کتابخانه تفاسیر
البحر المديد فى تفسير القرآن المجيد، ج1، ص: 53
و لم تكن البسملة قبل الإسلام، فكانوا يكتبون: باسمك اللهم، حتى نزلت بِسْمِ اللَّهِ مَجْراها فكتبوا بِسْمِ اللَّهِ* حتى نزل: ... أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ فكتبوا: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ* حتى نزل: ... وَ إِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ، فكتبوها.
و حذفت الألف لكثرة الاستعمال، و الباء متعلقة بمحذوف، اسم عند البصريين، أي: ابتدائى كائن بسم اللّه، فموضعها رفع. و فعل عند الكوفيين، أي: أبدأ أو أتلو. فيقدّر كل واحد ما جعلت البسملة مبدأ له، فموضعها نصب، و يقدر مؤخرا لإفادة الحصر و الاختصاص. و هو مشتق من السّموّ عند البصريين، فلامه محذوفة، و عند الكوفيين من السّمة، أي: العلامة، ففاؤه محذوفة، و دليل البصريين: التصغير و التكسير، فقالوا: أسماء، و لم يقولوا أوسام، و قالوا:
سمى، و لم يقولوا: و سيم.
و (اللّه) علم على الذات الواجبة الوجود، المستحق لجميع المحامد، و هل هو مشتق أو مرتجل؟ قولان يأتى الكلام عليهما فى (الحمد للّه)، و كذلك (الرحمن الرحيم).
قال الحق جل جلاله:
[سورة الفاتحة (1): الآيات 2 الى 4]
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (2) الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (3) مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4)
قلت: (الحمد) مبتدأ، و (للّه) خبر، و أصله النصب، و قرئ به، و الأصل: أحمد اللّه حمدا، و إنما عدل عنه إلى الرفع ليدل على عموم الحمد و ثباته، دون تجدده و حدوثه، و فيه تعليم اللفظ مع تعريض الاستغناء. أي: الحمد للّه و إن لم تحمدوه. و لو قال (أحمد اللّه) لما أفاد هذا المعنى، و هو من المصادر التي تنصب بأفعال مضمرة لا تكاد تذكر معها. و التعريف للجنس؛ أي: للحقيقة من حيث هى، من غير قيد شيوعها، و معناه: الإشارة إلى ما يعرفه كل أحد أن الحمد ما هو. أو للاستغراق؛ إذ الحمد فى الحقيقة كلّه للّه؛ إذ ما من خير إلا و هو موليه بواسطة و بغير واسطة. كما قال: وَ ما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ و قيل: للعهد، و المعهود حمده تعالى نفسه فى أزله.
و قرئ (الحمد للّه) بإتباع الدال للام «1» ، و بالعكس «2» ، تنزيلا لهما من حيث إنهما يستعملان معا منزلة كلمة واحدة.
و معناه فى اللغة: الثناء بالجميل على قصد التعظيم و التبجيل، و فى العرف: فعل ينبئ عن تعظيم المنعم بسبب كونه منعما. و الشكر فى اللغة: فعل يشعر بتعظيم المنعم، فهو مرادف للحمد العرفي، و فى العرف: صرف
(1) فى الكسر- و هى قراءة شاذة.
(2) أي: اتباع اللام الدال فى الضم، و هى قراءة شاذة أيضا.
البحر المديد فى تفسير القرآن المجيد، ج1، ص: 54
العبد جميع ما أنعم اللّه عليه من السمع و البصر إلى ما خلق لأجله و أعطاه إياه. و انظر شرحنا الكبير للفاتحة فى النّسب التي بيناها نظما و نثرا.
