کتابخانه تفاسیر
البحر المديد فى تفسير القرآن المجيد، ج1، ص: 49
بسم اللّه الرّحمن الرّحيم (و صلى اللّه على سيدنا محمد و على آله و صحبه و سلم) قال الشيخ الإمام الحبر الهمام، العارف الرباني و القطب الصمداني، قدوة السالكين و منار الواصلين، بحر العرفان، و مشرق شمس العيان، مهيع الطريقة، الجامع بين الشريعة و بحر الحقيقة، أبو العباس أحمد بن محمد بن عجيبة الحسنى- رضى اللّه عنه و أرضاه- آمين:
نحمدك يا من تجلّى لعباده فى كلامه، بكمال بهائه و جماله، و فتق ألسنة العلماء النحارير لاستخراج درره و لآلئه، و فجّر قلوبهم بينابيع الحكم المؤيدة بأصوله و مبانيه، و استفادوا عند غوصهم فى تياره من فرائده و مثانيه، فدحضوا بآياته الباهرة، و حججه الظاهرة القاهرة شبه من يناويه و يعانيه، و الكلّ معترف بالتقصير، مغترف على حسب الفهم و التيسير، من بحر أسراره و معانيه، فهو البحر الطام الذي لا يدرك له قعر، و الروض المونق الذي لا يعدم منه زهر و لا نور، و كيف لا، و هو كلام مولانا العالم بالخفيات، و بما كان و ما هو الآن و ما هو آت؟!.
و الصلاة و السلام على سيدنا و مولانا محمد، مظهر الرحمات، المبعوث بخوارق العادات و لوامع البينات، و على آله و أصحابه أولى النّدى و السماحة، و جبال اليقين فى اشتداد الأزمات و تفاقم المعضلات.
و بعد ... فإن علم تفسير القرآن من أجلّ العلوم، و أفضل ما ينفق فيه نتائج الأفكار و قرائح الفهوم، و لكن لا يتقدم لهذا الخطر الكبير إلا العالم النّحرير، الذي رسخت أقدامه فى العلوم الظاهرة، و جالت أفكاره فى معانى القرآن الباهرة، بعد أن تضلّع من العلم الظاهر، عربية و تصريفا و لغة و بيانا، و فقها و حديثا و تاريخا، يكون أخذ ذلك من أفواه الرجال، ثم غاص فى علوم التصوف ذوقا و حالا و مقاما، بصحبة أهل الأذواق من أهل الكمال، و إلا فسكوته عن هذا الأمر العظيم أسلم، و اشتغاله بما يقدر عليه من علم الشريعة الظاهرة أتم.
و اعلم أن القرآن العظيم له ظاهر لأهل الظاهر، و باطن لأهل الباطن، و تفسير أهل الباطن لا يذوقه إلا أهل الباطن، لا يفهمه غيرهم و لا يذوقه سواهم، و لا يصح ذكره إلا بعد تقرير الظاهر، ثم يشير إلى علم الباطن بعبارة رقيقة و إشارة دقيقة، فمن لم يبلغ فهمه لذوق تلك الأسرار فليسلّم، و لا يبادر بالإنكار؛ فإنّ علم الأذواق من وراء طور العقول، و لا يدرك بتواتر النقول.
قال فى لطائف المنن: اعلم أن تفسير هذه الطائفة- يعنى الصوفية- لكلام اللّه و كلام رسوله صلى اللّه عليه و سلّم بالمعاني الغريبة ليس إحالة للظاهر عن ظاهره، و لكن ظاهر الآية مفهوم منه ما جاءت الآية له و دلت عليه فى حرف اللسان،
البحر المديد فى تفسير القرآن المجيد، ج1، ص: 50
و ثمّ أفهام باطنة تفهم عند الآية و الحديث لمن فتح اللّه قلبه، و قد جاء أنه- عليه الصلاة و السلام- قال: «لكل آية ظاهر و باطن و حدّ و مطّلع». فلا يصدّنك عن تلقى المعاني الغريبة منهم أن يقول لك ذو جدل و معارضة: هذا إحالة لكلام اللّه- عز و جل- و كلام رسوله صلى اللّه عليه و سلّم فليس بإحالة، و إنما يكون إحالة لكلام اللّه لو قالوا: لا معنى للآية إلا هذا، و هم لا يقولون ذلك. بل يقرّون الظواهر على ظواهرها و مراداتها و موضوعاتها، و يفهمون عن اللّه ما أفهمهم. ه.
