کتابخانه تفاسیر
البحر المحيط فى التفسير، ج2، ص: 73
خلاف. البصريون يجيزون ذلك فيقولون: عجبت من ضرب زيد عمرا. و الفراء يقول:
لا يجوز ذلك، بل إذا نون المصدر لم يجىء بعده فاعل مرفوع. و الصحيح مذهب الفراء، و ليس للبصريين حجة على إثبات دعواهم من السماع، بل أثبتوا ذلك بالقياس على أن و الفعل. فمنع هذا التوجيه الذي ذكروه ظاهر، لأنا نقول: لا نسلم أنه مصدر ينحل لأن و الفعل، فيكون عاملا. سلمنا، لكن لا نسلم أن للمجرور بعده موضعا. سلمنا، لكن لا نسلم أنه يجوز العطف عليه. و تتخرج هذه القراءة على وجوه غير الوجه الذي ذكروه.
أولاها: أنه على إضمار فعل لما لم يمكن العطف، التقدير: و تلعنهم الملائكة، كما خرج سيبويه في: هذا ضارب زيد و عمرا: أنه على إضمار فعل: و يضرب عمرا. الثاني: أنه معطوف على لعنة اللّه على حذف مضاف، أي لعنة اللّه و لعنة الملائكة، فلما حذف المضاف أعرب المضاف إليه بإعرابه نحو: وَ سْئَلِ الْقَرْيَةَ «1» . الثالث: أن يكون مبتدأ حذف خبره لفهم المعنى، أي و الملائكة و الناس أجمعون يلعنونهم. و ظاهر قوله: و الناس أجمعين العموم، فقيل ذلك يكون في القيامة، إذ يلعن بعضهم بعضا، و يلعنهم اللّه و الملائكة و المؤمنون، فصار عاما، و به قال أبو العالية. و قيل: أراد بالناس من يعتد بلعنته، و هم المؤمنون خاصة، و به قال ابن مسعود، و قتادة، و الربيع، و مقاتل. و قيل: الكافرون يلعنون أنفسهم من حيث لا يشعرون، فيقولون: في الدنيا لعن اللّه الكافر، فيتأتى العموم بهذا الاعتبار، بدأ تعالى بنفسه، و ناهيك بذلك طردا و إبعادا. قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ «2» ؟ من لعنه اللّه، فلعنة اللّه هي التي تجر لعنة الملائكة و الناس. ألا ترى إلى قول بعض الصحابة: و ما لي لا ألعن من لعنه اللّه على لسان رسوله؟ و كما روي عن أحمد، أن ابنه سأله: هل يلعن؟ و ذكر شخصا معينا. فقال لابنه: يا بني، هل رأيتني ألعن شيئا قط؟ ثم قال: و ما لي لا ألعن من لعنه اللّه في كتابه؟ قال فقلت: يا أبت، و أين لعنة اللّه؟ قال: قال تعالى: أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ «3» . ثم ثنى بالملائكة، لما في النفوس من عظم شأنهم و علو منزلتهم و طهارتهم. ثم ثلث بالناس، لأنهم من جنسهم، فهو شاق عليهم، لأن مفاجأة المماثل من يدعي المماثلة بالمكروه أشق، بخلاف صدور ذلك من الأعلى.
خالِدِينَ فِيها : أي في اللعنة، و هو الظاهر، إذ لم يتقدم ما يعود عليها في اللفظ
(1) سورة يوسف: 12/ 82.
(2) سورة المائدة: 5/ 60.
(3) سورة هود: 11/ 18.
البحر المحيط فى التفسير، ج2، ص: 74
إلا اللعنة. و قيل: يعود على النار، أضمرت لدلالة المعنى عليها، و لكثرة ما جاء في القرآن من قوله: خالدين فيها، و هو عائد على النار، و لدلالة اللعنة على النار، لأن كل من لعنه اللّه فهو في النار. لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَ لا هُمْ يُنْظَرُونَ : سبق الكلام على مثل هاتين الجملتين تلو قوله أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ فَلا يُخَفَّفُ «1» ، الآية، فأغنى عن إعادته هنا. إلا أن الجملة من قوله: لا يُخَفَّفُ هي في موضع نصب من الضمير المستكن في خالدين، أي غير مخفف عنهم العذاب. فهي حال متداخلة، أي حال من حال، لأن خالدين حال من الضمير في عليهم. و من أجاز تعدي العامل إلى حالين لذي حال واحد، أجاز أن تكون الجملة من قوله: لا يُخَفَّفُ ، حال من الضمير في عليهم، و يجوز أن تكون: لا يخفف جملة استئنافية، فلا موضع لها من الإعراب. و في آخر الجملة الثانية، هناك: و لا ينصرون، نفى عنهم النصر، و هنا: و لا هم ينظرون، نفي الأنظار، و هو تأخير العذاب.
وَ إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ الآية.
روي عن ابن عباس أنها نزلت في كفار قريش، قالوا:
يا محمد، صف و انسب لنا ربك، فنزلت سورة الإخلاص و هذه الآية. و روي عنه أيضا أنه كان في الكعبة
، و قيل حولها، ثلاثمائة و ستون صنما يعبدونها من دون اللّه، فنزلت. و ظاهر الخطاب أنه لجميع المخلوقات المتصور منهم العبادة، فهو إعلام لهم بوحدانية اللّه تعالى.
و يحتمل أن يكون خطابا لمن قال: صف لنا ربك و انسبه، أو خطابا لمن يعبد مع اللّه غيره من صنم و وثن و نار. و إله: خبر عن إلهكم، و واحد: صفته، و هو الخبر في المعنى لجواز الاستغناء عن إله، و منع الاقتصار عليه، فهو شبيه بالحال الموطئة، كقولك: مررت بزيد رجلا صالحا. و الواحد المراد به نفي النظير، أو القديم الذي لم يكن معه في الأزل شيء، أو الذي لا أبعاض له و لا أجزاء، أو المتوحد في استحقاق العبادة. أقوال أربعة أظهرها الأول. تقول: فلان واحد في عصره، أي لا نظير له و لا شبيه، و ليس المعنى هنا بواحد مبدأ العدد.
لا إِلهَ إِلَّا هُوَ : توكيد لمعنى الوحدانية و نفي الإلهية عن غيره. و هي جملة جاءت لنفي كل فرد فرد من الآلهة، ثم حصر ذلك المعنى فيه تبارك و تعالى، فدلت الآية الأولى على نسبة الواحدية إليه تعالى، و دلت الثانية على حصر الإلهية فيه من اللفظ الناص على ذلك، و إن كانت الآية الأولى تستلزم ذلك، لأن من ثبتت له الواحدية ثبتت له الإلهية.
(1) سورة البقرة: 2/ 86.
البحر المحيط فى التفسير، ج2، ص: 75
و تقدم الكلام على إعراب الاسم بعد لا في قوله: لا رَيْبَ فِيهِ* «1» ، و الخبر محذوف، و هو بدل من اسم لا على الموضع، و لا يجوز أن يكون خبرا. كما جاز ذلك في قولك: زيد ما العالم إلا هو، لأن لا لا تعمل في المعارف، هذا إذا فرعنا على أن الخبر بعد لا التي يبنى الاسم معها هو مرفوع بها، و أما إذا فرعنا على أن الخبر ليس مرفوعا بها، بل هو خبر المبتدأ الذي هو لا مع المبني معها، و هو مذهب سيبويه، فلا يجوز أيضا، لأنه يلزم من ذلك جعل المبتدأ نكرة، و الخبر معرفة، و هو عكس ما استقر في اللسان العربي. و تقرير البدل فيه أيضا مشكل على قولهم: إنه بدل من إله، لأنه لا يمكن أن يكون على تقدير تكرار العامل، لا تقول: لا رجل إلا زيد. و الذي يظهر لي فيه أنه ليس بدلا من إله و لا من رجل في قولك: لا رجل إلا زيد، إنما هو بدل من الضمير المستكن في الخبر المحذوف، فإذا قلنا: لا رجل إلا زيد، فالتقدير: لا رجل كائن أو موجود إلا زيد. كما تقول: ما أحد يقوم إلا زيد، فزيد بدل من الضمير في يقوم لا من أحد، و على هذا يتمشى ما ورد من هذا الباب، فليس بدلا على موضع اسم لا، و إنما هو بدل مرفوع من ضمير مرفوع، ذلك الضمير هو عائد على اسم لا. و لولا تصريح النحويين أنه يدل على الموضع من اسم لا، لتأوّلنا كلامهم على أنهم يريدون بقولهم بدل من اسم لا، أي من الضمير العائد على اسم لا. قال بعضهم: و قد ذكر أن هو بدل من إله على المحل، قال: و لا يجوز فيه النصب هاهنا، لأن الرفع يدل على الاعتماد على الثاني، و المعنى في الآية على ذلك، و النصب على أن الاعتماد على الأول. انتهى كلامه. و لا فرق في المعنى بين: ما قام القوم إلا زيد، و إلا زيدا، من حيث أن زيدا مستثنى من جهة المعنى. إلا أنهم فرقوا من حيث الإعراب، فأعربوا ما كان تابعا لما قبله بدلا، و أعربوا هذا منصوبا على الاستثناء، غير أن الإتباع أولى للمشاكلة اللفظية، و النصب جائز، و لا نعلم في ذلك خلافا.
و قال في المنتخب: لما قال تعالى: وَ إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ ، أمكن أن يخطر ببال أحد أن يقول: هب أن إلهنا واحد، فلعل إله غيرنا مغاير لإلهنا، فلا جرم. أزال ذلك الوهم ببيان التوحيد المطلق فقال: لا إله إلا هو. فقوله: لا إله يقتضي النفي العام الشامل، فإذا قال بعده: إلا اللّه، أفاد التوحيد التامّ المطلق المحقق. و لا يجوز أن يكون في الكلام حذف، كما يقوله النحويون، و التقدير: لا إله لنا، أو في الوجود، إلا اللّه، لأن هذا غير مطابق
(1) سورة البقرة: 2/ 2.
البحر المحيط فى التفسير، ج2، ص: 76
للتوحيد الحق، لأنه إن كان المحذوف لنا، كان توحيدا لإلهنا لا توحيدا للإله المطلق، فحينئذ لا يبقى بين قوله: وَ إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ ، و بين قوله: لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فرق، فيكون ذلك تكرارا محضا، و أنه غير جائز. و أما إن كان المحذوف في الوجود، كان هذا نفيا لوجود الإله الثاني. أما لو لم يضمر، كان نفيا لماهية الإله الثاني، و معلوم أن نفي الماهية أقوى في التوحيد الصرف من نفي الوجود، فكان إجراء الكلام على ظاهره، و الإعراض عن هذا الإضمار أولى، و إنما قدم النفي على الإثبات، لغرض إثبات التوحيد، و نفي الشركاء و الأنداد. انتهى الكلام.