و (اللّه) اسم مرتجل جامد، و الألف و اللام فيه لازمة لا للتعريف، قال الواحدي: اسم تفرّد به الباري- سبحانه- يجرى فى وصفه مجرى الأسماء الأعلام، لا يعرف له اشتقاق، و قال الأقليشى: إن هذا الاسم مهما لم يكن مشتقا كان دليلا على عين الذات، دون أن ينظر فيها إلى صفة من الصفات، و ليس باسم مشتق من صفة، كالعالم و الحق و الخالق و الرازق، فالألف و اللام على هذا فى (اللّه) من نفس الكلمة، كالزاى من زيد، و ذهب إلى هذا جماعة، و اختاره الغزالي و قال: كل ما قيل فى اشتقاقه فهو تعسّف.
و قيل: مشتق من التّألّه و هو التعبد، و قيل: من الولهان، و هو الحيرة؛ لتحيّر العقول فى شأنه. و قيل: أصله:
الإله، ثم حذفت الهمزة و نقلت حركتها إلى اللام، ثم وقع الإدغام و فخمت للتعظيم، إلا إذا كان قبلها كسر.
و (رب) نعت (للّه)، و هو فى الأصل: مصدر بمعنى التربية، و هو تبليغ الشيء إلى كماله شيئا فشيئا، ثم وصف به للمبالغة كالصوم و العدل.
و قيل: هو وصف من ربّه يربّه، و أصله: ربب ثم أدغم، سمى به المالك؛ لأنه يحفظ ما يملكه و يربيه، و لا يطلق على غيره تعالى إلا بقيد كقوله تعالى: ارْجِعْ إِلى رَبِّكَ . قال ابن جزىّ: و معانيه أربعة: الإله و السيد و المالك و المصلح، و كلها تصلح فى رب العالمين، إلا أن الأرجح فى معناه: الإله؛ لاختصاصه باللّه تعالى.
و (العالمين) جمع عالم، و العالم: اسم لما يعلم به، كالخاتم لما يختم به، و الطابع لما يطبع به. غلب فيما يعلم به الصانع. و هو كل ما سواه من الجواهر و الأعراض، فإنها لإمكانها و افتقارها إلى مؤثّر واجب لذاته، تدل على وجوده، و إنما جمع ليشمل ما تحته من الأجناس المختلفة، و غلّب العقلاء منهم فجمع بالياء و النون كسائر أوصافهم، فهو جمع، لا اسم جمع، خلافا لابن مالك.
و قيل: اسم وضع لذوى العلم من الملائكة و الثقلين، و تناوله لغيرهم على سبيل الاستتباع، و قيل: عنى به هذا الناس، فإن كل واحد منهم عالم، حيث إنه يشتمل على نظائر ما فى العالم الكبير، و لذا سوّى بين النظر فيهما فقال:
وَ فِي أَنْفُسِكُمْ أَ فَلا تُبْصِرُونَ .
البحر المديد فى تفسير القرآن المجيد، ج1، ص: 55
قلت: و إليه يشير قول الشاعر:
يا تائها فى مهمه عن سرّه
انظر تجد فيك الوجود بأسره
أنت الكمال طريقة و حقيقة
يا جامعا سرّ الإله بأسره
و الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ اسمان بنيا للمبالغة، من رحم، كالغضبان من غضب، و العليم من علم، و الرحمة فى اللغة: رقّة القلب، و انعطاف يقتضى التفضل و الإحسان، و منه الرّحم؛ لانعطافها على ما فيها. و أسماء اللّه تعالى إنما تؤخذ باعتبار الغايات، التي هى أفعال، دون المبادئ التي هى انفعالات. و (الرحمن) أبلغ من (الرحيم)؛ لأن زيادة المبنى تدل على زيادة المعنى، كقطّع و قطع، و ذلك إنما يؤخذ تارة باعتبار الكمية، و أخرى باعتباره الكيفية.
فعلى الأول: قيل: يا رحمن الدنيا؛ لأنه يعمّ المؤمن و الكافر، و رحيم الآخرة؛ لأنه يختص بالمؤمن، و على الثاني قيل: يا رحمن الدنيا و الآخرة و رحيم الدنيا؛ لأن النعم الأخروية كلها جسام، و أما النعم الدنيوية فجليلة و حقيرة.
