألفاظ الثلاثة، و اختلف في الغيب هنا، فقيل: غيب السموات: أكل آدم و حواء من الشجرة، لأنها أول معصية وقعت في السماء، و غيب الأرض: قتل قابيل هابيل، لأنها أول معصية كانت في الأرض. و قيل:
غيب السموات ما قضاه من أمور خلقه، و غيب الأرض ما فعلوه فيها بعد القضاء. و قيل:
غيب السموات ما غاب عن ملائكته المقربين و حملة عرشه مما استأثر به تعالى من أسرار الملكوت الأعلى، و غيب الأرض ما أخفاه عن أنبيائه و أصفيائه من أسرار ملكوته الأدنى و أمور الآخرة الأولى.
وَ أَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَ ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ
قال علي و ابن مسعود و ابن عباس، رضوان اللّه عليهم أجمعين: ما تبدون: الضمير للملائكة، و ما كنتم تكتمون: يعني إبليس.
فيكون من خطاب الجمع، و يراد به الواحد نحو: إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ «1» . و
روي أن إبليس مرّ على جسد آدم بين مكة و الطائف قبل أن ينفخ فيه الروح فقال: لأمر ما خلق هذا، ثم دخل من فيه و خرج من دبره و قال: إنه خلق لا يتمالك لأنه أجوف، ثم قال للملائكة الذين معه:
أرأيتم إن فضل هذا عليكم و أمرتم بطاعته ما تصنعون؟ قالوا: نطيع اللّه، فقال إبليس في نفسه: و اللّه لئن سلّطت عليه لأهلكنه، و لئن سلّط عليّ لأعصينه
، فهذا قوله تعالى:
وَ أَعْلَمُ ما تُبْدُونَ الآية، يعني: من قول الملائكة و كتم إبليس. و قال الحسن و قتادة: ما أبدوه هو قولهم: أَ تَجْعَلُ فِيها ، و ما كتموه قولهم: لن يخلق اللّه أكرم عليه منا، و قيل: ما أبدوه قولهم: أَ تَجْعَلُ فِيها ، و ما كتموه أضمروه من الطاعة للّه و السجود لآدم. و قيل: ما أبدوه هو الإقرار بالعجز، و ما كتموه الكراهية لاستخلاف آدم عليه السلام. و قيل: هو عام فيما أبدوه و ما كتموه من كل أمورهم، و هذا هو الظاهر. و أبرز الفعل في قوله: وَ أَعْلَمُ ليكون متعلقه جملة مقصودة بالعامل، فلا يكون معمولها مندرجا تحت الجملة الأولى، و هو يدل على الاهتمام بالإخبار، إذ جعل مفردا بعامل غير العامل، و عطف قوله وَ ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ هو من باب الترقي في الإخبار، لأن علم اللّه تعالى واحد لا تفاوت فيه بالنسبة إلى شيء من معلوماته، جهرا كان أو سرا، و وصل ما بكنتم يدل على أن الكتم وقع فيما
(1) سورة الحجرات: 49/ 4.
البحر المحيط فى التفسير، ج1، ص: 244
مضى، و ليس المعنى أنهم كتموا عن اللّه لأن الملائكة أعرف باللّه و أعلم، فلا يكتمون اللّه شيئا، و إنما المعنى أنه هجس في أنفسهم شيء لم يظهره بعضهم لبعض، و لا أطلعه عليه، و إن كان المعنى إبليس، فقد تقدم أنه قال في نفسه: ما حكيناه قبل عنه، فكتم ذلك عن الملائكة. و قد تضمن آخر هذه الآية من علم البديع الطباق و هو قوله: ما تُبْدُونَ وَ ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ قوله:
[سورة البقرة (2): آية 34]
السجود: التذلل و الخضوع، و قال ابن السكيت: هو الميل، و قال بعضهم: سجد وضع جبهته بالأرض، و أسجد: ميل رأسه و انحنى، و قال الشاعر:
ترى ألا كم فيها سجدا للحوافر يريد أن الحوافر تطأ الأكم، فجعل تأثر الأكم للحوافر سجودا مجازا، و قال آخر:
كما سجدت نصرانة لم تحنف و قال آخر:
سجود النصارى لأحبارها يريد الانحناء.
إبليس: اسم أعجميّ منع الصرف للعجمة و العلمية، قال الزجاج: و وزنه فعليل، و أبعد أبو عبيدة و غيره في زعمه أنه مشتق من الإبلاس، و هو الإبعاد من الخير، و وزنه على هذا، أفعيل، لأنه قد تقرر في علم التصريف أن الاشتقاق العربي لا يدخل في الأسماء الأعجمية، و اعتذر من قال بالاشتقاق فيه عن منع الصرف بأنه لا نظير له في الأسماء، و ردّنا: غريض، و إزميل، و إخريط، و إجفيل، و إعليط، و إصليت، و إحليل، و إكليل، و إحريض. و قد قيل: شبه بالأسماء الأعجمية، فامتنع الصرف للعلمية، و شبه العجمة، و شبه العجمة هو أنه و إن كان مشتقا من الإبلاس فإنه لم يسم به أحد من العرب، فصار خاصا بمن أطلقه اللّه عليه، فكأنه دليل في لسانهم، و هو علم مرتجل. و قد روي اشتقاقه من الإبلاس عن ابن عباس و السدي، و ما إخاله يصح. الإباء: الامتناع، قال الشاعر:
و أما أن تقولوا قد أبينا
فشرّ مواطن الحسب الإباء
البحر المحيط فى التفسير، ج1، ص: 245
و الفعل منه: أبى يأبى، و لما جاء مضارعه على يفعل بفتح العين و ليس بقياس أحرى، كأنه مضارع فعل بكسر العين، فقالوا فيه: يئبى بكسر حرف المضارعة، و قد سمع فيه أبي بكسر العين فيكون يأبى على هذه اللغة قياسا، و وافق من قال أبى بفتح العين على هذه اللغة. و قد زعم أبو القاسم السعدي أن أبي يأتي بفتح العين لا خلاف فيه، و ليس بصحيح، فقد حكى أبي بكسر العين صاحب المحكم. و قد جاء يفعل في أربعة عشر فعلا و ماضيها فعل، و ليست عينه و لا لامه حرف حلق. و في بعضها سمع أيضا فعل بكسر العين، و في بعض مضارعها سمع أيضا يفعل و يفعل بكسر العين و ضمها، ذكرها التصريفيون.
الاستكبار و التكبر: و هو مما جاء فيه استفعل بمعنى تفعل، و هو أحد المعاني الإثني عشر التي جاءت لها استفعل، و هي مذكورة في شرح نستعين.
وَ إِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبى وَ اسْتَكْبَرَ وَ كانَ مِنَ الْكافِرِينَ لم يؤثر فيها سبب نزول سمعي، و مناسبة هذه الآية لما قبلها أن اللّه تعالى لما شرف آدم بفضيلة العلم و جعله معلما للملائكة و هم مستفيدون منه مع قولهم السابق:
أَ تَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَ يَسْفِكُ الدِّماءَ . أراد اللّه أن يكرم هذا الذي استخلفه بأن يسجد له ملائكته، ليظهر بذلك مزية العلم على مزية العبادة. قال الطبري: قصة إبليس تقريع لمن أشبهه من بني آدم، و هم اليهود الذين كفروا بمحمد صلّى اللّه عليه و سلّم، مع علمهم بنبوته، و مع قدم نعم اللّه عليهم و على أسلافهم. و إذ: ظرف كما سبق فقيل بزيادتها. و قيل:
العامل فيها فعل مضمر يشيرون إلى ادكر. و قيل: هي معطوفة على ما قبلها، يعني قوله:
وَ إِذْ قالَ رَبُّكَ ، و يضعف الأول بأن الأسماء لا تزاد، و الثاني أنها لازم ظرفيتها، و الثالث لاختلاف الزمانين فيستحيل وقوع العامل الذي اخترناه في إذ الأولى في إذ هذه. و قيل:
العامل فيها أبى، و يحتمل عندي أن يكون العامل في إذ محذوف دل عليه قوله:
فَسَجَدُوا ، تقديره: انقادوا و أطاعوا، لأن السجود كان ناشئا عن الانقياد للأمر. و في قوله: قُلْنا التفات، و هو من أنواع البديع، إذ كان ما قبل هذه الآية قد أخبر عن اللّه بصورة الغائب، ثم انتقل إلى ضمير المتكلم، و أتى بنا التي تدل على التعظيم و علوّ القدر و تنزيله منزلة الجمع، لتعدد صفاته الحميدة و مواهبه الجزيلة.
و حكمة هذا الالتفات و كونه بنون المعظم نفسه أنه صدر منه الأمر للملائكة بالسجود، و وجب عليهم الامتثال، فناسب أن يكون الأمر في غاية من التعظيم، لأنه متى كان كذلك كان أدعى لامتثال المأمور فعل ما أمر به من غير بطء و لا تأول لشغل خاطره بورود ما صدر
البحر المحيط فى التفسير، ج1، ص: 246
من المعظم. و قد جاء في القرآن نظائر لهذا، منها: وَ قُلْنا يا آدَمُ اسْكُنْ «1» ، وَ قُلْنَا اهْبِطُوا «2» ، قُلْنا يا نارُ كُونِي بَرْداً «3» ، و قلنا من بعده لبني إسرائيل: اسْكُنُوا الْأَرْضَ «4» ، وَ قُلْنا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبابَ «5» ، وَ قُلْنا لَهُمْ لا تَعْدُوا «6» . فأنت ترى هذا الأمر و هذا النهي كيف تقدّمهما الفعل المسند إلى المتكلم المعظم نفسه، لأن الآمر اقتضى الاستعلاء على المأمور، فظهر للمأمور بصفة العظمة، و لا أعظم من اللّه تعالى، و المأمورون بالسجود، قال السدي: عامة الملائكة. و قال ابن عباس: الملائكة الذين يحكمون في الأرض. و قرأ الجمهور: للملائكة بجر التاء. و قرأ أبو جعفر يزيد بن القعقاع و سليمان بن مهران: بضم التاء، اتباعا لحركة الجيم و نقل أنها لغة أزدشنوءة. قال الزجاج: هذا غلط من أبي جعفر، و قال الفارسي: هذا خطأ، و قال ابن جني: لأن كسرة التاء كسرة إعراب، و إنما يجوز هذا الذي ذهب إليه أبو جعفر، إذا كان ما قبل الهمزة ساكنا صحيحا نحو:
وَ قالَتِ اخْرُجْ «7» . و قال الزمخشري: لا يجوز لاستهلاك الحركة الإعرابية بحركة الاتباع إلا في لغة ضعيفة كقولهم: الْحَمْدُ لِلَّهِ* ، انتهى كلامه. و إذا كان ذلك في لغة ضعيفة، و قد نقل أنها لغة أزدشنوءة، فلا ينبغي أن يخطأ القارئ بها و لا يغلط، و القارئ بها أبو جعفر، أحد القراء المشاهير الذين أخذوا القرآن عرضا عن عبد اللّه بن عباس و غيره من الصحابة، و هو شيخ نافع بن أبي نعيم، أحد القراء السبعة، و قد علل ضم التاء لشبهها بألف الوصل، و وجه الشبه أن الهمزة تسقط في الدرج لكونها ليست بأصل، و التاء في الملائكة تسقط أيضا لأنها ليست بأصل. ألا تراهم قالوا: الملائك؟ و قيل: ضمت لأن العرب تكره الضمة بعد الكسرة لثقلها.
اسْجُدُوا : أمر، و تقتضي هذه الصيغة طلب إيقاع الفعل في الزمان المطلق استقباله، و لا تدل بالوضع على الفور، و هذا مذهب الشافعي و القاضي أبي بكر بن الطيب، و اختاره الغزالي و الرازي خلافا للمالكية من أهل بغداد، و أبي حنيفة و متبعيه. و هذه مسألة يبحث فيها في أصول الفقه، و هذ الخلاف إنما هو حيث لا تدل قرينة على فور أو تأخير.
و أما هنا فالعطف بالفاء يدل على تعقيب القول بالفعل من غير مهلة، فتكون الملائكة قد
(1) سورة البقرة: 2/ 35.
(2) سورة البقرة: 2/ 36.
(3) سورة الأنبياء: 21/ 69.
(4) سورة الإسراء: 17/ 104.
(5) سورة النساء: 4/ 150.
(6) سورة النساء: 4/ 154.
(7) سورة يوسف: 12/ 31.
البحر المحيط فى التفسير، ج1، ص: 247
فهموا الفور من شيء آخر غير موضوع اللفظ، فلذلك بادروا بالفعل و لم يتأخروا. و السجود المأمور به و المفعول إيماء و خضوع، قاله الجمهور، أو وضع الجبهة على الأرض مع التذلل، أو إقرارهم له بالفضل و اعترافهم له بالمزية، و هذا يرجع إلى معنى السجود اللغوي، قال: فإن من أقر لك بالفضل فقد خضع لك. لِآدَمَ : من قال بالسجود الشرعي قال:
كان السجود تكرمة و تحية له، و هو قول الجمهور: علي
و ابن مسعود و ابن عباس، كسجود أبوي يوسف، لا سجود عبادة، أو للّه تعالى، و نصبه اللّه قبلة لسجودهم كالكعبة، فيكون المعنى إلى آدم، قاله الشعبي، أو للّه تعالى، فسجد و سجدوا مؤتمين به، و شرفه بأن جعله إماما يقتدون به. و المعنى في: لِآدَمَ أي مع آدم. و قال قوم: إنما أمر اللّه الملائكة بالسجود لآدم قبل أن يخلقه، فالسجود امتثال لأمر اللّه، و السجود له، قاله مقاتل، و القرآن يرد هذا القول. و قال قوم: كان سجود الملائكة مرتين. قيل: و الإجماع يرد هذا القول، و الظاهر أن السجود هو بالجبهة لقوله: فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَ نَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ* «1» . و قيل: لا دليل في ذلك، لأن الجاثي على ركبتيه واقع، و أن السجود كان لآدم على سبيل التكرمة، و قال بعضهم: السجود للّه بوضع الجبهة، و للبشر بالانحناء، انتهى. و يجوز أن يكون السجود في ذلك الوقت للبشر غير محرم، و قد نقل أن السجود كان في شريعة من قبلنا هو التحية، و نسخ ذلك في الإسلام. و قيل: كان السجود لغير اللّه جائزا إلى زمن يعقوب، ثم نسخ، و قال الأكثرون: لم ينسخ إلى عصر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم. و
روي أنه صلّى اللّه عليه و سلّم قال في حديث عرض عليه الصحابة أن يسجدوا له: «لا ينبغي لأحد أن يسجد لأحد إلا للّه رب العالمين»
، و أن معاذا سجد للنبي صلّى اللّه عليه و سلّم فنهاه عن ذلك. قال ابن عطاء: لما استعظموا تسبيحهم و تقديسهم أمرهم بالسجود لغيره ليريهم بذلك استغناءه عنهم و عن عبادتهم.
فَسَجَدُوا ، ثم: محذوف تقديره: فسجدوا له، أي لآدم. دل عليه قول:
اسْجُدُوا لِآدَمَ ، و اللام في لآدم للتبيين، و هو أحد المعاني السبعة عشر التي ذكرناها عند شرح الْحَمْدُ لِلَّهِ . إِلَّا إِبْلِيسَ : هو مستثنى من الضمير في فسجدوا، و هو استثناء من موجب في نحو هذه المسألة فيترجح النصب، و هو استثناء متصل عند الجمهور: ابن مسعود و ابن عباس و ابن المسيب و قتادة و ابن جريج، و اختاره الشيخ أبو الحسن و الطبري، فعلى هذا يكون ملكا ثم أبلس و غضب عليه و لعن فصار شيطانا. و روى في ذلك آثار عن