و قال سعد الدين فى شرح عقائد النسفي- بعد إبطال الإلحاد-: (و أمّا ما يذهب إليه بعض المحققين من أن النصوص على ظواهرها، و مع ذلك ففيها إشارات خفية إلى حقائق تنكشف لأرباب السلوك، يمكن التطبيق بينها و بين الظواهر المرادة، فهو من كمال الإيمان و محض العرفان) و قوله: يمكن التطبيق ... إلخ، أي: يمكن أن يشار إليها فى باطن الخطاب بحيث لا ينبو عنها سرّ الخطاب، و لا يبعد اللفظ عنها كل البعد حتى يكون تحريفا.
و قال الشيخ زرّوق رضى الله عنه: نظر الصوفي أخص من نظر المفسر و صاحب فقه الحديث، لأن كلا منهما يعتبر الحكم و المعنى ليس إلا و هو يزيد بطلب الإشارة بعد إثبات ما أثبتاه. و إلّا فهو باطني خارج عن الشريعة فضلا عن المتصوفة. و اللّه أعلم. ه.
و قوله عليه الصلاة و السلام: «لكل آية ظاهر و باطن و حدّ و مطّلع» فالظاهر لمن اعتنى بظاهر اللفظ، كالنحاة و أهل اللغة و التصريف، و الباطن لمن اعتنى بمعنى اللفظ، و ما دلّ عليه الكلام من الأمر و النهى و القصص و الأخبار و التوحيد، و غير ذلك من علوم القرآن، و هو نظر المفسرين. و الحدّ لمن اعتنى باستنباط الأحكام منه، و هم الفقهاء، فهم ينتهون إلى ما يدل عليه اللفظ و سيق لأجله، دون زيادة عليه. و المطّلع لأهل الحقائق من أكابر الصوفية، لأنهم يطلعون من ظاهر الآية إلى باطنها، فيكشف لهم عن أسرار و علوم و غوامض، تتجلى لهم عند استعمال الفكرة فيها.
قال فى الصّحاح: فى الحديث: «من هول المطّلع»، شبّه ما أشرف عليه من أمر الآخرة بالمطّلع و هو المأتى.
يقال: أين مطلع هذا الأمر؟ أي: مأتاه، و هو موضع الاطلاع من إشراف إلى انحدار. ه؛ لأن أهل الحقائق يشرفون من ظاهر الآية إلى أسرار باطنها، و يغوصون فى لجج بحرها. و اللّه تعالى أعلم.
هذا ... و قد ندبنى شيخى العارف الرباني سيدى محمد البوزيدى الحسنى، و كذلك شيخه القطب الجامع شيخ المشايخ مولاى العربي الدرقاوى الحسنى، أن أضع تفسيرا يكون جامعا بين تفسير أهل الظاهر و إشارة أهل الباطن، فأجبت سؤالهم و أسعفت طلبتهم، رجاء أن يعمّ به الانتفاع، و يكون ممتعا للقلوب و الأسماع. مقدّما فى كل آية ما يتعلق بمهمّ العربية و اللغة، ثم بمعاني الألفاظ الظاهرة، ثم بالإشارات الباطنة. متوسطا فى ذلك بين الإطناب
البحر المديد فى تفسير القرآن المجيد، ج1، ص: 51
و الاختصار. منتظرا فى ذلك كله ما يفتح علىّ من خزائن الكريم الغفار .. و سميته (البحر المديد فى تفسير القرآن المجيد) نسأل اللّه أن يكسوه جلباب القبول، و أن يبلغ فيه القصد المأمول، إنه على ما يشاء قدير، و بالإجابة جدير، و لا حول و لا قوة إلا باللّه العلى العظيم. و صلى اللّه على سيدنا محمد و آله و صحبه و سلم.
و قد ذكرت فى تفسير الفاتحة الكبير عشر مقدمات تتعلق بأصول العلوم و تفاريعها، و علوم القرآن و أصل منابعها، فلينظرها من أرادها. و باللّه التوفيق.