و إنما قدّم (الرحمن)- و القياس الترقي من الأدنى إلى الأعلى- لتقدّم رحمة الدنيا، و لأنه صار كالعلم من حيث إنه لا يوصف به غيره؛ لأن معناه المنعم الحقيقي البالغ فى الرحمة غايتها، و ذلك لا يصدق على غيره تعالى.
انظر البيضاوي. و سيأتى الكلام عليهما فى المعنى.
و (ملك) نعت لما قبله، قراءة الجماعة بغير ألف من (الملك) بالضم، و قرأ عاصم و الكسائي بالألف، من (الملك) بالكسر، و التقدير على هذا: مالك مجئ يوم الدين، أو مالك الأمر يوم الدين. و قراءة الجماعة أرجح، لثلاثة أوجه:
الأول: أن الملك أعظم من مالك، إذ قد يوصف كل أحد بالمالك لماله، و أما الملك فهو سيد الناس، و الثاني: قوله:
وَ لَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ ، و الثالث: أنها لا تقتضى حذفا، و الحذف خلاف الأصل «1» .
و (يوم الدين) ظرف مضاف إلى ما قبله على طريق الاتساع، و أجرى الظرف مجرى المفعول به، و المعنى على الظرفية، أي: الملك فى يوم الدين، أو ملك الأمر يوم الدين، فيكون فيه حذف. و قد رويت القراءتان- أي:
القصر و المد- عن النبي صلى اللّه عليه و سلّم.
(1) ينبغى ألا يكون ترجيح فى هذا المجال، مع ورود القراءتين عن الرسول صلى اللّه عليه و سلّم و القراءتان- كما يقول الآلوسى-: فرسا رهان، و متى أردت الترجيح تعارضت الأدلة.
البحر المديد فى تفسير القرآن المجيد، ج1، ص: 56
و قد قرئ (ملك) بوجوه كثيرة تركنا ذكرها لشذوذها. فإن قيل: ملك و مالك نكرة؛ لأن إضافة اسم الفاعل لا تخصص، و كيف ينعت به (الرحمن الرحيم) و هما معرفتان؟ قلت: إنما تكون إضافة اسم الفاعل لا تخصص إذا كان بمعنى الحال أو الاستقبال؛ لأنها حينئذ غير محضة، و أما هذا فهو مستمر دائما، فإضافته محضة. قاله ابن جزىّ.
يقول الحق جل جلاله معلّما لعباده كيف يثنون عليه و يعظمونه ثم يسألونه: يا عبادى قولوا: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ أي: الثناء الجميل إنما يستحقه العظيم الجليل، فلا يستحق الحمد سواه، إذ لا منعم على الحقيقة إلا اللّه، وَ ما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ . أو جميع المحامد كلّها للّه، أو الحمد المعهود فى الأذهان هو حمد اللّه تعالى نفسه فى أزله، قبل أن يوجد خلقه، فلما أوجد خلقه قال لهم: الحمد للّه، أي: احمدونى بذلك الحمد المعهود فى الأزل.
و إنما استحق الحمد وحده لأنه رَبِّ الْعالَمِينَ ، و كأن سائلا سأله: لم اختصصت بالحمد؟ فقال: لأنى ربّ العالمين، أنا أوجدتهم برحمتي، و أمددتهم بنعمتي، فلا منعم غيرى، فاستحققت الحمد وحدي، منّى كان الإيجاد و علىّ توالى الإمداد، فأنا ربّ العباد، فالعوالم كلها- على تعدد أجناسها و اختلاف أنواعها- فى قبضتى و تحت تربيتى و رعايتى.
قال بعضهم: خلق اللّه ثمانية عشر ألف عالم، نصفها فى البر و نصفها فى البحر. و قال الفخر الرازي: روى أن بنى آدم عشر الجن، و بنو آدم و الجن عشر حيوانات البر، و هؤلاء كلّهم عشر الطيور، و هؤلاء كلهم عشر حيوانات البحار، و هؤلاء كلهم عشر ملائكة الأرض الموكلين ببني آدم، و هؤلاء كلهم عشر ملائكة سماء الدنيا، و هؤلاء كلهم عشر ملائكة السماء الثانية، ثم على هذا الترتيب إلى ملائكة السماء السابعة، ثم الكلّ فى مقابلة الكرسي نزر قليل، ثم هؤلاء عشر ملائكة السّرادق الواحد من سرادقات العرش، التي عددها: مائة ألف، طول كل سرادق و عرضه- إذا قوبلت به السموات و الأرض و ما فيهما و ما بينهما- يكون شيئا يسيرا و نزرا قليلا. و ما من موضع شبر إلا و فيه ملك ساجد أو راكع أو قائم، و له زجل بالتسبيح و التهليل. ثم هؤلاء كلهم فى مقابلة الذين يجولون حول العرش كالقطرة فى البحر، و لا يعلم عددهم إلا اللّه تعالى: وَ ما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ . ه.
و قال وهب بن منبّه: (قوائم العرش ثلاثمائة و ست و ستون قائمة، و بين كل قائمة و قائمة ستون ألف صحراء، و فى كل صحراء ستون ألف عالم، و كل عالم قدر الثقلين).
فهذه العوالم كلها فى قبضة الحق و تحت تربيته و حفظه، يوصل المدد إلى كل واحد و هو فى مستقرّه و مستودعه، إما إلى روحانيته من قوة العلوم و المعارف، و إما إلى بشريته من قوة الأشباح، من العرش إلى الفرش،
البحر المديد فى تفسير القرآن المجيد، ج1، ص: 57
كلها مقدّرة أرزاقها محصورة آجالها، محفوظة أشباحها، معلومة أماكنها، لا يخفى عليه شىء فى الأرض و لا فى السماء و هو السميع العليم.
ثم هذه التربية التي ربى سبحانه بها خلقه إنما هى رحمة منه و إحسان، لا لزوم عليه و إيجاب، و لذلك وصله بقوله الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ، أي: الرحمن بنعمة الإيجاد، الرحيم بنعمة الإمداد. «نعمتان ما خلا موجود عنهما، و لا بد لكل مكوّن منهما: نعمة الإيجاد و نعمة الإمداد، أنعم أولا بالإيجاد، و ثنى بتوالي الإمداد». كما فى (الحكم) «1» . فاسمه (الرحمن) يقتضى إيجاد الأشياء و إبرازها، و اسمه (الرحيم) يقتضى تربيتها و إمدادها. و لذلك لا يجوز إطلاق اسم (الرحمن) على أحد، و لم يتسمّ أحد به؛ إذ الإيجاد لا يصح من غيره تعالى، بخلاف اسمه (الرحيم) فيجوز إطلاقه على غيره تعالى؛ لمشاركة صدور الإمداد فى الظاهر من بعض المخلوقات مجازا و عارية.
: الرحمن فى الدنيا و الآخرة، و الرحيم فى الآخرة؛ لأن رحمة الآخرة خاصة بالمؤمنين. أو الرحمن بجلائل النعم و الرحيم بدقائقها، فجلائل النعم مثل: نعمة الإسلام و الإيمان و الإحسان، و المعرفة و الهداية، و كشف الحجاب و فتح الباب و الدخول مع الأحباب، و دقائق النعم مثل: الصحة و العافية و المال الحلال، و غير ذلك مما يأتى ذكره فى المنعم عليهم.
ثم من تحقق منه الإيجاد و الإمداد استحق أن يكون ملكا لجميع العباد، و لذلك ذكره بأثره فقال: مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ أي: المتصرف فى عباده كيف شاء، لا رادّ لما قضى و لا مانع لما أعطى، فهو ملك الملوك رب الأرباب فى هذه الدار و فى تلك الدار. و إنما خصّ يوم الدين- و هو يوم الجزاء- بالملكية؛ لأن ذلك اليوم يظهر فيه الملك للّه عيانا لجميع الخلق، فإن اللّه تعالى يتجلّى لفصل عباده، حتى يراه المؤمنون عيانا، بخلاف الدنيا فإن تصرفه تعالى لا يفهمه إلا الكملة من المؤمنين، و لذلك ادّعى كثير من الجهلة الملك و نسبوه لأنفسهم. و يوم القيامة ينفرد الملك للّه عند الخاص و العام، قال تعالى: لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ .
الإشارة: لما تجلّى الحق سبحانه من عالم الجبروت إلى عالم الملكوت، أو تقول: من عالم الغيب إلى عالم الشهادة، حمد نفسه بنفسه، و مجّد نفسه بنفسه، و وحّد نفسه بنفسه، و للّه درّ الهروىّ، حيث قال:
ما وحّد الواحد من واحد
إذ كلّ من وحّده جاحد
(1) لابن عطاء الله السكندرى.
البحر المديد فى تفسير القرآن المجيد، ج1، ص: 58
توحيد من ينطق عن نعته
عارية أبطلها الواحد
توحيده إياه توحيده
و نعت من ينعته لاحد «1»
فقال فى توحيد نفسه بنفسه مترجما عن نفسه بنفسه: (الحمد للّه رب العالمين)، فكأنه يقول فى عنوان كتابه و سر خطابه: أنا الحامد و المحمود، و أنا القائم بكل موجود، أنا رب الأرباب، و أنا مسبب الأسباب لمن فهم الخطاب، أنا رب العالمين، أنا قيوم السموات و الأرضين، بل أنا المتوحد فى وجودى، و المتجلّى لعبادى بكرمى وجودى، فالعوالم كلها ثابتة بإثباتى، ممحوّة بأحدية ذاتى.
قال رجل بين يدى الجنيد: (الحمد للّه) و لم يقل: (رب العالمين)، فقال له الجنيد: كمّلها يا أخى، فقال الرجل: و أىّ قدر للعالمين حتى تذكر معه؟! فقال الجنيد: قلها يا أخى؛ فإن الحادث إذا قرن بالقديم تلاشى الحادث و بقي القديم.
يقول سبحانه: يا من هو منى قريب، تدبر سرّى فإنه غريب، أنا المحب، و أنا الحبيب، و أنا القريب، و أنا المجيب، أنا الرحيم الرحمن، و أنا الملك الديان، أنا الرحمن بنعمة الإيجاد، و الرحيم بتوالي الإمداد. منّى كان الإيجاد، و علىّ دوام الإمداد، و أنا رب العباد، أنا الملك الدّيان، و أنا المجازى بالإحسان على الإحسان، أنا الملك على الإطلاق، لو لا جهالة أهل العناد و الشقاق، الأمر لنا على الدوام، لمن فهم عنا من الأنام.
قال فى الرسائل الكبرى «2» : لا عبرة بظواهر الأشياء، و إنما العبرة بالسر المكنون، و ليس ذلك إلا بظهور أمر الحق و ارتفاع غطائه و زوال أستاره و خفائه، فإذا تحقق ذلك التجلي و الظهور، و استولى على الأشياء الفناء و الدّثور، و انقشعت الظلمات بإشراق النور، فهناك يبدو عين اليقين و يحق الحق المبين، و عند ذلك تبطل دعوى المدعين، كما يفهم العامة بطلان ذلك فى يوم الدين، حين يكون الملك للّه رب العالمين، و ليت شعرى أىّ وقت كان الملك لسواه حتى يقع التقييد بقوله: الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ و قوله: وَ الْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ ؟! لو لا الدعاوى العريضة من القلوب المريضة. ه.
(1) مضمون الأبيات كما يقول الشيخ ابن عجيبة فى إيقاظ الهمم: أن الحق تولى توحيد نفسه بنفسه. فكل من ادعى أنه وحده بنفسه فهو جاحد لوحدانيته، حيث أشرك معه نفسه، و كل من ينعته بنفسه فهو لاحد- أي: مائل عن الصواب. و هذا المعنى من المعاني التي ينبغى أن تفهم فى ضوئها هذه الأبيات، و للأبيات محامل أخرى ذكرها العلامة ابن القيم. فلتنظر فى كتابه مدارج السالكين. و انظر أيضا: مدارج السلوك لأبى بكر بنانى.
(2) لابن عباد النفزي، شارح الحكم.
البحر المديد فى تفسير القرآن المجيد، ج1، ص: 59
ثم تنزل لبيان العبودية، فقال:
[سورة الفاتحة (1): آية 5]
إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَ إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5)
قلت: (إياك) مفعول (نعبد)، و قدّم للتعظيم و الاهتمام به، و الدلالة على الحصر، و لذلك قال ابن عباس:
(نعبدك و لا نعبد معك غيرك)، و لتقديم ما هو مقدّم فى الوجود و هو الملك المعبود، و للتنبيه على أن العابد ينبغى أن يكون نظره إلى المعبود أولا و بالذات، و منه إلى العبادة، لا من حيث إنها عبادة صدرت عنه، بل من حيث إنها نسبة شريفة إليه، و وصلة بينه و بين الحق، فإن العارف إنما يحقّ وصوله إذا استغرق فى ملاحظة جناب القدس، و غاب عما عداه، حتى إنه لا يلاحظ نفسه و لا حالا من أحوالها إلا من حيث إنها تجلّ من تجلياته و مظهر لربوبيته، و لذلك فضل ما حكى اللّه عن حبيبه حين قال: لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنا ، على ما حكاه عن كليمه حيث قال: إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ أي: حيث صرّح بمطلوبه، و (إياك) مفعول (نستعين) و قدّم أيضا للاختصاص و الاهتمام، كما تقدم فى إِيَّاكَ نَعْبُدُ . و كرّر الضمير و لم يقل: إياك نعبد و نستعين؛ لأن إظهاره أبلغ فى إظهار الاعتماد على اللّه، و أقطع فى إحضار التعلق باللّه و الإقبال على اللّه و أمدح، ألا ترى أن قولك: بك أنتصر و بك أحتمى و بك أنال مطالبى- أبلغ و أمدح من قولك: بك أنتصر و أحتمى ... إلخ؟.
و قدم العبادة على الاستعانة ليتوافق رءوس الآي، و ليعلم منه أن تقديم الوسيلة على طلب الحاجة أدعى إلى الإجابة، فإن من تلبّس بخدمة الملك و شرع فيها بحسب وسعه، ثم طلب منه الإعانة عليها أجيب إلى مطلبه، بخلاف من كلّفه الملك بخدمته، فقال: أعطنى ما يعيننى عليها، فهو سوء أدب، و أيضا: من استحضر الأوصاف العظام ما أمكنه إلا المسارعة إلى الخضوع و العبادة، و أيضا: لما نسب المتكلم العبادة إلى نفسه أوهم ذلك تبجحا و اعتدادا منه بما يصدر عنه فعقبه بقوله: وَ إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ، دفعا لذلك التوهم.
و العبادة: أقصى غاية الخضوع و التذلل، و منه طريق معبّد، أي: مذلل، و الاستعانة: طلب المعونة، و المراد طلب المعونة فى المهمات كلّها، أو فى أداء العبادات.
و الضمير المستتر فى الفعلين للقارىء و من معه من الحفظة و حاضرى صلاة الجماعة، أو له و لسائر الموجودين.