کتابخانه تفاسیر
البحر المحيط فى التفسير، ج2، ص: 168
الوصية باقية أمر الموصي بإصلاحه، ورد من الجنف إلى النّصف، و إن كانت ماضية أصلحها الموصى إليه بعد موته.
و قيل: هو أن يوصي لولد ابنته، يقصد بها نفع ابنته، و هذا راجع إلى قول طاووس المتقدم.
و إذا فسرنا الخوف بالخشية، فالخوف إنما يصح في أمر مرتبط و الوصية قد وقعت، فكيف يمكن تعليقها بالخوف؟ و الجواب: أن المصلح إذا شاهد الموصي يوصي، فظهرت منه إمارات الجنف أو التعدي بزيادة غير مستحق، أو نقص مستحق، أو عدل عن مستحق، فأصلح عند ظهور الأمارات لأنه لم يقطع بالجنف و الإثم، فناسب أن يعلق بالخوف، لأن الوصية لم تمض بعد و لم تقع، أو علق بالخوف و إن كانت قد وقعت لأنه له أن ينسخها أو يغيرها بزيادة أو نقصان، فلم يصر الجنف أو الإثم معلومين، لأن تجويز الرجوع يمنع من القطع أو علق بالخوف. و إن كانت الوصية استقرت و مات الموصي، يجوز أن يقع بين الورثة و الموصى لهم مصالحة على وجه يزول به الميل و الخطأ، فلم يكن الجنف و لا الإثم مستقرا، فعلق بالخوف. و الجواب الأول أقوى، و من: شرطية، و الجواب: فلا إثم عليه: و مِنْ مُوصٍ متعلق، بخاف، أو بمحذوف تقديره: كائنا من موص، و تكون حالا، إذ لو تأخر لكان صفة، كقوله: جَنَفاً أَوْ إِثْماً فلما تقدم صار حالا، و يكون الخائف في هذين التقديرين، ليس الموصي، و يجوز أن يكون: من، لتبيين جنس الخائف، فيكون الخائف بعض الموصين على حد، من جاءك من رجل فأكرمه، أي: من جاءك من الرجال فالجائي رجل، و الخائف هنا موص.
و المعنى: فمن خاف من الموصي جنفا أو إثما من ورثته و من يوصى له، فأصلح بينهم فلا إثم على الموصي المصلح، و هذا معنى لم يذكره المفسرون، إنما ذكروا أن الموصي مخوف منه لا خائف، و أن الجنف أو الإثم من الموصي لا من ورثته، و لا من يوصى له.
و أمال حمزة خافَ و قرأ هو و الكسائي و أبو بكر: موص، من، وصا و الباقون:
موص، من: أوصى، و تقدم أنهما لغتان.
و قرأ الجمهور: جنفا، بالجيم و النون، و قرأ علي: حيفا، بالحاء و الياء.
و قال أبو العالية: الجنف الجهالة بموضع الوصية، و الإثم: العدول عن موضعها،
البحر المحيط فى التفسير، ج2، ص: 169
و قال عطاء، و ابن زيد: الجنف: الميل، و الإثم أن يكون قد أثم في إيثاره بعض الورثة على بعض، و قال السدي: الجنف: الخطأ، و الإثم العمد.
و أما الحيف فمعناه: البخس، و ذلك بأن يريد أن يعطي بعض الورثة دون بعض قال الفراء: تحيف: مال أي: نقصه من حافاته، و
روي: من حاف في وصيته ألقي في ألوى، و ألوى واد في جهنم.
فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ : الضمير عائد على الموصي و الورثة، أو على الموصى لهما و على الورثة و الموصى لهم على اختلاف الأقاويل التي سبقت، و الظاهر عوده على الموصى لهم، إذ يدل على ذلك لفظ: الموصي، لما ذكر الموصي أفاد مفهوم الخطاب أن هناك موصى له، كما قيل في قوله: وَ أَداءٌ إِلَيْهِ «1» أي: إلى العافي، لدلالة من عفى له، و منه ما أنشده الفراء رحمه اللّه تعالى:
و ما أدري إذا يممت أرضا
أريد الخير أيهما يليني
فقال: أيهما، فأعاد الضمير على الخير و الشر، و إن لم يتقدم ذكر الشر، لكنه تقدم الخير و فيه دلالة على الشر.
و الظاهر أن هذا المصلح هو الوصي، و المشاهد و من يتولى بعد موته ذلك من وال، أو ولي، أو من يأمر بالمعروف فكل هؤلاء يدخل تحت قوله: فَمَنْ خافَ إذا ظهرت لهم أمارات الجنف أو الإثم، و لا وجه لتخصيص الخائف بالوصي، و أما كيفية هذا الإصلاح فبالزيادة أو النقصان، أو كف للعدوان فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ يعني: في تبديل الوصية إذا فعل ذلك لقصد الإصلاح، و الضمير: عليه، عائد على من عاد عليه ضمير: فأصلح، و ضمير: خاف، و هو:
من، و هو: الخائف المصلح.
و قال أبو عبد اللّه محمد بن عمر الرازي، لما ذكر المبدل في أول الآية: و كان هذا من التبديل بين مخالفته للأول، و أنه لا إثم عليه، لأنه رد الوصية إلى العدد، و لما كان المصلح ينقص الوصايا، و ذلك يصعب على الموصى له، أزال الشبهة بقوله: فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ و إن حصل فيه مخالفة لوصية الموصي، و صرف ماله عن من أحب إلى من يكره.
انتهى. و هذا يرجع معناه إلى قوله الأول. و قال أيضا: إن الإصلاح يحتاج إلى الإكثار من
(1) سورة البقرة: 2/ 178.
البحر المحيط فى التفسير، ج2، ص: 170
القول، و قد يتخلله بعض ما لا ينبغي من قول أو فعل، فبين أن ذلك لا إثم فيه إذا كان لقصد الإصلاح، و دلت الآية على جواز الصلح بين المتنازعين إذا خاف من يريد الصلح إفضاء تلك المنازعة إلى أمر محذور في الشرع. انتهى كلامه.
إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ . قيل: غفور لما كان من الخائف، و قيل: للمصلح رحيم حيث رخص، و قيل: غفور للموصي فيما حدث به نفسه من الجنف و الخطأ و العهد و الإثم إذ رجع إلى الحق، رحيم للمصلح.
و قال الراغب: أي متجاوز عن ما عسى أن يسقط من المصلح ما لم يجر.
و قد تضمنت هذه الآيات الشريفة، أن البر ليس هو تولية الوجوه قبل المشرق و المغرب، بل البر هو الإتيان بما كلفه الإنسان من تكاليف الشرع، اعتقادا و فعلا و قولا.
فمن الاعتقاد: الإيمان باللّه، و ملائكته الذين هم وسائط بينه و بين أنبيائه، و كتبه التي نزلت على أيدي الملائكة، و أنبيائه المتقين. تلك الكتب من ملائكته. ثم ذكر ما جاءت به الأنبياء عن اللّه في تلك الكتب، من: إيتاء المال، و إقامة الصلاة، و إيتاء الزكاة، و الإيفاء بالعهد، و الصبر في الشدائد. ثم أخبر أن من استوفى ذلك فهو الصابر المتقي، و لما كان تعالى قد ذكر قبل ما حلل و ما حرم، ثم أتبع ذلك بمن أخذ مالا من غير حله، وعده بالنار، و أشار بذلك إلى جميع المحرمات من الأموال، ثم ذكر من اتصف بالبر التام و أثنى عليهم بالصفات الحميدة التي انطووا عليها، أخذ تعالى يذكر ما حرم من الدماء، و يستدعي صونها، و كان تقديم ذكر المأكول لعموم البلوى بالأكل، فشرع القصاص، و لم يخرج من وقع منه القتل و اقتص منه عن الإيمان، ألا تراه قد ناداه باسم الإيمان و فصل شيئا من المكافأة فقال: الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَ الْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَ الْأُنْثى بِالْأُنْثى «1» ثم أخبر ذلك أنه إذا وقع عفو من الولي على دية فليتبع الولي بالمعروف، و ليؤدي الجاني بالإحسان ليزرع بذلك الود بين القاتل و الولي، و يزيل الإحن، لأن مشروعية العفو تستدعي على التآلف و التحاب و صفاء البواطن.
ثم ذكر أن ذلك تخفيف منه تعالى، إذ فيه صون نفس القاتل بشيء من عرض الدنيا، ثم توعد من اعتدى بعد ذلك، ثم أخبر أن في مشروعية القصاص حياة، إذ من علم أنه مقتول بمن قتل، و كان عاقلا، منعه ذلك من الإقدام على القتل، إذ في ذلك إتلاف نفس
(1) سورة البقرة: 2/ 178.
البحر المحيط فى التفسير، ج2، ص: 171
المقتول و إتلاف نفس قاتله، فيصير بمعرفته بالقصاص متحرزا من أن يقتل فيقتل، فيحيي بذلك من أراد قتله و هو، فكان ذلك سببا لحياتيهما.
ثم ذكر تعالى مشروعية الوصية لمن حضره الموت، و ذكر أن الوصية للوالدين و الأقربين، و توعد من بدل الوصية بعد ما علمها، ثم ذكر انه لا إثم على من أصلح بين الموصى إليهم إذا كان جنفا أو إثما من الموصى، و أن ذلك لا يعد من التبديل الذي يترتب عليه الإثم، فجاءت هذه الآيات حاوية لما يطلب من المكلف من بدء حاله و هو: الإيمان باللّه، و ختم حاله و هو: الوصية عند مفارقة هذا الوجود، و ما تخلل بينهما مما يعرض من مبارّ الطاعات، و هنات المعاصي، من غير استيعاب لأفراد ذلك، بل تنبيها على أفضل الأعمال بعد الإيمان، و هو: إقامة الصلاة و ما بعدها و على أكبر الكبائر بعد الشرك، و هو:
قتل النفس، فتعالى من كلامه فصل، و حكمه عدل.
[سورة البقرة (2): الآيات 183 الى 188]
البحر المحيط فى التفسير، ج2، ص: 172
الصيام و الصوم: مصدران لصام، و العرب تسمي كل ممسك صائما، و منه الصوم في الكلام إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً «1» أي سكوتا في الكلام، و صامت الريح: أمسكت عن الهبوب، و الدابة: أمسكت عن الأكل و الجري، و قال النابغة الذبياني:
خيل صيام و خيل غير صائمة
تحت العجاج و أخرى تعلك اللجما
أي: ممسكة عن الجري. و تسمى الدابة التي لا تدور: الصائمة، قال الراجز.
و البكرات شرهن الصائمة و قالوا: صام النهار: ثبت حره في وقت الظهيرة و اشتد، و قال.
ذمول إذا صام النهار و هجرا و قال:
حتى إذا صام النهار و اعتدل
و مال للشمس لعاب فنزل
و مصام النجوم، إمساكها عن اليسر و منه.
كأن الثريا علقت في مصامها فهذا مدلول الصوم من اللغة. و أما الحقيقة الشرعية فهو: إمساك عن أشياء مخصوصة في وقت مخصوص و يبين في الفقه.
الطاقة، و الطوق: القدرة و الاستطاعة، و يقال: طاق و أطاق كذا، أي: استطاعه و قدر عليه، قال أبو ذنب:
فقلت له احمل فوق طوقك إنها
مطبعة من يأتها لا يضيرها
الشهر مصدر: شهر الشيء يشهره، أظهره و منه الشهرة، و به سمي الشهر، و هو:
(1) سورة مريم: 19/ 26.
البحر المحيط فى التفسير، ج2، ص: 173
المدة الزمانية التي يكون مبدؤ الهلال فيها خافيا إلى أن يستسر، ثم يطلع خافيا. سمي بذلك لشهرته في حاجة الناس إليه في المعاملات و غيرها من أمورهم و قال الزجاج: الشهر الهلال. قال.
و الشهر مثل قلامة الظفر سمي بذلك لبيانه، و قيل: سمي الشهر شهرا باسم الهلال إذا أهل سمي شهرا، و تقول العرب: رأيت الشهر أي: هلاله. قال ذو الرمة (شعر).
ترى الشهر قبل الناس و هو نحيل و يقال: أشهرنا، أي: أتى علينا شهر، و قال الفراء: لم أسمع منه فعلا إلّا هذا، و قال الثعلبي: يقال شهر الهلال إذا طلع، و يجمع الشهر قلة على: أفعل، و كثرة على: فعول، و هما مقيسان فيه.
رمضان علم على شهر الصوم، و هو علم جنس، و يجمع على: رمضانات و أرمضة، و علقة هذا الاسم من مدة كان فيها في الرمضى، و هو: شدة الحرة، كما سمي الشهر ربيعا من مدّة الربيع، و جمادى من مدّة الجمود، و يقال: رمض الصائم يرمض: احترق جوفه من شدة العطش، و رمضت الفصال: أحرق الرمضاء أخفافها فبركت من شدّة الحر، و انزوت إلى ظلّ أمهاتها، و يقال: أرمضته الرمضاء: أحرقته، و أرمضني الأمر.
و قيل: سمي رمضان لأنه يرمض الذنوب، أي: يحرقها بالأعمال الصالحة، و قيل:
لأن القلوب تحترمنّ الموعظة فيه و الفكرة في أمر الآخرة، و قيل: من رمضت النصل: رققته بين حجرين ليرق، و منه: نصل رميض و مرموض، عن ابن السكيت. و كانوا يرمضون أسلحتهم في هذا الشهر ليحاربوا بها في شوّال قبل دخول الأشهر الحرام، و كان هذا الشهر في الجاهلية يسمى: ناتقا أنشد المفضل.
و في ناتق أحلت لدى حرمة الوغى
و ولت على الأدبار فرسان خثعما
و قال الزمخشري: الرمضان، مصدر رمض إذا احترق من الرمضاء. انتهى. و يحتاج في تحقيق أنه مصدر إلى صحة نقل لأن فعلانا ليس مصدر فعل اللازم، بل إن جاء فيه ذلك كان شاذا، و الأولى أن يكون مرتجلا لا منقولا.
و قيل: هو مشتق من الرمض، و هو مطر يأتي قبل الخريف يطهر الأرض من الغبار.
البحر المحيط فى التفسير، ج2، ص: 174
القرآن: مصدر قرأ قرآنا. قال حسان، رضي اللّه عنه.
محوا باسمك عنوان السجود به
يقطّع الليل تسبيحا و قرآنا
أي: و قراءة و أطلق على ما بين الدفتين من كلام اللّه عزّ و جلّ، و صار علما على ذلك، و هو من إطلاق المصدر على اسم المفعول في الأصل، و معنى: قرآن، بالهمز:
الجمع لأنه يجمع السور، كما قيل في القرء، و هو: إجماع الدّم في الرحم أولا، لأن القارئ يلقيه عند القراءة من قول العرب: ما قرأن هذه الناقة سلاقط: أي: ما رمت به، و من لم يهمز فالأظهر أن يكون ذلك من باب النقل و الحذف، أو تكون النون أصلية من:
قرنت الشيء إلى الشيء: ضممته، لأن ما فيه من السور و الآيات و الحروف مقترن بعضها إلى بعض. أو لأن ما فيه من الحكم و الشرائع كذلك، أو ما فيه من الدلائل و من القرائن، لأن آياته يصدّق بعضها بعضا، و من زعم من: قريت الماء في الحوض، أي: جمعته، فقوله فاسد لاختلاف المادتين.
السفر: مأخوذ من قولهم: سفرت المرأة إذا ألقت خمارها، و المصدر السفور. قال الشاعر.
و كنت إذا ما جئت ليلى تبرقعت
فقد رابني منها الغداة سفورها
و تقول: سفر الرجل ألقى عمامته، و أسفر الوجه، و الصبح أضاء. الأزهري سمي مسافرا لكشف قناع الكنّ عن وجهه، و بروزه للأرض الفضاء، و السفر، بسكون الفاء:
المسافرون، و هو اسم جمع: كالصحب و الركب، و السفر من الكتب: واحد الأسفار لأنه يكشف عما تضمنة.
اليسر: السهولة، يسّر: سهّل، و يسر: سهل، و أيسر: استغنى، و يسر، من الميسر، و هو: قمار، معروف. و قال علقمة:
لا ييسرون بخيل قد يسرت بها
و كل ما يسر الأقوام مغروم
و سميت اليد اليسرى تفاؤلا، أو لأنه يسهل بها الأمر لمعاونتها اليمنى.
العسر: الصعوبة و الضيق، و منه أعسر اعسارا، و ذو عسرة، أي: ضيق.
الإكمال: الإتمام.
و الإجابة: قد يراد بها السماع، و