کتابخانه تفاسیر
البحر المديد فى تفسير القرآن المجيد، ج1، ص: 58
توحيد من ينطق عن نعته
عارية أبطلها الواحد
توحيده إياه توحيده
و نعت من ينعته لاحد «1»
فقال فى توحيد نفسه بنفسه مترجما عن نفسه بنفسه: (الحمد للّه رب العالمين)، فكأنه يقول فى عنوان كتابه و سر خطابه: أنا الحامد و المحمود، و أنا القائم بكل موجود، أنا رب الأرباب، و أنا مسبب الأسباب لمن فهم الخطاب، أنا رب العالمين، أنا قيوم السموات و الأرضين، بل أنا المتوحد فى وجودى، و المتجلّى لعبادى بكرمى وجودى، فالعوالم كلها ثابتة بإثباتى، ممحوّة بأحدية ذاتى.
قال رجل بين يدى الجنيد: (الحمد للّه) و لم يقل: (رب العالمين)، فقال له الجنيد: كمّلها يا أخى، فقال الرجل: و أىّ قدر للعالمين حتى تذكر معه؟! فقال الجنيد: قلها يا أخى؛ فإن الحادث إذا قرن بالقديم تلاشى الحادث و بقي القديم.
يقول سبحانه: يا من هو منى قريب، تدبر سرّى فإنه غريب، أنا المحب، و أنا الحبيب، و أنا القريب، و أنا المجيب، أنا الرحيم الرحمن، و أنا الملك الديان، أنا الرحمن بنعمة الإيجاد، و الرحيم بتوالي الإمداد. منّى كان الإيجاد، و علىّ دوام الإمداد، و أنا رب العباد، أنا الملك الدّيان، و أنا المجازى بالإحسان على الإحسان، أنا الملك على الإطلاق، لو لا جهالة أهل العناد و الشقاق، الأمر لنا على الدوام، لمن فهم عنا من الأنام.
قال فى الرسائل الكبرى «2» : لا عبرة بظواهر الأشياء، و إنما العبرة بالسر المكنون، و ليس ذلك إلا بظهور أمر الحق و ارتفاع غطائه و زوال أستاره و خفائه، فإذا تحقق ذلك التجلي و الظهور، و استولى على الأشياء الفناء و الدّثور، و انقشعت الظلمات بإشراق النور، فهناك يبدو عين اليقين و يحق الحق المبين، و عند ذلك تبطل دعوى المدعين، كما يفهم العامة بطلان ذلك فى يوم الدين، حين يكون الملك للّه رب العالمين، و ليت شعرى أىّ وقت كان الملك لسواه حتى يقع التقييد بقوله: الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ و قوله: وَ الْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ ؟! لو لا الدعاوى العريضة من القلوب المريضة. ه.
(1) مضمون الأبيات كما يقول الشيخ ابن عجيبة فى إيقاظ الهمم: أن الحق تولى توحيد نفسه بنفسه. فكل من ادعى أنه وحده بنفسه فهو جاحد لوحدانيته، حيث أشرك معه نفسه، و كل من ينعته بنفسه فهو لاحد- أي: مائل عن الصواب. و هذا المعنى من المعاني التي ينبغى أن تفهم فى ضوئها هذه الأبيات، و للأبيات محامل أخرى ذكرها العلامة ابن القيم. فلتنظر فى كتابه مدارج السالكين. و انظر أيضا: مدارج السلوك لأبى بكر بنانى.
(2) لابن عباد النفزي، شارح الحكم.
البحر المديد فى تفسير القرآن المجيد، ج1، ص: 59
ثم تنزل لبيان العبودية، فقال:
[سورة الفاتحة (1): آية 5]
إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَ إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5)
قلت: (إياك) مفعول (نعبد)، و قدّم للتعظيم و الاهتمام به، و الدلالة على الحصر، و لذلك قال ابن عباس:
(نعبدك و لا نعبد معك غيرك)، و لتقديم ما هو مقدّم فى الوجود و هو الملك المعبود، و للتنبيه على أن العابد ينبغى أن يكون نظره إلى المعبود أولا و بالذات، و منه إلى العبادة، لا من حيث إنها عبادة صدرت عنه، بل من حيث إنها نسبة شريفة إليه، و وصلة بينه و بين الحق، فإن العارف إنما يحقّ وصوله إذا استغرق فى ملاحظة جناب القدس، و غاب عما عداه، حتى إنه لا يلاحظ نفسه و لا حالا من أحوالها إلا من حيث إنها تجلّ من تجلياته و مظهر لربوبيته، و لذلك فضل ما حكى اللّه عن حبيبه حين قال: لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنا ، على ما حكاه عن كليمه حيث قال: إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ أي: حيث صرّح بمطلوبه، و (إياك) مفعول (نستعين) و قدّم أيضا للاختصاص و الاهتمام، كما تقدم فى إِيَّاكَ نَعْبُدُ . و كرّر الضمير و لم يقل: إياك نعبد و نستعين؛ لأن إظهاره أبلغ فى إظهار الاعتماد على اللّه، و أقطع فى إحضار التعلق باللّه و الإقبال على اللّه و أمدح، ألا ترى أن قولك: بك أنتصر و بك أحتمى و بك أنال مطالبى- أبلغ و أمدح من قولك: بك أنتصر و أحتمى ... إلخ؟.
و قدم العبادة على الاستعانة ليتوافق رءوس الآي، و ليعلم منه أن تقديم الوسيلة على طلب الحاجة أدعى إلى الإجابة، فإن من تلبّس بخدمة الملك و شرع فيها بحسب وسعه، ثم طلب منه الإعانة عليها أجيب إلى مطلبه، بخلاف من كلّفه الملك بخدمته، فقال: أعطنى ما يعيننى عليها، فهو سوء أدب، و أيضا: من استحضر الأوصاف العظام ما أمكنه إلا المسارعة إلى الخضوع و العبادة، و أيضا: لما نسب المتكلم العبادة إلى نفسه أوهم ذلك تبجحا و اعتدادا منه بما يصدر عنه فعقبه بقوله: وَ إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ، دفعا لذلك التوهم.
و العبادة: أقصى غاية الخضوع و التذلل، و منه طريق معبّد، أي: مذلل، و الاستعانة: طلب المعونة، و المراد طلب المعونة فى المهمات كلّها، أو فى أداء العبادات.
و الضمير المستتر فى الفعلين للقارىء و من معه من الحفظة و حاضرى صلاة الجماعة، أو له و لسائر الموجودين.
أدرج عبادته فى تضاعيف عبادتهم و خلط حاجته بحاجتهم لعلها تقبل ببركتها و يجاب إليها، و لهذا شرعت الجماعة. قاله البيضاوي.
البحر المديد فى تفسير القرآن المجيد، ج1، ص: 60
يقول الحق جل جلاله، تتميما لتعليم عباده: فإذا أثنيتم على و مجدتمونى و عظمتمونى فأقروا لى بالربوبية، و أظهروا من أنفسكم العبودية، و اطلبوا منى العون فى كل وقت و قولوا: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَ إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ، و كأنه- جل جلاله- لمّا ذكر أنه مستحق للمحامد كلها قديمها و حديثها؛ لأنه رب العوالم و قيومها، أصل الأصول و فروعها، أنعم عليها أولا بالإيجاد، و ثانيا بتوالي الإمداد، فهو مالكها على الإطلاق، ذكر أنه لا يستحق أن يعبد سواه؛ إذ لا منعم على الحقيقة إلا اللّه، فهو أحقّ أن يعبد، و أولى أن يفرد بالوجهة و القصد، لأنه مستبد و غير مستمدّ، و المادة من عين الجود، فإذا انقطعت المادة انعدم الوجود.
قال البيضاوي: ثم إنه لما ذكر الحقيق بالحمد، و وصف بصفات عظام تميّز بها عن سائر الذوات، تعلّق العلم بمعلوم معين، خوطب بذلك، أي: يا من هذا شأنه نخصّك بالعبادة و الاستعانة، ليكون أدل على الاختصاص، و للترقى من الغيبة إلى الشهود، و كأن المعلوم صار عيانا، و المعقول مشاهدا، و الغيبة حضورا. بنى أول الكلام على ما هو مبادئ حال العارف؛ من الذكر و الفكر و التأمل فى أسمائه، و النظر فى آلائه، و الاستدلال بصنائعه على عظيم شأنه و باهر سلطانه، ثم قفى بما هو منتهى أمره، و هو أن يخوض لجة الوصول، و يصير من أهل المشاهدة، فيراه عيانا و يناجيه شفاها. اللهم اجعلنا من الواصلين إلى العين دون التابعين للأثر. و من عادة العرب التفنن فى الكلام و العدول عن أسلوب إلى آخر، تطرية و تنشيطا للسامع، فتعدل من الخطاب إلى الغيبة، و من الغيبة إلى التكلم، كقوله: حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَ جَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ ... و لم يقل (بكم) و قوله أَرْسَلَ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَسُقْناهُ إِلى بَلَدٍ ... أي: و لم يقل: فساقه .. انظر تمام كلامه.
و الالتفات هنا فى قوله: إِيَّاكَ نَعْبُدُ و لم يقل: إياه نعبد؛ لأن الظاهر من قبل الغيبة، و حسنه أن الموصوف تعيّن و صار حاضرا.
قال الأقليشى: فهذه الآية هى التي قال فيها النبي صلى اللّه عليه و سلّم: «فإذا قال العبد: إياك نعبد و إياك نستعين، يقول اللّه تعالى: هذه بينى و بين عبدى و لعبدى ما سأل». معناه: أي عبد توجّه إلى بالعبادة و سألنى العون عليها فعبادته متقبلة، و العون منى له عليها حاصل حتى يوقعها على وجهها، فالعبادة وصف العبد، و العون من اللّه تعالى للعبد، فلهذا قال: «فهذه بينى و بين عبدى».
قال ابن جزي: أي نطلب العون منك على العبادة و على جميع أمورنا، و فى هذا دليل على بطلان قول القدرية و الجبرية، و أنّ الحق بين ذلك.
البحر المديد فى تفسير القرآن المجيد، ج1، ص: 61
الإشارة: لمّا تجلى الحق جل جلاله من عالم الجبروت إلى عالم الملكوت، و حمد نفسه بنفسه، تجلى أيضا و تنزّل من عالم الملكوت إلى عالم الملك بقدرته و حكمته؛ لإظهار آثار أسمائه و صفاته، فأظهر العبودية و أخفى الربوبية، أظهر الحكمة و أبطن القدرة، فجعل عالم الحكمة يخاطب عالم القدرة، و يخضع له، و يتعبد و يستمد، منه الإعانة و الهداية، و يتحرز من طريق الضلالة و الغواية.
فعالم الحكمة محل التكليف، و عالم القدرة محل التصريف، عالم الحكمة عالم الأشباح، و عالم القدرة عالم الأرواح، فإياك نعبد لأهل عالم الحكمة، و إياك نستعين لأهل عالم القدرة. و لذلك قال الشيخ أبو العباس المرسى رضى اللّه عنه: إِيَّاكَ نَعْبُدُ شريعة، و إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ حقيقة، إِيَّاكَ نَعْبُدُ إسلاما، و إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ إحسانا، إِيَّاكَ نَعْبُدُ عبادة، و إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ عبودية، إِيَّاكَ نَعْبُدُ فرق إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ جمع. ه.
و إن شئت قلت: إِيَّاكَ نَعْبُدُ لأهل العمل للّه و هم المخلصون، و إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ لأهل العمل باللّه و هم الموحّدون، العمل للّه يوجب المثوبة، و العمل باللّه يوجب القربة، العمل للّه يوجب تحقيق العبادة، و العمل باللّه يوجب تصحيح الإرادة، العمل للّه نعت كلّ عابد، و العمل باللّه نعت كل قاصد، العمل للّه قيام بأحكام الظواهر، و العمل باللّه قيام بإصلاح الضمائر. قاله القشيري.
ثم إنّ الناس فى شهود القدرة و الحكمة على ثلاثة أقسام: قسم حجبوا بالحكمة عن شهود القدرة، و هم أهل الحجاب من أهل الغفلة، و قفوا مع قوله: إِيَّاكَ نَعْبُدُ ، و قسم حجبوا بشهود القدرة عن الحكمة، و هم أهل الفناء، وقفوا مع قوله: إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ، و قسم لم يحجبوا بالحكمة عن القدرة و لا بالقدرة عن الحكمة، أعطوا كلّ ذى حق حقّه و وفّوا كل ذى قسط قسطه، و هم أهل الكمال من أهل البقاء، جمعوا بين قوله: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَ إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ، و باللّه التوفيق.
ثم بيّن المقصود الأعظم و ما هو المطلوب الأهم، و هو طلب الهداية و التوفيق إلى عين التحقيق، فقال:
[سورة الفاتحة (1): آية 6]
اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ (6)
قلت: الهداية فى الأصل: الدلالة بلطف، و لذلك تستعمل فى الخير، و قوله: فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ على التهكم، و الفعل منه (هدى) بالفتح، و أصله أن يعدى باللام، أو «إلى»، فعومل هنا معاملة:
وَ اخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ . و الصراط لغة: الطريق، مشتق من سرط الطعام إذا ابتلعه، فكأنها تبتلع السابلة؛ أي
البحر المديد فى تفسير القرآن المجيد، ج1، ص: 62
المارّة به، و قلبت السين صادا لتطابق الطاء فى الإطباق، و قد تشمّ زايا لقرب المخرج، و (المستقيم): الذي لا عوج فيه، و المراد به طريق الحق الموصلة إلى اللّه.
يقول الحق جل جلاله: معلما لعباده كيف يطلبونه، و ما ينبغى لهم أن يطلبوا، أي: قولوا (اهدنا) أي: أرشدنا إلى الطريق المستقيم، الموصلة إلى حضرة النعيم، و الطريق المستقيم هو السير على الشريعة المحمدية فى الظاهر، و التبرّى من الحول و القوة فى الباطن، أو تقول: هو أن يكون ظاهرك شريعة و باطنك حقيقة، ظاهرك عبودية و باطنك حرية، الفرق على ظاهرك موجود و الجمع فى باطنك مشهود، و فى الحكم: «متى جعلك فى الظاهر ممتثلا لأمره و فى الباطن مستسلما لقهره، فقد أعظم المنّة عليك».
فالصراط المستقيم الذي أمرنا الحقّ بطلبه هو: الجمع بين الشريعة و الحقيقة، و المفهوم من قوله: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَ إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ، و لذلك وصله به، فكأن الحق- سبحانه- يقول: يا عبادى احمدونى و مجدونى و أفردونى بالقصد و خصّونى بالعبادة، و كونوا فى ظاهركم مشتغلين بعبادتي، و فى باطنكم مستعينين بحولي و قوتى، أو كونوا فى ظاهركم متأدبين بخدمتي، و فى باطنكم مشاهدين لقدرتى و عظمة ربوبيتى.
و قال سيدنا على- كرّم اللّه وجهه-: (الصراط المستقيم هنا القرآن). و قال جابر رضي اللّه عنه: (هو الإسلام) يعنى الحنيفية السمحاء، و قال سهل بن عبد اللّه: (هو طريق محمد صلى اللّه عليه و سلّم). يعنى اتباع ما جاء به. و حاصله ما تقدم من إصلاح الظاهر بالشريعة و الباطن بالحقيقة، فهذا هو الطريق المستقيم الذي من سلكه كان من الواصلين المقربين مع النبيين و الصدّيقين.
فإن قلت: إذا كان العبد ذاهبا على هذا المنهاج المستقيم، فكيف يطلب ما هو حاصل؟ فالجواب: أنه طلب التثبيت على ما هو حاصل، و الإرشاد إلى ما هو ليس بحاصل، فأهل مقام الإسلام يطلبون الثبات على الإسلام، الذي هو حاصل، و الترقي إلى مقام الإيمان الذي ليس بحاصل، على طريق الصوفية، الذين يخصون العمل الظاهر بمقام الإسلام، و العمل الباطن بمقام الإيمان، و أهل الإيمان يطلبون الثبات على الإيمان الذي هو حاصل، و الترقي إلى مقام الإحسان الذي ليس بحاصل، و أهل مقام الإحسان يطلبون الثبات على الإحسان، و الترقي إلى مالا نهاية له من كشوفات العرفان وَ فَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ .
و قال الشيخ أبو العباس المرسى رضي اللّه عنه: اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ بالتثبيت فيما هو حاصل، و الإرشاد فيما ليس بحاصل، ثم قال: عموم المؤمنين يقولون: اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ أي: بالتثبيت فيما هو
البحر المديد فى تفسير القرآن المجيد، ج1، ص: 63
حاصل، و الإرشاد لما ليس بحاصل، فإنه حصل لهم التوحيد و فاتهم درجات الصالحين، و الصالحون يقولون:
اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ معناه: نسألك التثبيت فيما هو حاصل و الإرشاد إلى ما ليس بحاصل، فإنهم حصل لهم الصلاح و فاتهم درجات الشهداء، و الشهداء يقولون: اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ أي بالتثبيت فيما هو حاصل و الإرشاد إلى ما ليس بحاصل، فإنهم حصلت لهم الشهادة و فاتهم درجات الصديقين، و الصديقون يقولون: اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ أي: بالتثبيت فيما هو حاصل و الإرشاد إلى ما ليس بحاصل، فإنهم حصل لهم درجات الصديقين و فاتهم درجات القطب. و القطب يقول: اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ بالتثبت فيما هو حاصل و الإرشاد إلى ما ليس بحاصل، فإنه حصل له رتبة القطبانية، وفاته علم ما إذا شاء اللّه أن يطلعه عليه أطلعه. ه.
و قال بعضهم: الهداية إمّا للعين و إما للأثر الدالّ على العين، و لا نهاية للأولى. قلت: فالأولى لأهل الشهود و العيان، و الثانية لأهل الدليل و البرهان، فالهداية للعين هى الدلالة على اللّه. و الهداية للأثر هى الدلالة على العمل، «من دلّك على اللّه فقد نصحك، و من دلك على العمل فقد أتعبك». و إنما كانت الأولى لا نهاية لها؛ لأن الترقي بعد المعرفة لا نهاية له. بخلاف الدلالة على الأثر فنهايتها الوصول إلى العين، إن كان الدالّ عارفا بالطريق.
قال البيضاوي: و هداية اللّه تتنوع أنواعا لا يحصيها عد وَ إِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوها لكنها تنحصر فى أجناس مترتبة:
الأول: إفاضة القوى التي بها يتمكن المرء من الاهتداء إلى مصالحه، كالقوة العقلية و الحواس الباطنة و المشاعر الظاهرة.
الثاني: نصب الدلائل الفارقة بين الحق و الباطل و الصلاح و الفساد، و إليه الإشارة بقوله: وَ هَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ ، و قال: فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى .
الثالث الهداية بإرسال الرسل و إنزال الكتب، و إياها عنى بقوله: وَ جَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا ، و قوله:
إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ .
الرابع: أن يكشف عن قلوبهم السرائر و يريهم الأشياء كما هى بالوحى و الإلهام و المنامات الصادقة. و هذا يختص بنيله الأنبياء و الأولياء، و إياه عنى بقوله: أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ ، وَ الَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا .
البحر المديد فى تفسير القرآن المجيد، ج1، ص: 64
فالمطلوب: إما زيادة ما منحوه من الهدى و الثبات عليه، أو حصول المراتب المترتبة عليه، فإذا قال العارف الواصل عنى بقوله: أرشدنا طريق السير فيك، لتمحو عنا ظلمات أحوالنا، و تميط غواشى أبداننا، لنستضىء بنور قدسك فنراك بنورك. ه.
قلت: قوله الرابع ... إلخ، فى عبارته قلق و اختصار، و الصواب أن يقول: الرابع- أن يكشف عن قلوبهم الظلم و الأغيار، و يشرق عليها الأنوار و الأسرار، و يريهم الأشياء كما هى بالوحى و الإلهام، و باستعمال الفكرة فى عظمة الملك العلّام، حتى تستولى أنوار المعاني على حسّ الأوانى، ثم يقول: و هذا قسم يختص بنيله الأنبياء و الأولياء.
و قوله: فإذا قال العارف .. إلخ، الصواب أن يقول: فإذا قاله المريد السائر؛ لأن الواصل انمحت عنه الظلمات كلها و الغواشي و سائر الأكدار؛ لأن اللّه تعالى غطّى وصفه بوصفه و نعته بنعته، فلم يبق له وصف ظلمانى. و أيضا قوله: [أرشدنا إلى طريق السير] إنما يناسب السائر دون الواصل؛ لأن الواصل ما بقي له إلا الترقي، و لا يسمى فى اصطلاح الصوفية [السير] إلا قبل الوصول. و اللّه تعالى أعلم.
ثم فسرّ الطريق المستقيم، فقال:
[سورة الفاتحة (1): آية 7]
صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَ لا الضَّالِّينَ (7)
قلت: (صراط) بدل من الأول- بدل الكل من الكل- و هو فى حكم تكرير العامل من حيث إنه المقصود بالنسبة، و فائدته: التوكيد و التنصيص على أن طريق المسلمين هو المشهود عليه بالاستقامة، على آكد وجه و أبلغه؛ لأنه جعله كالتفسير و البيان له، فكأنه من البيّن الذي لا خفاء فيه، و أن الصراط المستقيم ما يكون طريق المؤمنين، و غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ بدل من (الذين) على معنى أن المنعم عليهم هم الذين سلموا من الغضب و الضلال.
أو صفة له مبيّنة أو مقيدة على معنى أنهم جمعوا بين النعمة المطلقة، و هى نعمة الإيمان، و بين السلامة من الغضب و الضلال، و ذلك إنما يصح بأحد تأويلين: إجراء الموصول مجرى النكرة، إذ لم يقصد به معهود كالمعرّف فى قوله:
و لقد أمرّ على اللئيم يسبنّى «1» ...
أو يجعل (غير) معرفة؛ لأنه أضيف إلى ماله ضدّ واحد، و هو المنعم عليه، فيتعين تعين الحركة غير السكون، و إلا لزم عليه نعت المعرفة بالنكرة. فتأمله.