کتابخانه تفاسیر
البحر المديد فى تفسير القرآن المجيد، ج1، ص: 64
فالمطلوب: إما زيادة ما منحوه من الهدى و الثبات عليه، أو حصول المراتب المترتبة عليه، فإذا قال العارف الواصل عنى بقوله: أرشدنا طريق السير فيك، لتمحو عنا ظلمات أحوالنا، و تميط غواشى أبداننا، لنستضىء بنور قدسك فنراك بنورك. ه.
قلت: قوله الرابع ... إلخ، فى عبارته قلق و اختصار، و الصواب أن يقول: الرابع- أن يكشف عن قلوبهم الظلم و الأغيار، و يشرق عليها الأنوار و الأسرار، و يريهم الأشياء كما هى بالوحى و الإلهام، و باستعمال الفكرة فى عظمة الملك العلّام، حتى تستولى أنوار المعاني على حسّ الأوانى، ثم يقول: و هذا قسم يختص بنيله الأنبياء و الأولياء.
و قوله: فإذا قال العارف .. إلخ، الصواب أن يقول: فإذا قاله المريد السائر؛ لأن الواصل انمحت عنه الظلمات كلها و الغواشي و سائر الأكدار؛ لأن اللّه تعالى غطّى وصفه بوصفه و نعته بنعته، فلم يبق له وصف ظلمانى. و أيضا قوله: [أرشدنا إلى طريق السير] إنما يناسب السائر دون الواصل؛ لأن الواصل ما بقي له إلا الترقي، و لا يسمى فى اصطلاح الصوفية [السير] إلا قبل الوصول. و اللّه تعالى أعلم.
ثم فسرّ الطريق المستقيم، فقال:
[سورة الفاتحة (1): آية 7]
صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَ لا الضَّالِّينَ (7)
قلت: (صراط) بدل من الأول- بدل الكل من الكل- و هو فى حكم تكرير العامل من حيث إنه المقصود بالنسبة، و فائدته: التوكيد و التنصيص على أن طريق المسلمين هو المشهود عليه بالاستقامة، على آكد وجه و أبلغه؛ لأنه جعله كالتفسير و البيان له، فكأنه من البيّن الذي لا خفاء فيه، و أن الصراط المستقيم ما يكون طريق المؤمنين، و غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ بدل من (الذين) على معنى أن المنعم عليهم هم الذين سلموا من الغضب و الضلال.
أو صفة له مبيّنة أو مقيدة على معنى أنهم جمعوا بين النعمة المطلقة، و هى نعمة الإيمان، و بين السلامة من الغضب و الضلال، و ذلك إنما يصح بأحد تأويلين: إجراء الموصول مجرى النكرة، إذ لم يقصد به معهود كالمعرّف فى قوله:
و لقد أمرّ على اللئيم يسبنّى «1» ...
أو يجعل (غير) معرفة؛ لأنه أضيف إلى ماله ضدّ واحد، و هو المنعم عليه، فيتعين تعين الحركة غير السكون، و إلا لزم عليه نعت المعرفة بالنكرة. فتأمله.
(1) هذا شطر بيت، و تمامه: (فمضيت ثمة قلت لا يعنينى).
البحر المديد فى تفسير القرآن المجيد، ج1، ص: 65
و الغضب: ثوران النفس إرادة الانتقام، فإذا أسند إلى اللّه تعالى أريد غايته و هو العقوبة، و (عليهم) نائب فاعل، و (لا) مزيدة لتأكيد ما فى (غير) من معنى النفي، فكأنه قال: و لا المغضوب عليهم و لا الضالين، و قرأ عمر رضي اللّه عنه (و غير الضالين) و الضلال: العدول عن الطريق السوي عمدا أو خطأ، و له عرض عريض و التفاوت بين أدناه و أقصاه كبير. قاله البيضاوي.
و إنما أسند النعمة إلى اللّه و الغضب إلى المجهول تعليما للأدب، ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ... الآية.
يقول الحق جل جلاله فى تفسير الطريق المستقيم: هو طريق الذين أنعمت عليهم بالهداية و الاستقامة، و المعرفة العامة و الخاصة، من النبيين و الصديقين و الشهداء و الصالحين، و المنعم عليهم فى الآية مطلق، يصدق بكل منعم عليه بالمعرفة و الاستقامة فى دينه، كالصحابة و أضرابهم. و قيل: المراد بهم أصحاب سيدنا موسى عليه السّلام قبل التحريف. و قيل: أصحاب سيدنا عيسى قبل التغيير. و التحقيق أنه عام.
قال البيضاوي: و نعم اللّه و إن كانت لا تحصى كما قال اللّه: وَ إِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوها تنحصر فى جنسين: دنيوى و أخروى.
فالأول: و هو الدنيوي- قسمان: موهبى و كسبى، و الموهبي قسمان: روحانى، كنفخ الروح فيه و إشراقه بالعقل و ما يتبعه من القوى، كالفهم و الفكر و النطق، و جسمانى: كتخليق البدن بالقوة الحالة فيه و الهيئات العارضة له من الصحة و كمال الأعضاء. و الكسبي: كتزكية النفس عن الرذائل، و تحليتها بالأخلاق الحسنة و الملكات الفاضلة، و تزيين البدن بالهيئات المطبوعة و الحلي المستحسنة، و حصول الجاه و المال.
و الثاني: و هو الأخروى-: أن يغفر له ما فرط منه و يرضى عنه و يبوئه فى أعلى علّيين، مع الملائكة المقربين أبد الآبدين، و المراد القسم الأخير، و ما يكون وصلة إلى نيله من القسم الأول، و أما ما عدا ذلك فيشترك فيه المؤمن و الكافر. ه.
قال ابن جزى: النعم التي يقع عليها الشكر ثلاثة أقسام، دنيوية: كالصحة و العافية و المال الحلال. و دينية:
كالعلم و التقوى و المعرفة. و أخروية: كالثواب على العمل القليل بالعطاء الجزيل. و قال أيضا: و الناس فى الشكر على مقامين: منهم من يشكر على النعم الواصلة إليه، الخاصة به، و منهم من يشكر اللّه عن جميع خلقه على النعم الواصلة إلى جميعهم. و الشكر على ثلاث درجات: فدرجة العوام: الشكر على النعم، و درجة الخواص: الشكر على النعم و النقم و على كل حال، و درجة خواص الخواص: أن يغيب عن رؤية النعمة بمشاهدة المنعم. قال رجل
البحر المديد فى تفسير القرآن المجيد، ج1، ص: 66
لإبراهيم بن أدهم رضى اللّه عنه: الفقراء إذا أعطوا شكروا و إذا منعوا صبروا، فقال إبراهيم: هذه أخلاق الكلاب، و لكن القوم إذا منعوا شكروا و إذا أعطوا آثروا. ه.
ثم احترس من الطريق غير المستقيمة، فقال: غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ أي: غير طريق الذين غضبت عليهم، فلا تهدنا إليها و لا تسلك بنا سبيلها، بل سلّمنا من مواردها. و المراد بهم: اليهود، كذا فسرها النبي صلى اللّه عليه و سلّم، و يصدق بحسب العموم على كل من غضب اللّه عليهم، وَ لَا الضَّالِّينَ أي: و لا طريق الضالين، أي: التالفين عن الحق، و هم النصارى كما قال صلى اللّه عليه و سلّم. و التفسيران مأخوذان من كتاب اللّه تعالى. قال تعالى فى شأن اليهود:
فَباؤُ بِغَضَبٍ عَلى غَضَبٍ ، و قال فى حق النصارى: قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَ أَضَلُّوا كَثِيراً وَ ضَلُّوا عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ .
و اعلم أن الحق- سبحانه- قسم خلقه على ثلاثة أقسام: قسم أعدّهم للكرم و الإحسان، ليظهر فيهم اسمه الكريم أو الرحيم، و هم المنعم عليهم بالإيمان و الاستقامة. و قسم أعدّهم للانتقام و الغضب، ليظهر فيهم اسمه المنتقم أو القهار، و هم المغضوب عليهم و الضالون عن طريق الحق عقلا أو عملا، و هم الكفار، و قسم أعدّهم اللّه للحلم و العفو، ليظهر فيهم اسمه تعالى الحليم و العفو، و هم أهل العصيان من المؤمنين.
فمن رام أن يكون الوجود خاليا من هذه الأقسام الثلاثة، و أن يكون الناس كلهم سواء فى الهداية أو ضدها، فهو جاهل باللّه و بأسمائه؛ إذ لا بد من ظهور آثار أسمائه فى هذا الآدمي، من كرم و قهرية و حلم و غير ذلك. و اللّه تعالى أعلم.
الإشارة: الطريق المستقيم التي أمرنا الحق بطلبها هى: طريق الوصول إلى الحضرة، التي هى العلم باللّه على نعت الشهود و العيان، و هو مقام التوحيد الخاص، الذي هو أعلى درجات أهل التوحيد، و ليس فوقه إلا مقام توحيد الأنبياء و الرسل، و لا بدّ فيه من تربية على يد شيخ كامل عارف بطريق السير، قد سلك المقامات ذوقا و كشفا، و حاز مقام الفناء و البقاء، و جمع بين الجذب و السلوك؛ لأن الطريق عويص، قليل خطّاره، كثير قطّاعه، و شيطان هذه الطريق فقيه بمقاماته و نوازله، فلا بد فيه من دليل، و إلا ضل سالكها عن سواء السبيل، و إلى هذا المعنى أشار ابن البنا، حيث قال:
و إنّما القوم مسافرون
لحضرة الحقّ و ظاعنون
فافتقروا فيه إلى دليل
ذى بصر بالسّير و المقيل
قد سلك الطّريق ثمّ عاد
ليخبر القوم بما استفاد
البحر المديد فى تفسير القرآن المجيد، ج1، ص: 67
و قال فى لطائف المنن: (من لم يكن له أستاذ يصله بسلسلة الأتباع، و يكشف له عن قلبه القناع، فهو فى هذا الشأن لقيط لا أب له، دعىّ لا نسب له، فإن يكن له نور فالغالب غلبة الحال عليه، و الغالب عليه وقوفه مع ما يرد من اللّه إليه، لم ترضه سياسة التأديب و التهذيب، و لم يقده زمام التربية و التدريب)، فهذا الطريق الذي ذكرنا هو الذي يستشعره القارئ للفاتحة عند قوله: اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ مع الترقي الذي ذكره الشيخ أبو العباس المرسى رضى اللّه عنه المتقدم، و إذا قرأ صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ استشعر، أي: أنعمت عليهم بالوصول و التمكين فى معرفتك.
و قال الورتجبي: اهدنا مرادك منّا؛ لأن الصراط المستقيم ما أراد الحق من الخلق، من الصدق و الإخلاص فى عبوديته و خدمته. ثم، قال: و قيل: اهدنا هدى العيان بعد البيان، لنستقيم لك حسب إرادتك. و قيل: اهدنا هدى من يكون منك مبدؤه ليكون إليك منتهاه. ثم قال: و قال بعضهم: اهدنا، أي: ثبّتنا على الطريق الذي لا اعوجاج فيه، و هو الإسلام، و هو الطريق المستقيم و المنهاج القويم صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ أي: منازل الذين أنعمت عليهم بالمعرفة و المحبة و حسن الأدب فى الخدمة. ثم قال: غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ يعنى: المطرودين عن باب العبودية، وَ لَا الضَّالِّينَ يعنى المفلسين عن نفائس المعرفة ه.
قلت: و الأحسن أن يقال: غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ هم الذين أوقفهم عن السير اتباع الحظوظ و الشهوات، فأوقعهم فى مهاوى العصيان و المخالفات، وَ لَا الضَّالِّينَ هم الذين حبسهم الجهل و التقليد، فلم تنفذ بصائرهم إلى خالص التوحيد، فنكصوا عن توحيد العيان إلى توحيد الدليل و البرهان، و هو ضلال عند أهل الشهود و العيان، و لو بلغ فى الصلاح غاية الإمكان.
و قال فى الإحياء: إذا قلت بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ* فافهم أن الأمور كلها باللّه، و أن المراد هاهنا المسمّى، و إذا كانت الأمور كلها باللّه فلا جرم أن الحمد كله للّه، ثم قال: و إذا قلت: الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ* فأحضر فى قلبك أنواع لطفه لتتفتح لك رحمته فينبعث به رجاؤك، ثم استشعر من قلبك التعظيم و الخوف من قولك: يَوْمِ الدِّينِ . ثم قال: ثم جدّد الإخلاص بقولك: إِيَّاكَ نَعْبُدُ . و جدّد العجز و الاحتياج و التبرّى من الحول و القوة بقولك: وَ إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ، ثم اطلب اسم حاجتك، و قل: اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ الذي يسوقنا إلى جوارك و يفضى بنا إلى مرضاتك، و زده شرحا و تفصيلا و تأكيدا، و استشهد بالذين أفاض عليهم نعم الهداية من النبيين و الصديقين و الشهداء و الصالحين، دون الذين غضب عليهم من الكفار و الزائغين و اليهود و النصارى و الصابئين.
ه. ملخصا.
البحر المديد فى تفسير القرآن المجيد، ج1، ص: 68
و قال القشيري: قوله تعالى: اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ الأمر فى هذه الآية مضمر، أي: قولوا: اهدنا.
و الصراط المستقيم: طريق الحق، و هو ما عليه أهل التوحيد، أي: أرشدنا إلى الحق لئلا نتكل على وسائط المعاملات، فيقع على وجه التوحيد غبار الظنون و الحسابات لتكون دليلنا عليك. ثم قال: صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ أي: الواصلين بك إليك، ثم قال: غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ بنسيان التوفيق و التّعامى عن رؤية التأييد، وَ لَا الضَّالِّينَ عن شهود سابق الاختيار، و جريان تصاريف الأقدار. ه.
تتمات:
الأولى: هذه السورة جمعت معانى القرآن كلّها، فكأنها نسخة مختصرة منه، و لذلك سميت أمّ القرآن، فالإلهيات حاصلة من قوله: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ. الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ، و الدار الآخرة من قوله: مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ ، و العبادات كلّها من الاعتقادات و الأحكام الظاهرة التي تقتضيها الأوامر و النواهي، من قوله: إِيَّاكَ نَعْبُدُ و المقامات و أسرار المعاملات الباطنة- تخلية و تحلية- من قوله: اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ و الأنبياء و غيرهم من قوله: الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ و ذكر طوائف الكفار من قوله: غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَ لَا الضَّالِّينَ .
و قال الشيخ ابن أبى جمرة رضى اللّه عنه فى بيان تضمنها لكتاب اللّه: إن لفظ (الحمد) يتضمن كل ما فى كتاب اللّه من الحمد و الشكر؛ لأن الحمد أعمّ من الشكر، و أتى بالعام ليدل على الصفتين. و لفظة (اللّه) تدل على ما فى الكتاب العزيز من أسماء الترفيع و التعظيم؛ لأنه قيل: إنه اسم اللّه الأعظم، و لفظ: رَبِّ الْعالَمِينَ يدل على ما فيه من أسماء اللّه، سبحانه، و على العوالم و على اختلافها و خالقها و المتصرف فيها. و لفظ: الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ يتضمن كل ما فى الكتاب من المغفرة و الرحمة و الإنعام و العفو و الإفضال، و لفظ مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ يدل على ما فيه من ذكر الآخرة و ما فيه من الأهوال، و لفظ إِيَّاكَ نَعْبُدُ يتضمن ما فيه من التعبّدات و إفراده بالألوهية، و لفظ إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ يدل على ما فيه من طلب الاستعانة و ذكر الاضطرار، و لفظ اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ يتضمن ما فيه من طلب الهداية إلى سبيل الخير، و لفظ: صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ يتضمن ما فيه من ذكر الخصوص و المرضىّ عنهم و المعفوّ عنهم و أهل السعادة، و لفظ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ يتضمن ما فيه من أنواع الكفر و المخالفات و مساوئهم و مآلهم فاستحقّت أن تسمى أمّا. ه.
البحر المديد فى تفسير القرآن المجيد، ج1، ص: 69
و عن على- كرم اللّه وجهه- قال: (شرح موسى عليه السّلام التوراة فى سبعين سفرا، و لو أذن لى رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلّم لأوقرت على الفاتحة سبعين بعيرا). قلت: قوله (سبعين) تقريبا، و إلا فهى قابلة لأكثر من ذلك، و تفصيل ذلك يطول، و قد ذكرنا أصول علومها فى شرحنا الكبير عليها. و اللّه تعالى أعلم.
الثانية: قال ابن جزىّ: قولنا: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ أفضل عند المحققين من (لا إله إلا اللّه) لوجهين:
أحدهما: ما أخرج النّسائيّ: عن رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلّم «أنه من قال: لا إله إلا اللّه، كتبت له عشرون حسنة، و من قال:
الحمد للّه ربّ العالمين، كتبت له ثلاثون حسنة». و الثاني: أن التوحيد الذي تقتضيه (لا إله إلا اللّه)، حاصل فى قولك: (رب العالمين) و زادت بقولك: الحمد للّه، و فيه من المعاني ما قدّمنا. و أما قوله صلى اللّه عليه و سلّم: «أفضل ما قلته أنا و النبيون من قبلى: لا إله إلا اللّه» فإنما ذلك للتوحيد الذي تقتضيه، و قد شاركتها (الحمد للّه رب العالمين) فى ذلك و زادت عليها. و هذا لمؤمن حقّق إيمانه و طلب الثواب، و أما لمن دخل فى الإسلام فيتعيّن «لا إله إلا اللّه». ه.
قلت: و التحقيق أن كل ما يدل على التوحيد من الألفاظ يكفى فى الدخول فى الإسلام، كما قال البنانىّ فى حاشيته.
الثالثة: قراءة الفاتحة فى الصلاة واجبة عند مالك و الشافعي خلافا لأبى حنيفة، و قد ذكرنا فى الشرح الكبير منشأ الخلاف.
الرابعة: التأمين عند ختم الفاتحة مطلوب للدعاء الذي فيها، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلّم: «ما حسدتكم اليهود على شىء ما حسدتكم على السّلام و التّأمين». رواه ابن ماجة. و قال أيضا صلى اللّه عليه و سلّم: «إن اللّه أعطانى خصالا ثلاثة:
أعطانى صلاة الصّفوف و أعطانى التحية، و إنها لتحية أهل الجنة، و أعطانى التأمين، و لم يعطه أحدا من النبيين قبلى، إلا أن يكون اللّه أعطاه هارون، يدعو موسى و يؤمن هارون» رواه ابن خزيمة. و سمع عليه الصلاة و السلام رجلا يدعو و يلح فقال: «أوجب إن ختم» فقال بعض القوم: بأيّ شىء يختم؟ فقال: «يؤمن؛ فإنه إن ختم بآمين فقد أوجب». قال أبو زهير- راوى الحديث- فإن آمين مثل الطّابع على الصحيفة. و لعلّه مرفوع إلى النبي صلى اللّه عليه و سلّم، رواه أبو داود.
و لفظ آمِّينَ بالمدّ و القصر مخففا. و تشديد الميم لغة. قيل: هو اسم من أسماء اللّه تعالى .. و قيل معناه: اللهم استجب، أو كذلك فافعل، أو كذلك فليكن. قاله المنذرى فى الترغيب. قال البيضاوي: بنى على الفتح كأين لالتقاء الساكنين، و جاء مدّ ألفه و قصرها. قال:
و يرحم اللّه عبدا قال آمينا «1»
(1) هذا شطر بيت، أوله: (يا رب لا تسلبنى حبها أبدا ...) و نسبه ابن منظور فى اللسان إلى عمر بن أبى ربيعة. قلت: و قد أغفل الشيخ المفسر ذكر مثال القصر. و هو كما فى أنوار التنزيل و لسان العرب:
تباعد منى فطحل، إذ سألته
أمين فزاد الله ما بيننا بعدا
البحر المديد فى تفسير القرآن المجيد، ج1، ص: 70
و ليس من القرآن اتفاقا، و لكن يسنّ ختم السورة به لقوله عليه الصلاة و السلام: «علّمنى جبريل عليه السّلام آمين عند فراغى من قراءة الفاتحة». و قال: إنّه كالختم على الكتاب.
و يقوله الإمام و يجهر به فى الجهرية، لما روى عن وائل بن حجر «أنه عليه الصلاة و السلام كان إذا قرأ: وَ لَا الضَّالِّينَ قال: آمين، رفع بها صوته» و عن أبى حنيفة- رحمه اللّه- أنه لا يقوله. و المشهور عنه أنه يخفيه كما رواه عبد اللّه بن مغفل و أنس. قلت: و مشهور مذهب مالك أن الإمام لا يقوله فى الجهرية.