قال أبو عبد اللّه محمد بن أبي الفضل المرسي في (ريّ الظمآن): هذا كلام من لا يعرف لسان العرب. فإن لا إله في موضع المبتدأ، على قول سيبويه، و عند غيره اسم لا، و على التقديرين، لا بد من خبر للمبتدأ، أو للا، فما قاله من الاستغناء عن الإضمار فاسد. و أما قوله: إذا لم يضمر كان نفيا للماهية، قلنا: نفي الماهية هو نفي الوجود، لأن نفي الماهية لا يتصوّر عندنا إلا مع الوجود، فلا فرق عنده بين لا ماهية و لا وجود، و هذا مذهب أهل السنة، خلافا للمعتزلة، فإنهم يثبتون الماهية عرية عن الوجود، و الدليل يأبى ذلك. انتهى كلامه، و ما قاله من تقدير خبر لا بد منه، لأن قوله: لا إله، كلام، فمن حيث هو كلام، لا بد فيه من مسنده و مسند إليه. فالمسند إليه هو إله، و المسند هو الكون المطلق، و لذلك ساغ حذفه، كما ساغ بعد قولهم: لولا زيد لأكرمتك، إذ تقديره: لولا زيد موجود، لأنها جملة تعليقية، أو شرطية عند من يطلق عليها ذلك، فلا بد فيها من مسند و مسند إليه، و لذلك نقلوا أن الخبر بعد لا، إذا علم، كثر حذفه عند الحجازيين، و وجب حذفه عند التميميين. و إذا كان الخبر كونا مطلقا، كان معلوما، لأنه إذا دخل النفي المراد به نفي العموم، فالمتبادر إلى الذهن هو نفي الوجود، لأنه لا تنتفي الماهية إلا بانتفاء وجودها، بخلاف الكون المقيد، فإنه لا يتبادر الذهن إلى تعيينه، فلذلك لا يجوز حذفه نحو: لا رجل يأمر بالمعروف إلا زيد، إلا إن دل على ذلك قرينة من خارج فيعلم، فيجوز حذفه.
الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ : ذكر هاتين الصفتين منبها بهما على استحقاق العبادة له، لأن من ابتدأك بالرحمة إنشاء بشرا سويا عاقلا و تربية في دار الدنيا موعودا الوعد الصدق بحسن العاقبة في الآخرة، جدير بعبادتك له و الوقوف عند أمره و نهيه، و أطمعك بهاتين الصفتين في
البحر المحيط فى التفسير، ج2، ص: 77
سعة رحمته. و جاءت هذه الآية عقيب آية مختومة باللعنة و العذاب لمن مات غير موحد له تعالى، إذ غالب القرآن أنه إذا ذكرت آية عذاب، ذكرت آية رحمة، و إذا ذكرت آية رحمة، ذكرت آية عذاب. و تقدم شرح هاتين الصفتين، فأغنى عن إعادته. و يجوز ارتفاع الرحمن على البدل من هو، و على إضمار مبتدأ محذوف، أي هو الرحمن الرحيم، و على أن يكون خبرا بعد خبر لقوله: و إلهكم، فيكون قد قضى هذا المبتدأ ثلاثة أخبار: إله واحد خبر، و لا إله إلا هو خبر ثان، و الرحمن الرحيم خبر ثالث. و لا يجوز أن يكون خبرا لهو هذه المذكورة لأن المستثنى هنا ليس بجملة، بخلاف قولك: ما مررت برجل إلا هو أفضل من زيد.
قالوا: و لا يجوز أن يرتفع على الصفة لهو، لأن المضمر لا يوصف. انتهى. و هو جائز على مذهب الكسائي، إذا كانت الصفة للمدح، و كان الضمير الغائب. و أهمل ابن مالك القيد الأول، فأطلق عن الكسائي أنه يجيز وصف الضمير الغائب.
روي عن رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم أنه قال: «إن هاتين الآيتين اسم اللّه الأعظم، و إلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم».
إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ : روي أنه لما نزل وَ إِلهُكُمْ الآية، قالت كفار قريش: كيف يسع الناس إله واحد؟ فنزل: إِنَّ فِي خَلْقِ . و لما تقدم وصفه تعالى بالوحدانية و اختصاصه بالإلهية، استدل بهذا الخلق الغريب و البناء العجيب استدلالا بالأثر على المؤثر، و بالصنعة على الصانع، و عرفهم طريق النظر، و فيم ينظرون. فبدأ أولا بذكر العالم العلوي فقال: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ . و خلقها: إيجادها و اختراعها، أو خلقها و تركيب أجرامها و ائتلاف أجزائها من قولهم: خلق فلان حسن: أي خلقته و شكله. و قيل:
خلق هنا زائدة و التقدير: إن في السموات و الأرض، لأن الخلق إرادة تكوين الشيء.
و الآيات في المشاهد من السموات و الأرض، لا في الإرادة، و هذا ضعيف، لأن زيادة الأسماء لم تثبت في اللسان، و لأن الخلق ليس هو الإرادة، بل الخلق ناشىء عن الإرادة.
قالوا: و جمع السموات لأنها أجناس، كل سماء من جنس غير جنس الأحرى، و وحد الأرض لأنها كلها من تراب. و بدأ بذكر السماء لشرفها و عظم ما احتوت عليه من الأفلاك و الأملاك و العرش و الكرسي و غير ذلك، و آياتها: ارتفاعها من غير عمد تحتها، و لا علائق من فوقها، ثم ما فيها من النيرين، الشمس و القمر و النجوم السيارة و الكواكب الزاهرة، شارقة و غاربة، نيرة و ممحوّة، و عظم أجرامها و ارتفاعها، حتى قال أرباب الهيئة: إن الشمس قدر الأرض مائة و أربع و ستين مرّة، و إن أصغر نجم في السماء قدر الأرض سبع مرّات، و إن الأفلاك عظيمة الأجرام، قد ذكر أرباب علم الهيئة مقاديرها، و إنها سبعة
البحر المحيط فى التفسير، ج2، ص: 78
أفلاك، يجمعها الفلك المحيط. و قد صح
عن رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم أنه قال: «أطت السماء و حق لها أن تئط، ليس فيها موضع قدم إلا و فيه ملك ساجد».
و صح أيضا:
«أن البيت المعمور يدخله كل يوم سبعون ألفا، لا يعودون إليه إلى يوم القيامة».
و آية الأرض: بسطها، لا دعامة من تحتها و لا علائق من فوقها، و أنهارها و مياهها و جبالها و رواسيها و شجرها و سهلها و وعرها و معادنها، و اختصاص كل موضع منها بما هيىء له، و منافع نباتها و مضارها. و ذكر أرباب الهيئة أن الأرض نقطة في وسط الدائرة ليس لها جهة، و أن البحار محيطة بها، و الهواء محيط بالماء، و النار محيطة بالهواء، و الأفلاك وراء ذلك. و قد ذكر القاضي أبو بكر محمد بن الطيب الباقلاني في كتابه المعروف (بالدقائق) خلافا عن الناس المتقدمين: هل الأرض واقفة أم متحركة؟ و في كل قول من هذين مذاهب كثيرة في السبب الموجب لوقوفها، أو لتحركها. و كذلك تكلموا على جرم السموات و لونها و عظمها و أبراجها، و ذكر مذاهب للمنجمين و المانوية، و تخاليط كثيرة. و الذي تكلم عليه أهل الهيئة هو شيء استدلوا عليه بعقولهم، و ليس في الشرع شيء من ذلك. و المعتمد عليه أن هذه الأشياء لا يعلم حقيقة خلقها إلا اللّه تعالى، و من أطلعه اللّه على شيء منها بالوحي أَحاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً «1» ، وَ أَحْصى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً «2» .
وَ اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَ النَّهارِ : اختلافهما بإقبال هذا و إدبار هذا، أو اختلافهما بالأوصاف في النور و الظلمة، و الطول و القصر، أو تساويهما، قاله ابن كيسان. و قدم الليل على النهار لسبقه في الخلق، قال تعالى: وَ آيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ «3» . و قال قوم: إن النور سابق على الظلمة، و على هذا الخلاف انبنى الخلاف في ليلة اليوم. فعلى القول الأول: تكون ليلة اليوم هي التي قبله، و هو قول الجمهور؛ و على القول الثاني: ليلة اليوم هي الليلة التي تليه، و كذلك ينبني على اختلافهم في النهار، اختلافهم في مسألة: لو حلف لا يكلم زيدا نهارا.
وَ الْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ : أول من عمل الفلك نوح، على نبينا و عليه أفضل الصلاة و السلام، و
قال له جبريل عليه السلام: ضعها على جؤجؤ الطائر.
فالسفينة طائر مقلوب، و الماء في أسفلها نظير الهواء في أعلاها، قاله أبو بكر بن العربي. و آيتها تسخير اللّه إياها حتى تجري على وجه الماء، و وقوفها فوقه مع ثقلها و تبليغها المقاصد. و لو رميت
(1) سورة الطلاق: 65/ 11.
(2) سورة الجن: 72/ 28.
(3) سورة يس: 36/ 37.
البحر المحيط فى التفسير، ج2، ص: 79
في البحر حصاة لغرقت. و وصفها بهذه الصفة من الجريان، لأنها آيتها العظمى، و جعل الصفة موصولا، صلته تجري: فعل مضارع يدل على تجدد ذلك الوصف لها في كل وقت يراد منها. و ذكر مكان تلك الصفة على سبيل التوكيد، إذ من المعلوم أنها لا تجري إلا في البحر. و الألف و اللام فيه للجنس، و أسند الجريان للفلك على سبيل التوسع، و كان لها من ذاتها صفة مقتضية للجري. بِما يَنْفَعُ النَّاسَ : يحتمل أن تكون ما موصولة، أي تجري مصحوبة بالأعيان التي تنفع الناس من أنواع المتاجر و البضائع المنقولة من بلد إلى بلد، فتكون الباء للحال. و يحتمل أن تكون ما مصدرية، أي ينفع الناس في تجاراتهم و أسفارهم للغز و الحج و غيرهما، فتكون الباء للسبب. و اقتصر على ذكر النفع، و إن كانت تجري بما يضر، لأنه ذكرها في معرض الامتنان.
وَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ ماءٍ : أي من جهة السماء. من الأولى لابتداء الغاية تتعلق بأنزل، و في أنزل ضمير نصب عائد على ما، أي و الذي أنزله اللّه من السماء. و من الثانية مع ما بعدها بدل من قوله: مِنَ السَّماءِ ، بدل اشتمال، فهو على نية تكرار العامل، أو لبيان الجنس عند من يثبت لها هذا المعنى، أو للتبعيض، و تتعلق بأنزل. و لا يقال: كيف تتعلق بأنزل من الأولى و الثانية، لأن معنييهما مختلفان. فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها : عطف على صلة ما، الذي هو أنزل بالفاء المقتضية للتعقيب و سرعة النبات، و به عائد على الموصول. و كنى بالإحياء عن ظهور ما أودع فيها من النبات، و بالموت عن استقرار ذلك فيها و عدم ظهوره. و هما كنايتان غريبتان، لأن ما برز منها بالمطر جعل تعالى فيه القوة الغاذية و النامية و المحركة، و ما لم يظهر فهو كامن فيها، كأنه دفين فيها، و هي له قبر.
وَ بَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ : إن قدرت هذه الجملة معطوفة على ما قبلها من الصلتين، احتاجت إلى ضمير يعود على الموصول، لأن الضمير في فيها عائد على الأرض و تقديره: و بث فيها من كل دابة. لكن حذف هذا الضمير، إذا كان مجرورا بالحرف، له شرط، و هو أن يدخل على الموصول، أو الموصوف بالموصول، أو المضاف إلى الموصول حرف جر، مثل ما دخل على الضمير لفظا و معنى، و أن يتحد ما تعلق به الحرفان لفظا و معنى، و أن لا يكون ذلك المجرور العائد على الموصول و جاره في موضع رفع، و أن لا يكون محصورا، و لا في معنى المحصور، و أن يكون متعينا للربط. و هذا الشرط مفقود هنا. قال الزمخشري: فإن قلت قوله: وَ بَثَّ فِيها ، عطف على أنزل أم أحيا؟ قلت: