کتابخانه تفاسیر
البحر المحيط فى التفسير، ج1، ص: 614
صادقا به، و هم الأنبياء. فتضمن الإيمان باليوم الآخر الإيمان بالأنبياء، و بما جاءوا به. فلما كان الإيمان باللّه و اليوم الآخر يتضمن الإيمان بجميع ما يجب أن يؤمن به، اقتصر على ذلك، لأن غيره في ضمنه. و دعاء إبراهيم لأهل البيت يعم من يطلق عليه هذا الاسم، و لا يختص ذلك بذريته، و إن كان ظاهر قوله: وَ ارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ مختصا بذريته لقوله: إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي لعود الضمير في و ارزقهم عليه، فيحتمل أن يكونا سؤالين. و من: في قوله: من الثمرات للتبعيض، لأنهم لم يرزقوا إلا بعض الثمرات.
و قيل: هي لبيان الجنس، و من بدل من أهله، بدل بعض من كل، أو بدل اشتمال مخصص لما دل عليه المبدل منه، و فائدته أنه يصير مذكورا مرتين: إحداهما بالعموم السابق في لفظ المبدل منه، و الثانية بالتنصيص عليه، و تبيين أن المبدل منه إنما عنى به و أريد البدل فصار مجازا، إذ أريد بالعام الخاص. هذه فائدة هذين البدلين، فصار في ذلك تأكيد و تثبيت للمتعلق به الحكم، و هو البدل، إذ ذكر مرتين.
قالَ وَ مَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلى عَذابِ النَّارِ وَ بِئْسَ الْمَصِيرُ : قرأ الجمهور من السبعة: فأمتعه، مشدّدا على الخبر. و قرأ ابن عامر: فأمتعه، مخففا على الخبر. و قرأ هؤلاء: ثم اضطره خبرا. و قرأ يحيى بن وثاب: فأمتعه مخففا، ثم أضطره بكسر الهمزة، و هما خبران. و قرأ ابن محيصن: ثم أضطره، بإدغام الضاد في الطاء خبرا.
و قرأ يزيد بن أبي حبيب: ثم اضطره بضم الطاء، خبرا. و قرأ أبي بن كعب: فنمتعه ثم نضطره بالنون فيهما. و قرأ ابن عباس و مجاهد و غيرهما: فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ على صيغة الأمر فيهما، فأما على هذه القراءة فيتعين أن يكون الضمير في: قال، عائدا على إبراهيم، لما دعا للمؤمنين بالرزق، دعا على الكافرين بالإمتاع القليل و الإلزاز إلى العذاب. و من: على هذه القراءة يحتمل أن تكون في موضع رفع، على أن تكون موصولة أو شرطية، و في موضع نصب على الاشتغال على الوصل أيضا. و أما على قراءة الباقين فيتعين أن يكون الضمير في: قال، عائدا على اللّه تعالى، و من: يحتمل أن يكون في موضع نصب على إضمار فعل تقديره: قال اللّه و ارزق من كفر فأمتعه، و يكون فأمتعه معطوفا على ذلك الفعل المحذوف الناصب لمن. و يحتمل أن تكون من في موضع رفع على الابتداء، إما موصولا، و إما شرطا، و الفاء جواب الشرط، أو الداخلة في خبر الموصول لشبهة باسم الشرط. و لا يجوز أن تكون من في موضع نصب على الاشتغال إذا كانت شرطا، لأنه لا يفسر العامل في من إلا فعل الشرط، لا الفعل الواقع جزاء، و لا إذا
البحر المحيط فى التفسير، ج1، ص: 615
كانت موصولة، لأن الخبر مضارع قد دخلته الفاء تشبيها، للموصول باسم الشرط. فكما لا يفسر الجزاء، كذلك لا يفسر الخبر المشبه بالجزاء. و أما إذا كان أمرا، أعني الخبر نحو:
زيدا فاضربه، فيجوز أن يفسر، و لا يجوز أن تقول: زيدا فتضربه على الاشتغال، و لجواز:
زيدا فاضربه على الأمر، علة مذكورة في كتب النحو. قال أبو البقاء: لا يجوز أن تكون من مبتدأ، و فأمتعه الخبر، لأن الذي لا يدخل الفاء في خبرها، إلا إذا كان الخبر مستحقا لصلتها، كقولك: الذي يأتيني فله درهم. و الكفر لا يستحق به التمتع. فإن جعلت الفاء زائدة على قول الأخفش جاز، أو الخبر محذوفا، و فأمتعه دليل عليه جاز، تقديره: و من كفر أرزقه فأمتعه. و يجوز أن تكون من شرطية و الفاء جوابها. و قيل: الجواب محذوف تقديره:
و من يكفر ارزق. و من على هذا رفع بالابتداء، و لا يجوز أن تكون منصوبة، لأن أداة الشرط لا يعمل فيها جوابها، بل الشرط. انتهى كلامه. و قوله أولا لا يجوز كذا و تعليله ليس بصحيح، لأن الخبر مستحق بالصلة، لأن التمتع القليل و الصيرورة إلى النار مستحقان بالكفر. ثم إنه قد ناقض أبو البقاء في تجويزه أن تكون من شرطية و الفاء جوابها. و هل الجزاء إلا مستحق بالشرط و مترتب عليه؟ فكذلك الخبر المشبه به أيضا. فلو كان التمتع قليلا ليس مستحقا بالصلة، و قد عطف عليه ما يستحق بالصلة، ناسب أن يقع خبرا من حيث وقع جزاء، و قد جوّز هو ذلك. و أما تقدير زيادة الفاء، و إضمار الخبر، و إضمار جواب الشرط، إذا جعلنا من شرطية، فلا حاجة إلى ذلك، لأن الكلام منتظم في غاية الفصاحة دون هذا الإضمار. و إنما جرى أبو البقاء في إعرابه في القرآن على حد ما يجري في شعر الشنفري و الشماخ، من تجويز الأشياء البعيدة و التقادير المستغنى عنها، و نحن ننزه القرآن عن ذلك.
و قال الزمخشري: و من كفر: عطف على من آمن، كما عطف و من ذريتي على الكاف في جاعلك. انتهى كلامه. و تقدم لنا الردّ عليه في زعمه أن و من ذريتي عطف على الكاف في جاعلك. و أما عطف من كفر على من آمن فلا يصح، لأنه يتنافى في تركيب الكلام، لأنه يصير المعنى: قال إبراهيم: و ارزق من كفر، لأنه لا يكون معطوفا عليه حتى يشركه في العامل، و من آمن العامل فيه فعل الأمر، و هو العامل في و من كفر. و إذا قدرته أمرا، تنافي مع قوله: فأمتعه، لأن ظاهر هذا إخبار من اللّه بنسبة التمتع و إلجائهم إليه تعالى، و أن كلا من الفعلين يضمن ضمير اللّه تعالى، و ذلك لا يجوز إلا على بعد، بأن يكون بعد الفاء قول محذوف فيه ضمير للّه تعالى، أي قال إبراهيم: و ارزق من كفر، فقال اللّه: أمتعه قليلا ثم أضطره إلى عذاب النار. ثم ناقض الزمخشري قوله هذا، أنه عطف على من، كما عطف
البحر المحيط فى التفسير، ج1، ص: 616
و من ذريتي على الكاف في جاعلك فقال: فإن قلت: لم خص إبراهيم المؤمنين حتى رد عليه؟ قلت: قاس الرزق على الإمامة، فعرف الفرق بينهما، لأن الاستخلاف استرعاء مختص بمن ينصح للمرعى. و أبعد الناس عن النصيحة الظالم، بخلاف الرزق، فإنه قد يكون استدراجا للمرزوق و إلزاما للحجة له. و المعنى: و ارزق من كفر فأمتعه. انتهى كلامه. فظاهر قوله و المعنى: و ارزق من كفر فأمتعه يدل على أن الضمير في قال، و من كفر عائد على اللّه، و أن من كفر منصوب بارزق الذي هو فعل مضارع مسند إلى اللّه تعالى، و هو يناقص ما قدم أولا من أن من كفر معطوف على من آمن. و في قوله خص إبراهيم المؤمنين حتى رد عليه سوء أدب على الأنبياء، لأنه لم يرد عليه، لأنه لا يدعي، و يرغب في أن يرزق الكافر، بل قوله تعالى: قالَ وَ مَنْ كَفَرَ ، إخبار من اللّه تعالى بما يكون مآل الكافر إليه من التمتيع القليل و الصيرورة إلى النار، و ليس هنا قياس الرزق على الإمامة، و لا تعريف الفرق بينهما، كما زعم.
و قد تقدم تفسير المتاع، و أنه كل ما انتفع به، و فسر هنا التمتيع و الإمتاع بالإبقاء، أو بتيسير المنافع، و منه متاع الحياة الدنيا، أي منفعتها التي لا تدوم، أو بالتزويد، و منه:
فمتعوهن؛ أي زوّدوهنّ نفقة. و المتعة: ما يتبلغ به من الزاد، و الجمع متع، و منه: متاعا لكم. و للسيارة و الهمزة في أمتع يجعل الشيء صاحب ما صيغ منه: أمتعت زيدا، جعلته صاحب متاع، كقولهم: أقبرته و أنعلته، و كذلك التضعيف في متع هو: يجعل الشيء بمعنى ما صيغ منه نحو قولهم: عدلته. و ليس التضعيف في متع يقتضي التكثير، فينافي ظاهر ذلك القلة، فيحتاج إلى تأويل، كما ظنه بعضهم و تأوّله على أن الكثرة بإضافة بعضها إلى بعض، و القلة بالإضافة إلى نعيم الآخرة. فقد اختلفت جهتا الكثرة و القلة فلم يتنافينا.
و انتصاب قليلا على أنه صفة لظرف محذوف، أي زمانا قليلا، أو على أنه صفة لمصدر محذوف، أي تمتيعا قليلا، على تقدير الجمهور، أو على الحال من ضمير المصدر المحذوف، الدال عليه الفعل، و ذلك على مذهب سيبويه. و الوصف بالقلة لسرعة انقضائه، إما لحلول الأجل، و إما بظهور محمد صلّى اللّه عليه و سلّم فيقتله، أو يخرجه عن هذا البلد، إن أقام على الكفر و الإمتاع بالنعيم و الزينة، أو بالإمهال عن تعجيل الانتقام فيها، أو بالرزق، أو بالبقاء في الدنيا، أقوال للمفسرين. و قراءة يحيى بن وثاب: ثم اضطره بكسر الهمزة.
قال ابن عطية، على لغة قريش، في قولهم: لا إخال، يعني بكسر الهمزة. و ظاهر هذا النقل في أن ذلك، أعني كسر الهمزة التي للمتكلم في نحو اضطر، و هو ما أوله همزة
البحر المحيط فى التفسير، ج1، ص: 617
وصل. و في نحو إخال، و هو افعل المفتوح العين من فعل المكسور العين مخالف لما نقله النحويون. فإنهم نقلوا عن الحجازيين فتح حرف المضارعة مما أوّله همزة وصل، و مما كان على وزن فعل بكسر العين يفعل بفتحها، أو ذا ياء مزيدة في أوله، و ذلك نحو: علم يعلم، و انطلق ينطلق، و تعلم بتعلم، إلا إن كان حرف المضارعة ياء، فجمهور العرب من غير الحجازيين لا يكسر الياء، بل يفتحها. و في مثل يوجل بالياء مضارع وجل، مذاهب تذكر في علم النحو، و إنما المقصود هنا: أن كلام ابن عطية مخالف لما حكاه النحاة، إلا إن كان نقل أن إخال بخصوصيته في لغة قريش مكسور الهمزة دون نظائره، فيكونون قد تبعوا في ذلك لغة غيرهم من العرب، فيمكن أن يكون قول ابن عطية صحيحا.
و قد تقدم لنا في سورة الحمد في قوله: نَسْتَعِينُ أن الكسرة لغة قيس و تميم و أسد و ربيعة. و قد أمعنا الكلام على ذلك في (كتاب التكميل لشرح كتاب التسهيل) من تأليفنا.
و قراءة ابن محيصن: ثم اطره، بإدغام الضاد في الطاء. قال الزمخشري: هي لغة مرذولة، لأن الضاد من الحروف الخمسة التي يدغم فيها ما يجاورها، و لا تدغم هي فيما يجاورها، و هي حروف ضم شفر. انتهى كلامه. إذا لقيت الضاد الطاء في كلمة نحو مضطرب، فالأوجه البيان، و إن أدغم قلب الثاني للأول فقيل: مضرب، كما قيل: مصبر في مصطبر.
قال سيبويه: و قد قال بعضهم: مطجع، في مضطجع و مضجع أكثر، و جاز مطجع، و إن لم يجز في مصطبر مطبر، لأن الضاد ليست في السمع كالصاد، يعني أن الصفير الذي في الصاد أكثر في السمع من استطالة الضاد. فظاهر كلام سيبويه أنها ليست لغة مرذولة، ألا ترى إلى نقله عن بعض العرب مطجع، و إلى قوله: و مضجع أكثر، فيدل على أن مطجعا كثير؟ و ألا ترى إلى تعليله، و كون الضاد قلبت إلى الطاء و أدغمت، و لم يفعل ذلك بالصاد، و إبداء الفرق بينهما؟ و هذا كله من كلام سيبويه، يدل على الجواز. و قد أدغمت الضاد في الذال في قوله تعالى: الْأَرْضَ ذَلُولًا «1» ، رواه اليزيدي، عن أبي عمرو، و هو ضعيف.
و في الشين في قوله تعالى: لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ «2» ، وَ الْأَرْضِ شَيْئاً «3» ، و هو ضعيف أيضا. و أما الشين فأدغمت في السين. روي عن أبي عمرو ذلك في قوله تعالى: إِلى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا «4» ، و البصريون لا يجيزون ذلك عن أبي عمرو، و هو رأس من رؤوس
(1) سورة الملك: 67/ 15.
(2) سورة النور: 24/ 62.
(3) سورة النحل: 16/ 73.
(4) سورة الإسراء: 17/ 42.
البحر المحيط فى التفسير، ج1، ص: 618
البصريين. و أما الفاء فقد أدغمت في الباء في قراءة الكسائي: إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ «1» ، و هو إمام الكوفيين. و أما الراء، فذهب الخليل و سيبويه و أصحابه إلى أنه لا يجوز إدغام الراء في اللام من أجل تكريرها، و لا في النون. و أجاز ذلك في اللام: يعقوب، و أبو عمرو، و الكسائي، و الفراء، و أبو جعفر الرؤاسي، و هؤلاء الثلاثة رؤوس الكوفيين، حكوه سماعا عن العرب. و إنما تعرضت لإدغام هذه الحروف فيما يجاورها، و ذكر الخلاف فيها، لئلا يتوهم من قول الزمخشري: لا تدغم فيما يجاورها، أنه لا يجوز ذلك بإجماع من النحويين. فأوردت هذا الخلاف فيها، تنبيها على أن ذلك ليس بإجماع، إذ إطلاقه يدل على المنع البتة. و قراءة ابن أبي حبيب: بضم الطاء، توجيهها أنه أتبع حركة الطاء لحركة الراء، و هو شاذ. و أما قراءة أبي بالنون فيهما، فهي مخالفة لرسم المصحف، فهي شاذة.
و قراءة ابن عباس بصيغة الأمر يكون تكرير قال على سبيل التوكيد، أو ليكون ذلك جملتين، جملة بالدعاء لمن آمن، و جملة بالدعاء على من كفر، فلا يندرجان تحت معمول واحد، بل أفرد كلا بقول. و اضطره على هذه القراءة، هو بفتح الراء المشدّدة، كما تقول: عضه بالفتح، و هذا الإدغام هو على لغة غير الحجازيين، لأن لغة الحجازيين في مثل هذا الفك.
و لو قرأ على لغة قومه، لكان اضطره إلى عذاب يتعلق بقوله: ثم أضطره. و معنى الاضطرار هنا هو أنه يلجأ و يلز إلى العذاب، بحيث لا يجد محيصا عنه إذا حد، لا يؤثر دخول النار و لا يختاره. و مفهوم الشرط هنا ملغى، إذ قد يدخل النار بعض العصاة من المؤمنين.
وَ بِئْسَ الْمَصِيرُ المخصوص بالذم محذوف لفهم المعنى، أي و بئس المصير النار، إن كان المصير اسم مكان، و إن كان مصدرا على رأي من أجاز ذلك فالتقدير: و بئست الصيرورة صيرورته إلى العذاب.
وَ إِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ : هذه الجملة معطوفة على ما قبلها، فالعامل في إذ ما ذكر أنه العامل في إذ قبلها. و يرفع في معنى رفع، و إذ من الأدوات المخلصة للمضارع إلى الماضي، لأنها ظرف لما مضى من الزمان. و الرفع حالة الخطاب قد وقع. و قال الزمخشري: هي حكاية حال ماضية، و في ذلك نظر. من البيت: هو الكعبة. ذكر المفسرون في ماهية هذا البيت و قدمه و حدوثه، و من أي شيء كان باباه، و كم مرة حجه آدم، و من أي شيء بناه إبراهيم، و من ساعده على البناء، قصصا كثيرة. و استطردوا من ذلك للكلام في البيت المعمور، و في طول آدم، و الصلع الذي عرض له و لولده، و في
(1) سورة سبأ: 34/ 9.
البحر المحيط فى التفسير، ج1، ص: 619
الحجر الأسود، و طولوا في ذلك بأشياء لم يتضمنها القرآن و لا الحديث الصحيح. و بعضها يناقض بعضا، و ذلك على جري عاداتهم في نقل ما دب و ما درج. و لا ينبغي أن يعتمد إلا على ما صح في كتاب اللّه و سنة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم. قال ابن عطية: و الذي يصح من هذا كله أن اللّه أمر إبراهيم برفع القواعد من البيت و نشاحه في قوله: أمر، إذ لم يأت النص بأن اللّه أمر بذلك. الْقَواعِدَ : تقدّم تفسيرها في الكلام على المفردات، و هل هي الأساس أو الجدر؟ فإن كانت الأساس، فرفعها بأن يبني عليها، فتنتقل من هيئة الانخفاض إلى هيئة الارتفاع، و تتطاول بعد التقاصر. قال الزمخشري: و يجوز أن يكون المراد بها ساقات البناء، و يجوز أن يكون المعنى ما قعد من البيت، أي استوطىء، يعني جعل هيئة القاعدة المستوطأة مرتفعة عالية بالبناء.
مِنَ الْبَيْتِ : يحتمل أن يكون متعلقا بيرفع، و يحتمل أن يكون في موضع الحال من القواعد، فيتعلق بمحذوف تقديره: كائنة من البيت. و لم تضف القواعد إلى البيت، فكان يكون الكلام قواعد البيت، لما في عدم الإضافة من الإيضاح بعد الإبهام و تفخيم شأن المبين. وَ إِسْماعِيلُ : معطوف على إبراهيم، فهما مشتركان في الرفع. قيل: كان إبراهيم يبني و إسماعيل يناوله الحجارة. و قال عبيد بن عمير: رفع إبراهيم و إسماعيل معا، و هذا ظاهر القرآن. و روي عن ابن عباس أن إسماعيل طفل صغير إذ ذاك، كان يناوله الحجارة. و
روي عن علي: أن إسماعيل كان إذ ذاك طفلا صغيرا
، و لا يصح ذلك عن عليّ. و من جعل الواو في و إسماعيل واو الحال، أعرب إسماعيل مبتدأ و أضمر الخبر، التقدير: و إسماعيل يقول: ربنا تقبل منا، فيكون إبراهيم مختصا بالبناء، و إسماعيل مختصا بالدعاء. و من ذهب إلى العطف، جعل ربنا تقبل منا معمولا لقول محذوف عائد على إبراهيم و إسماعيل معا، في موضع نصب على الحال تقديره: و إذ يرفعان القواعد قائلين ربنا تقبل منا. و يؤيد هذا التأويل أن العطف في و إسماعيل أظهر من أن تكون الواو واو الحال. و قراءة أبي و عبد اللّه يقولان بإظهار هذه الجملة، و يجوز أن يكون القول المحذوف هو العامل في إذ، فلا يكون في موضع الحال، و المعنى: أنهما دعوا بذلك الدعاء وقت أن شرعا في رفع القواعد، و في ندائهما بلفظ ربنا تلطف و استعطاف بذكر هذه الصفة الدالة على التربية و الإصلاح بحال الداعي.
رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا : أي أعمالنا التي قصدنا بها طاعتك، و تقبل بمعنى: اقبل، فتفعل هنا بمعنى المجرد كقولهم: تعدّى الشيء و عداه، و هو أحد المعاني التي جاء لها تفعل.
البحر المحيط فى التفسير، ج1، ص: 620
و المراد بالتقبل: الإثابة، عبر بإحدى المتلازمين عن الآخر، لأن التقبل هو أن يقبل الرجل من الرجل ما يهدي إليه. فشبه الفعل من العبد بالعطية، و الرضا من اللّه تعالى بالتقبل توسعا. و حكى بعض المفسرين عن بعض الناس فرقا بين القبول و التقبل، قال: التقبل تكلف القبول، و ذلك حيث يكون العمل ناقصا لا يستحق أن يقبل، قال: فهذا اعتراف من إبراهيم و إسماعيل بالتقصير في العمل. و لم يكن المقصود إعطاء الثواب، لأن كون الفعل واقعا موقع القبول من المخدوم، ألذ عند الخادم العاقل من إعطاء الثواب عليه، و سؤالهما التقبل بذلك، على أن ترتيب الثواب على العمل ليس واجبا على اللّه تعالى، انتهى ملخصا. و نقول: إن التقبل و القبول سواء بالنسبة إلى اللّه تعالى، إذ لا يمكن تعقل التكليف بالنسبة إليه تعالى. و قد قدمنا أن تفعل هنا موافق للفعل المجرد الذي هو قبل.
إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ : يجوز في أنت الابتداء و الفصل و التأكيد. و قد تقدّم الكلام في الفصل و فائدته، و هو من المسائل التي جمعت فيها الكلام في نحو من سبعة أوراق أحكاما دون استدلال. و هاتان الصفتان مناسبتان هنا غاية التناسب، إذ صدر منهما عمل و تضرع سؤال، فهو السميع لضراعتهما و تسالهما التقبل، و هو العليم بنياتهما في إخلاص عملهما. و تقدّمت صفة السمع، و إن كان سؤال التقبل متأخرا عن العمل للمجاورة نحو قوله: يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَ تَسْوَدُّ وُجُوهٌ «1» . فأما الذين اسودت و تأخرت صفة العليم لكونها فاصلة و لعمومها، إذ يشمل علم المسموعات و غير المسموعات. رَبَّنا وَ اجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ : أي منقادين، أو مخلصين أوجهنا لك من قوله: من أسلم وجهه، أي أخلص عمله، و المعنى: أدم لنا ذلك، لأنهما كانا مسلمين، و لك تفيد جهة الإسلام، أي لك لا لغيرك. و قرأ ابن عباس و عوف الأعرابي: مسلمين على الجمع، دعاء لهما و للموجود من أهلهما، كهاجر، و هذا أولى من جعل لفظ الجمع مرادا به التثنية، و قد قيل به هنا.
وَ مِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ : لما تقدّم الجواب له بقوله: لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ، علم أن من ذريتهما الظالم و غير الظالم، فدعا هنا بالتبعيض لا بالتعميم فقال:
وَ مِنْ ذُرِّيَّتِنا ، و خص ذريته بالدعاء للشفقة و الحنوّ عليهم، و لأن في صلاح نسل الصالحين نفعا كثيرا لمتبعهم، إذ يكونون سببا لصلاح من وراءهم. و الذرية هنا، قيل: أمّة محمد صلّى اللّه عليه و سلّم، بدليل قوله: وَ ابْعَثْ فِيهِمْ «2» . و قيل: هم العرب، لأنهم من ذريتهما. قال:
(1) سورة آل عمران: 6/ 106.