البحر المديد فى تفسير القرآن المجيد، ج1، ص: 52
سورة الفاتحة
مكية. و لها عشرة أسماء: الفاتحة و الوافية و الكافية و الشافية، و السبع المثاني؛ لأنها سبع آيات عند الشافعي منها البسملة، و أسقطها مالك و جعل السابعة: غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَ لَا الضَّالِّينَ الآية، أو تثنى فى كل صلاة، أو لاشتمالها على الثناء على اللّه. و أمّ القرآن؛ لأنها مفتتحه و مبدؤه، أو لأنها اشتملت على ما فيه إجمالا على ما يأتى، و سورة الحمد و الشكر، و سورة تعليم المسألة، و سورة الصلاة لتكريرها فيها، و أساس القرآن؛ لأنها أصله و مبدؤه و يبنى سائره عليها.
[سورة الفاتحة (1): آية 1]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (1)
و اتفقت المصاحف على افتتاحها ب بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ و اختلف الأئمة فيها، فقال مالك: ليست آية لا من الفاتحة و لا من غيرها إلا من النمل خاصة، و قال الشافعي: هى آية من الفاتحة فقط، و قال ابن عباس: هى آية من كل سورة.
فحجة مالك: ما فى الصحيح عنه صلى اللّه عليه و سلّم قال: «أنزلت علىّ سورة ليس فى التوراة و لا فى الإنجيل و لا فى الفرقان مثلها، ثم قال: الحمد للّه رب العالمين) و لم يذكر البسملة. و كذلك ما ورد فى الصحيح أيضا أن اللّه يقول: «قسمت الصّلاة بينى و بين عبدى نصفين. يقول العبد: الحمد للّه ربّ العالمين» فبدأ بها دون البسملة.
و حجة الشافعي: ما ورد فى الصحيح «أن رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلّم كان يقرأ بسم اللّه الرحمن الرحيم. الحمد للّه رب العالمين». و حجة ابن عباس: ثبوت البسملة مع كل سورة فى المصحف، مع تحرّى الصحابة ألا يدخلوا فى المصحف غير كلام اللّه، و قالوا: ما بين الدفّتين كلام اللّه.
و إذا ابتدأت أوّل سورة بسملت إلا براءة، و سيأتى الكلام عليها. و إذا ابتدأت جزء سورة فأنت مخير عند الجمهور.
و إذا أتممت سورة و ابتدأت أخرى فاختلف القرّاء فى البسملة و تركها.
و أما حكمها فى الصلاة، فقال مالك: مكروهة فى الفرض دون النفل، و قال الشافعي: فرض تبطل الصلاة بتركها، فيبسمل- عنده- جهرا فى الجهر و سرا فى السر، و عند أبى حنيفة كذلك إلا أنه يسرّها مطلقا، و حجة مالك أنها ليست بآية: ما فى الحديث الصحيح عن أنس أنه قال: (صلّيت خلف النبي صلى اللّه عليه و سلّم و أبى بكر و عمر و عثمان، فكانوا يستفتحون بالحمد للّه رب العالمين) لا يذكرون البسملة أصلا. و حجة الشافعي أنها عنده آية: ما ورد فى الحديث من قراءتها كما تقدم.
البحر المديد فى تفسير القرآن المجيد، ج1، ص: 53
و لم تكن البسملة قبل الإسلام، فكانوا يكتبون: باسمك اللهم، حتى نزلت بِسْمِ اللَّهِ مَجْراها فكتبوا بِسْمِ اللَّهِ* حتى نزل: ... أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ فكتبوا: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ* حتى نزل: ... وَ إِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ، فكتبوها.
و حذفت الألف لكثرة الاستعمال، و الباء متعلقة بمحذوف، اسم عند البصريين، أي: ابتدائى كائن بسم اللّه، فموضعها رفع. و فعل عند الكوفيين، أي: أبدأ أو أتلو. فيقدّر كل واحد ما جعلت البسملة مبدأ له، فموضعها نصب، و يقدر مؤخرا لإفادة الحصر و الاختصاص. و هو مشتق من السّموّ عند البصريين، فلامه محذوفة، و عند الكوفيين من السّمة، أي: العلامة، ففاؤه محذوفة، و دليل البصريين: التصغير و التكسير، فقالوا: أسماء، و لم يقولوا أوسام، و قالوا:
سمى، و لم يقولوا: و سيم.
و (اللّه) علم على الذات الواجبة الوجود، المستحق لجميع المحامد، و هل هو مشتق أو مرتجل؟ قولان يأتى الكلام عليهما فى (الحمد للّه)، و كذلك (الرحمن الرحيم).
قال الحق جل جلاله:
[سورة الفاتحة (1): الآيات 2 الى 4]
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (2) الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (3) مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4)
قلت: (الحمد) مبتدأ، و (للّه) خبر، و أصله النصب، و قرئ به، و الأصل: أحمد اللّه حمدا، و إنما عدل عنه إلى الرفع ليدل على عموم الحمد و ثباته، دون تجدده و حدوثه، و فيه تعليم اللفظ مع تعريض الاستغناء. أي: الحمد للّه و إن لم تحمدوه. و لو قال (أحمد اللّه) لما أفاد هذا المعنى، و هو من المصادر التي تنصب بأفعال مضمرة لا تكاد تذكر معها. و التعريف للجنس؛ أي: للحقيقة من حيث هى، من غير قيد شيوعها، و معناه: الإشارة إلى ما يعرفه كل أحد أن الحمد ما هو. أو للاستغراق؛ إذ الحمد فى الحقيقة كلّه للّه؛ إذ ما من خير إلا و هو موليه بواسطة و بغير واسطة. كما قال: وَ ما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ و قيل: للعهد، و المعهود حمده تعالى نفسه فى أزله.
و قرئ (الحمد للّه) بإتباع الدال للام «1» ، و بالعكس «2» ، تنزيلا لهما من حيث إنهما يستعملان معا منزلة كلمة واحدة.
و معناه فى اللغة: الثناء بالجميل على قصد التعظيم و التبجيل، و فى العرف: فعل ينبئ عن تعظيم المنعم بسبب كونه منعما. و الشكر فى اللغة: فعل يشعر بتعظيم المنعم، فهو مرادف للحمد العرفي، و فى العرف: صرف
(1) فى الكسر- و هى قراءة شاذة.
(2) أي: اتباع اللام الدال فى الضم، و هى قراءة شاذة أيضا.
البحر المديد فى تفسير القرآن المجيد، ج1، ص: 54
العبد جميع ما أنعم اللّه عليه من السمع و البصر إلى ما خلق لأجله و أعطاه إياه. و انظر شرحنا الكبير للفاتحة فى النّسب التي بيناها نظما و نثرا.
و (اللّه) اسم مرتجل جامد، و الألف و اللام فيه لازمة لا للتعريف، قال الواحدي: اسم تفرّد به الباري- سبحانه- يجرى فى وصفه مجرى الأسماء الأعلام، لا يعرف له اشتقاق، و قال الأقليشى: إن هذا الاسم مهما لم يكن مشتقا كان دليلا على عين الذات، دون أن ينظر فيها إلى صفة من الصفات، و ليس باسم مشتق من صفة، كالعالم و الحق و الخالق و الرازق، فالألف و اللام على هذا فى (اللّه) من نفس الكلمة، كالزاى من زيد، و ذهب إلى هذا جماعة، و اختاره الغزالي و قال: كل ما قيل فى اشتقاقه فهو تعسّف.
و قيل: مشتق من التّألّه و هو التعبد، و قيل: من الولهان، و هو الحيرة؛ لتحيّر العقول فى شأنه. و قيل: أصله:
الإله، ثم حذفت الهمزة و نقلت حركتها إلى اللام، ثم وقع الإدغام و فخمت للتعظيم، إلا إذا كان قبلها كسر.
و (رب) نعت (للّه)، و هو فى الأصل: مصدر بمعنى التربية، و هو تبليغ الشيء إلى كماله شيئا فشيئا، ثم وصف به للمبالغة كالصوم و العدل.
و قيل: هو وصف من ربّه يربّه، و أصله: ربب ثم أدغم، سمى به المالك؛ لأنه يحفظ ما يملكه و يربيه، و لا يطلق على غيره تعالى إلا بقيد كقوله تعالى: ارْجِعْ إِلى رَبِّكَ . قال ابن جزىّ: و معانيه أربعة: الإله و السيد و المالك و المصلح، و كلها تصلح فى رب العالمين، إلا أن الأرجح فى معناه: الإله؛ لاختصاصه باللّه تعالى.
و (العالمين) جمع عالم، و العالم: اسم لما يعلم به، كالخاتم لما يختم به، و الطابع لما يطبع به. غلب فيما يعلم به الصانع. و هو كل ما سواه من الجواهر و الأعراض، فإنها لإمكانها و افتقارها إلى مؤثّر واجب لذاته، تدل على وجوده، و إنما جمع ليشمل ما تحته من الأجناس المختلفة، و غلّب العقلاء منهم فجمع بالياء و النون كسائر أوصافهم، فهو جمع، لا اسم جمع، خلافا لابن مالك.
و قيل: اسم وضع لذوى العلم من الملائكة و الثقلين، و تناوله لغيرهم على سبيل الاستتباع، و قيل: عنى به هذا الناس، فإن كل واحد منهم عالم، حيث إنه يشتمل على نظائر ما فى العالم الكبير، و لذا سوّى بين النظر فيهما فقال:
وَ فِي أَنْفُسِكُمْ أَ فَلا تُبْصِرُونَ .
البحر المديد فى تفسير القرآن المجيد، ج1، ص: 55
قلت: و إليه يشير قول الشاعر:
يا تائها فى مهمه عن سرّه
انظر تجد فيك الوجود بأسره
أنت الكمال طريقة و حقيقة
يا جامعا سرّ الإله بأسره
و الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ اسمان بنيا للمبالغة، من رحم، كالغضبان من غضب، و العليم من علم، و الرحمة فى اللغة: رقّة القلب، و انعطاف يقتضى التفضل و الإحسان، و منه الرّحم؛ لانعطافها على ما فيها. و أسماء اللّه تعالى إنما تؤخذ باعتبار الغايات، التي هى أفعال، دون المبادئ التي هى انفعالات. و (الرحمن) أبلغ من (الرحيم)؛ لأن زيادة المبنى تدل على زيادة المعنى، كقطّع و قطع، و ذلك إنما يؤخذ تارة باعتبار الكمية، و أخرى باعتباره الكيفية.
فعلى الأول: قيل: يا رحمن الدنيا؛ لأنه يعمّ المؤمن و الكافر، و رحيم الآخرة؛ لأنه يختص بالمؤمن، و على الثاني قيل: يا رحمن الدنيا و الآخرة و رحيم الدنيا؛ لأن النعم الأخروية كلها جسام، و أما النعم الدنيوية فجليلة و حقيرة.
و إنما قدّم (الرحمن)- و القياس الترقي من الأدنى إلى الأعلى- لتقدّم رحمة الدنيا، و لأنه صار كالعلم من حيث إنه لا يوصف به غيره؛ لأن معناه المنعم الحقيقي البالغ فى الرحمة غايتها، و ذلك لا يصدق على غيره تعالى.
انظر البيضاوي. و سيأتى الكلام عليهما فى المعنى.
و (ملك) نعت لما قبله، قراءة الجماعة بغير ألف من (الملك) بالضم، و قرأ عاصم و الكسائي بالألف، من (الملك) بالكسر، و التقدير على هذا: مالك مجئ يوم الدين، أو مالك الأمر يوم الدين. و قراءة الجماعة أرجح، لثلاثة أوجه:
الأول: أن الملك أعظم من مالك، إذ قد يوصف كل أحد بالمالك لماله، و أما الملك فهو سيد الناس، و الثاني: قوله:
وَ لَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ ، و الثالث: أنها لا تقتضى حذفا، و الحذف خلاف الأصل «1» .
و (يوم الدين) ظرف مضاف إلى ما قبله على طريق الاتساع، و أجرى الظرف مجرى المفعول به، و المعنى على الظرفية، أي: الملك فى يوم الدين، أو ملك الأمر يوم الدين، فيكون فيه حذف. و قد رويت القراءتان- أي:
القصر و المد- عن النبي صلى اللّه عليه و سلّم.