کتابخانه تفاسیر
البحر المديد فى تفسير القرآن المجيد، ج1، ص: 57
كلها مقدّرة أرزاقها محصورة آجالها، محفوظة أشباحها، معلومة أماكنها، لا يخفى عليه شىء فى الأرض و لا فى السماء و هو السميع العليم.
ثم هذه التربية التي ربى سبحانه بها خلقه إنما هى رحمة منه و إحسان، لا لزوم عليه و إيجاب، و لذلك وصله بقوله الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ، أي: الرحمن بنعمة الإيجاد، الرحيم بنعمة الإمداد. «نعمتان ما خلا موجود عنهما، و لا بد لكل مكوّن منهما: نعمة الإيجاد و نعمة الإمداد، أنعم أولا بالإيجاد، و ثنى بتوالي الإمداد». كما فى (الحكم) «1» . فاسمه (الرحمن) يقتضى إيجاد الأشياء و إبرازها، و اسمه (الرحيم) يقتضى تربيتها و إمدادها. و لذلك لا يجوز إطلاق اسم (الرحمن) على أحد، و لم يتسمّ أحد به؛ إذ الإيجاد لا يصح من غيره تعالى، بخلاف اسمه (الرحيم) فيجوز إطلاقه على غيره تعالى؛ لمشاركة صدور الإمداد فى الظاهر من بعض المخلوقات مجازا و عارية.
: الرحمن فى الدنيا و الآخرة، و الرحيم فى الآخرة؛ لأن رحمة الآخرة خاصة بالمؤمنين. أو الرحمن بجلائل النعم و الرحيم بدقائقها، فجلائل النعم مثل: نعمة الإسلام و الإيمان و الإحسان، و المعرفة و الهداية، و كشف الحجاب و فتح الباب و الدخول مع الأحباب، و دقائق النعم مثل: الصحة و العافية و المال الحلال، و غير ذلك مما يأتى ذكره فى المنعم عليهم.
ثم من تحقق منه الإيجاد و الإمداد استحق أن يكون ملكا لجميع العباد، و لذلك ذكره بأثره فقال: مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ أي: المتصرف فى عباده كيف شاء، لا رادّ لما قضى و لا مانع لما أعطى، فهو ملك الملوك رب الأرباب فى هذه الدار و فى تلك الدار. و إنما خصّ يوم الدين- و هو يوم الجزاء- بالملكية؛ لأن ذلك اليوم يظهر فيه الملك للّه عيانا لجميع الخلق، فإن اللّه تعالى يتجلّى لفصل عباده، حتى يراه المؤمنون عيانا، بخلاف الدنيا فإن تصرفه تعالى لا يفهمه إلا الكملة من المؤمنين، و لذلك ادّعى كثير من الجهلة الملك و نسبوه لأنفسهم. و يوم القيامة ينفرد الملك للّه عند الخاص و العام، قال تعالى: لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ .
الإشارة: لما تجلّى الحق سبحانه من عالم الجبروت إلى عالم الملكوت، أو تقول: من عالم الغيب إلى عالم الشهادة، حمد نفسه بنفسه، و مجّد نفسه بنفسه، و وحّد نفسه بنفسه، و للّه درّ الهروىّ، حيث قال:
ما وحّد الواحد من واحد
إذ كلّ من وحّده جاحد
(1) لابن عطاء الله السكندرى.
البحر المديد فى تفسير القرآن المجيد، ج1، ص: 58
توحيد من ينطق عن نعته
عارية أبطلها الواحد
توحيده إياه توحيده
و نعت من ينعته لاحد «1»
فقال فى توحيد نفسه بنفسه مترجما عن نفسه بنفسه: (الحمد للّه رب العالمين)، فكأنه يقول فى عنوان كتابه و سر خطابه: أنا الحامد و المحمود، و أنا القائم بكل موجود، أنا رب الأرباب، و أنا مسبب الأسباب لمن فهم الخطاب، أنا رب العالمين، أنا قيوم السموات و الأرضين، بل أنا المتوحد فى وجودى، و المتجلّى لعبادى بكرمى وجودى، فالعوالم كلها ثابتة بإثباتى، ممحوّة بأحدية ذاتى.
قال رجل بين يدى الجنيد: (الحمد للّه) و لم يقل: (رب العالمين)، فقال له الجنيد: كمّلها يا أخى، فقال الرجل: و أىّ قدر للعالمين حتى تذكر معه؟! فقال الجنيد: قلها يا أخى؛ فإن الحادث إذا قرن بالقديم تلاشى الحادث و بقي القديم.
يقول سبحانه: يا من هو منى قريب، تدبر سرّى فإنه غريب، أنا المحب، و أنا الحبيب، و أنا القريب، و أنا المجيب، أنا الرحيم الرحمن، و أنا الملك الديان، أنا الرحمن بنعمة الإيجاد، و الرحيم بتوالي الإمداد. منّى كان الإيجاد، و علىّ دوام الإمداد، و أنا رب العباد، أنا الملك الدّيان، و أنا المجازى بالإحسان على الإحسان، أنا الملك على الإطلاق، لو لا جهالة أهل العناد و الشقاق، الأمر لنا على الدوام، لمن فهم عنا من الأنام.
قال فى الرسائل الكبرى «2» : لا عبرة بظواهر الأشياء، و إنما العبرة بالسر المكنون، و ليس ذلك إلا بظهور أمر الحق و ارتفاع غطائه و زوال أستاره و خفائه، فإذا تحقق ذلك التجلي و الظهور، و استولى على الأشياء الفناء و الدّثور، و انقشعت الظلمات بإشراق النور، فهناك يبدو عين اليقين و يحق الحق المبين، و عند ذلك تبطل دعوى المدعين، كما يفهم العامة بطلان ذلك فى يوم الدين، حين يكون الملك للّه رب العالمين، و ليت شعرى أىّ وقت كان الملك لسواه حتى يقع التقييد بقوله: الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ و قوله: وَ الْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ ؟! لو لا الدعاوى العريضة من القلوب المريضة. ه.
(1) مضمون الأبيات كما يقول الشيخ ابن عجيبة فى إيقاظ الهمم: أن الحق تولى توحيد نفسه بنفسه. فكل من ادعى أنه وحده بنفسه فهو جاحد لوحدانيته، حيث أشرك معه نفسه، و كل من ينعته بنفسه فهو لاحد- أي: مائل عن الصواب. و هذا المعنى من المعاني التي ينبغى أن تفهم فى ضوئها هذه الأبيات، و للأبيات محامل أخرى ذكرها العلامة ابن القيم. فلتنظر فى كتابه مدارج السالكين. و انظر أيضا: مدارج السلوك لأبى بكر بنانى.
(2) لابن عباد النفزي، شارح الحكم.
البحر المديد فى تفسير القرآن المجيد، ج1، ص: 59
ثم تنزل لبيان العبودية، فقال:
[سورة الفاتحة (1): آية 5]
إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَ إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5)
قلت: (إياك) مفعول (نعبد)، و قدّم للتعظيم و الاهتمام به، و الدلالة على الحصر، و لذلك قال ابن عباس:
(نعبدك و لا نعبد معك غيرك)، و لتقديم ما هو مقدّم فى الوجود و هو الملك المعبود، و للتنبيه على أن العابد ينبغى أن يكون نظره إلى المعبود أولا و بالذات، و منه إلى العبادة، لا من حيث إنها عبادة صدرت عنه، بل من حيث إنها نسبة شريفة إليه، و وصلة بينه و بين الحق، فإن العارف إنما يحقّ وصوله إذا استغرق فى ملاحظة جناب القدس، و غاب عما عداه، حتى إنه لا يلاحظ نفسه و لا حالا من أحوالها إلا من حيث إنها تجلّ من تجلياته و مظهر لربوبيته، و لذلك فضل ما حكى اللّه عن حبيبه حين قال: لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنا ، على ما حكاه عن كليمه حيث قال: إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ أي: حيث صرّح بمطلوبه، و (إياك) مفعول (نستعين) و قدّم أيضا للاختصاص و الاهتمام، كما تقدم فى إِيَّاكَ نَعْبُدُ . و كرّر الضمير و لم يقل: إياك نعبد و نستعين؛ لأن إظهاره أبلغ فى إظهار الاعتماد على اللّه، و أقطع فى إحضار التعلق باللّه و الإقبال على اللّه و أمدح، ألا ترى أن قولك: بك أنتصر و بك أحتمى و بك أنال مطالبى- أبلغ و أمدح من قولك: بك أنتصر و أحتمى ... إلخ؟.
و قدم العبادة على الاستعانة ليتوافق رءوس الآي، و ليعلم منه أن تقديم الوسيلة على طلب الحاجة أدعى إلى الإجابة، فإن من تلبّس بخدمة الملك و شرع فيها بحسب وسعه، ثم طلب منه الإعانة عليها أجيب إلى مطلبه، بخلاف من كلّفه الملك بخدمته، فقال: أعطنى ما يعيننى عليها، فهو سوء أدب، و أيضا: من استحضر الأوصاف العظام ما أمكنه إلا المسارعة إلى الخضوع و العبادة، و أيضا: لما نسب المتكلم العبادة إلى نفسه أوهم ذلك تبجحا و اعتدادا منه بما يصدر عنه فعقبه بقوله: وَ إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ، دفعا لذلك التوهم.
و العبادة: أقصى غاية الخضوع و التذلل، و منه طريق معبّد، أي: مذلل، و الاستعانة: طلب المعونة، و المراد طلب المعونة فى المهمات كلّها، أو فى أداء العبادات.
و الضمير المستتر فى الفعلين للقارىء و من معه من الحفظة و حاضرى صلاة الجماعة، أو له و لسائر الموجودين.
أدرج عبادته فى تضاعيف عبادتهم و خلط حاجته بحاجتهم لعلها تقبل ببركتها و يجاب إليها، و لهذا شرعت الجماعة. قاله البيضاوي.
البحر المديد فى تفسير القرآن المجيد، ج1، ص: 60
يقول الحق جل جلاله، تتميما لتعليم عباده: فإذا أثنيتم على و مجدتمونى و عظمتمونى فأقروا لى بالربوبية، و أظهروا من أنفسكم العبودية، و اطلبوا منى العون فى كل وقت و قولوا: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَ إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ، و كأنه- جل جلاله- لمّا ذكر أنه مستحق للمحامد كلها قديمها و حديثها؛ لأنه رب العوالم و قيومها، أصل الأصول و فروعها، أنعم عليها أولا بالإيجاد، و ثانيا بتوالي الإمداد، فهو مالكها على الإطلاق، ذكر أنه لا يستحق أن يعبد سواه؛ إذ لا منعم على الحقيقة إلا اللّه، فهو أحقّ أن يعبد، و أولى أن يفرد بالوجهة و القصد، لأنه مستبد و غير مستمدّ، و المادة من عين الجود، فإذا انقطعت المادة انعدم الوجود.
قال البيضاوي: ثم إنه لما ذكر الحقيق بالحمد، و وصف بصفات عظام تميّز بها عن سائر الذوات، تعلّق العلم بمعلوم معين، خوطب بذلك، أي: يا من هذا شأنه نخصّك بالعبادة و الاستعانة، ليكون أدل على الاختصاص، و للترقى من الغيبة إلى الشهود، و كأن المعلوم صار عيانا، و المعقول مشاهدا، و الغيبة حضورا. بنى أول الكلام على ما هو مبادئ حال العارف؛ من الذكر و الفكر و التأمل فى أسمائه، و النظر فى آلائه، و الاستدلال بصنائعه على عظيم شأنه و باهر سلطانه، ثم قفى بما هو منتهى أمره، و هو أن يخوض لجة الوصول، و يصير من أهل المشاهدة، فيراه عيانا و يناجيه شفاها. اللهم اجعلنا من الواصلين إلى العين دون التابعين للأثر. و من عادة العرب التفنن فى الكلام و العدول عن أسلوب إلى آخر، تطرية و تنشيطا للسامع، فتعدل من الخطاب إلى الغيبة، و من الغيبة إلى التكلم، كقوله: حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَ جَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ ... و لم يقل (بكم) و قوله أَرْسَلَ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَسُقْناهُ إِلى بَلَدٍ ... أي: و لم يقل: فساقه .. انظر تمام كلامه.
و الالتفات هنا فى قوله: إِيَّاكَ نَعْبُدُ و لم يقل: إياه نعبد؛ لأن الظاهر من قبل الغيبة، و حسنه أن الموصوف تعيّن و صار حاضرا.
قال الأقليشى: فهذه الآية هى التي قال فيها النبي صلى اللّه عليه و سلّم: «فإذا قال العبد: إياك نعبد و إياك نستعين، يقول اللّه تعالى: هذه بينى و بين عبدى و لعبدى ما سأل». معناه: أي عبد توجّه إلى بالعبادة و سألنى العون عليها فعبادته متقبلة، و العون منى له عليها حاصل حتى يوقعها على وجهها، فالعبادة وصف العبد، و العون من اللّه تعالى للعبد، فلهذا قال: «فهذه بينى و بين عبدى».
قال ابن جزي: أي نطلب العون منك على العبادة و على جميع أمورنا، و فى هذا دليل على بطلان قول القدرية و الجبرية، و أنّ الحق بين ذلك.
البحر المديد فى تفسير القرآن المجيد، ج1، ص: 61
الإشارة: لمّا تجلى الحق جل جلاله من عالم الجبروت إلى عالم الملكوت، و حمد نفسه بنفسه، تجلى أيضا و تنزّل من عالم الملكوت إلى عالم الملك بقدرته و حكمته؛ لإظهار آثار أسمائه و صفاته، فأظهر العبودية و أخفى الربوبية، أظهر الحكمة و أبطن القدرة، فجعل عالم الحكمة يخاطب عالم القدرة، و يخضع له، و يتعبد و يستمد، منه الإعانة و الهداية، و يتحرز من طريق الضلالة و الغواية.
فعالم الحكمة محل التكليف، و عالم القدرة محل التصريف، عالم الحكمة عالم الأشباح، و عالم القدرة عالم الأرواح، فإياك نعبد لأهل عالم الحكمة، و إياك نستعين لأهل عالم القدرة. و لذلك قال الشيخ أبو العباس المرسى رضى اللّه عنه: إِيَّاكَ نَعْبُدُ شريعة، و إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ حقيقة، إِيَّاكَ نَعْبُدُ إسلاما، و إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ إحسانا، إِيَّاكَ نَعْبُدُ عبادة، و إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ عبودية، إِيَّاكَ نَعْبُدُ فرق إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ جمع. ه.
و إن شئت قلت: إِيَّاكَ نَعْبُدُ لأهل العمل للّه و هم المخلصون، و إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ لأهل العمل باللّه و هم الموحّدون، العمل للّه يوجب المثوبة، و العمل باللّه يوجب القربة، العمل للّه يوجب تحقيق العبادة، و العمل باللّه يوجب تصحيح الإرادة، العمل للّه نعت كلّ عابد، و العمل باللّه نعت كل قاصد، العمل للّه قيام بأحكام الظواهر، و العمل باللّه قيام بإصلاح الضمائر. قاله القشيري.
ثم إنّ الناس فى شهود القدرة و الحكمة على ثلاثة أقسام: قسم حجبوا بالحكمة عن شهود القدرة، و هم أهل الحجاب من أهل الغفلة، و قفوا مع قوله: إِيَّاكَ نَعْبُدُ ، و قسم حجبوا بشهود القدرة عن الحكمة، و هم أهل الفناء، وقفوا مع قوله: إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ، و قسم لم يحجبوا بالحكمة عن القدرة و لا بالقدرة عن الحكمة، أعطوا كلّ ذى حق حقّه و وفّوا كل ذى قسط قسطه، و هم أهل الكمال من أهل البقاء، جمعوا بين قوله: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَ إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ، و باللّه التوفيق.
ثم بيّن المقصود الأعظم و ما هو المطلوب الأهم، و هو طلب الهداية و التوفيق إلى عين التحقيق، فقال:
[سورة الفاتحة (1): آية 6]
اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ (6)
قلت: الهداية فى الأصل: الدلالة بلطف، و لذلك تستعمل فى الخير، و قوله: فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ على التهكم، و الفعل منه (هدى) بالفتح، و أصله أن يعدى باللام، أو «إلى»، فعومل هنا معاملة:
وَ اخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ . و الصراط لغة: الطريق، مشتق من سرط الطعام إذا ابتلعه، فكأنها تبتلع السابلة؛ أي
البحر المديد فى تفسير القرآن المجيد، ج1، ص: 62
المارّة به، و قلبت السين صادا لتطابق الطاء فى الإطباق، و قد تشمّ زايا لقرب المخرج، و (المستقيم): الذي لا عوج فيه، و المراد به طريق الحق الموصلة إلى اللّه.
يقول الحق جل جلاله: معلما لعباده كيف يطلبونه، و ما ينبغى لهم أن يطلبوا، أي: قولوا (اهدنا) أي: أرشدنا إلى الطريق المستقيم، الموصلة إلى حضرة النعيم، و الطريق المستقيم هو السير على الشريعة المحمدية فى الظاهر، و التبرّى من الحول و القوة فى الباطن، أو تقول: هو أن يكون ظاهرك شريعة و باطنك حقيقة، ظاهرك عبودية و باطنك حرية، الفرق على ظاهرك موجود و الجمع فى باطنك مشهود، و فى الحكم: «متى جعلك فى الظاهر ممتثلا لأمره و فى الباطن مستسلما لقهره، فقد أعظم المنّة عليك».
فالصراط المستقيم الذي أمرنا الحقّ بطلبه هو: الجمع بين الشريعة و الحقيقة، و المفهوم من قوله: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَ إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ، و لذلك وصله به، فكأن الحق- سبحانه- يقول: يا عبادى احمدونى و مجدونى و أفردونى بالقصد و خصّونى بالعبادة، و كونوا فى ظاهركم مشتغلين بعبادتي، و فى باطنكم مستعينين بحولي و قوتى، أو كونوا فى ظاهركم متأدبين بخدمتي، و فى باطنكم مشاهدين لقدرتى و عظمة ربوبيتى.
و قال سيدنا على- كرّم اللّه وجهه-: (الصراط المستقيم هنا القرآن). و قال جابر رضي اللّه عنه: (هو الإسلام) يعنى الحنيفية السمحاء، و قال سهل بن عبد اللّه: (هو طريق محمد صلى اللّه عليه و سلّم). يعنى اتباع ما جاء به. و حاصله ما تقدم من إصلاح الظاهر بالشريعة و الباطن بالحقيقة، فهذا هو الطريق المستقيم الذي من سلكه كان من الواصلين المقربين مع النبيين و الصدّيقين.
فإن قلت: إذا كان العبد ذاهبا على هذا المنهاج المستقيم، فكيف يطلب ما هو حاصل؟ فالجواب: أنه طلب التثبيت على ما هو حاصل، و الإرشاد إلى ما هو ليس بحاصل، فأهل مقام الإسلام يطلبون الثبات على الإسلام، الذي هو حاصل، و الترقي إلى مقام الإيمان الذي ليس بحاصل، على طريق الصوفية، الذين يخصون العمل الظاهر بمقام الإسلام، و العمل الباطن بمقام الإيمان، و أهل الإيمان يطلبون الثبات على الإيمان الذي هو حاصل، و الترقي إلى مقام الإحسان الذي ليس بحاصل، و أهل مقام الإحسان يطلبون الثبات على الإحسان، و الترقي إلى مالا نهاية له من كشوفات العرفان وَ فَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ .
و قال الشيخ أبو العباس المرسى رضي اللّه عنه: اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ بالتثبيت فيما هو حاصل، و الإرشاد فيما ليس بحاصل، ثم قال: عموم المؤمنين يقولون: اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ أي: بالتثبيت فيما هو
البحر المديد فى تفسير القرآن المجيد، ج1، ص: 63
حاصل، و الإرشاد لما ليس بحاصل، فإنه حصل لهم التوحيد و فاتهم درجات الصالحين، و الصالحون يقولون:
اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ معناه: نسألك التثبيت فيما هو حاصل و الإرشاد إلى ما ليس بحاصل، فإنهم حصل لهم الصلاح و فاتهم درجات الشهداء، و الشهداء يقولون: اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ أي بالتثبيت فيما هو حاصل و الإرشاد إلى ما ليس بحاصل، فإنهم حصلت لهم الشهادة و فاتهم درجات الصديقين، و الصديقون يقولون: اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ أي: بالتثبيت فيما هو حاصل و الإرشاد إلى ما ليس بحاصل، فإنهم حصل لهم درجات الصديقين و فاتهم درجات القطب. و القطب يقول: اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ بالتثبت فيما هو حاصل و الإرشاد إلى ما ليس بحاصل، فإنه حصل له رتبة القطبانية، وفاته علم ما إذا شاء اللّه أن يطلعه عليه أطلعه. ه.
و قال بعضهم: الهداية إمّا للعين و إما للأثر الدالّ على العين، و لا نهاية للأولى. قلت: فالأولى لأهل الشهود و العيان، و الثانية لأهل الدليل و البرهان، فالهداية للعين هى الدلالة على اللّه. و الهداية للأثر هى الدلالة على العمل، «من دلّك على اللّه فقد نصحك، و من دلك على العمل فقد أتعبك». و إنما كانت الأولى لا نهاية لها؛ لأن الترقي بعد المعرفة لا نهاية له. بخلاف الدلالة على الأثر فنهايتها الوصول إلى العين، إن كان الدالّ عارفا بالطريق.
قال البيضاوي: و هداية اللّه تتنوع أنواعا لا يحصيها عد وَ إِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوها لكنها تنحصر فى أجناس مترتبة:
الأول: إفاضة القوى التي بها يتمكن المرء من الاهتداء إلى مصالحه، كالقوة العقلية و الحواس الباطنة و المشاعر الظاهرة.
الثاني: نصب الدلائل الفارقة بين الحق و الباطل و الصلاح و الفساد، و إليه الإشارة بقوله: وَ هَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ ، و قال: فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى .
الثالث الهداية بإرسال الرسل و إنزال الكتب، و إياها عنى بقوله: وَ جَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا ، و قوله: