کتابخانه تفاسیر
البحر المديد فى تفسير القرآن المجيد، ج3، ص: 196
فقال له: إن أمّى تستكسيك الدّرع الذي عليك، فدخل داره و نزع قميصه و أعطاه، و قعد عريانا، و أذّن بلال، و انتظره للصلاة، فلم يخرج، فأنزل اللّه: وَ لا تَجْعَلْ يَدَكَ ... الآية «1» .
ثم سلّاه بقوله: إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ ؛ يوسعه لِمَنْ يَشاءُ وَ يَقْدِرُ ؛ يضيقه على من يشاء. فكل ما يصيبك من الضيق فإنما هو لمصلحة باطنية، إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً ؛ يعلم سرهم و علانيتهم، فيعلم من مصالحهم ما يخفى عليهم؛ فيرزقهم على حسب مصالحهم، و يضيق عليهم على قدر صبرهم. و الحاصل: أنه يعطى كل واحد ما يصلح به، و اللّه أعلم.
الإشارة: أمر الحق- جل جلاله- رسوله صلى اللّه عليه و سلم، و خلفاءه ممن كان على قدمه، أن يعطوا حق الواردين عليهم من قرابة الدين و النسب، و المساكين و الغرباء، من البر و الإحسان حسا و معنى؛ كتعظيم ملاقاته، م و إرشادهم إلى ما ينفع بواطنهم، و الإنفاق عليهم، من أحسن ما يجد، حسا و معنى، و خصوصا الإخوان فى اللّه. فكل ما ينفق عليهم فهو قليل فى حقهم، و لا يعد سرفا، و لو أنفق ملء الأرض ذهبا. قال فى القوت: دعا إبراهيم بن أدهم الثورىّ و أصحابه إلى طعام، فأكثر منه، فقال له سفيان: يا أبا إسحاق؛ أما تخاف أن يكون هذا سرفا؟ فقال إبراهيم: ليس فى الطعام سرف. ه. قلت: هذا إن قدّمه إلى الإخوان الذاكرين اللّه؛ قاصدا وجه اللّه، و أما إن قدمه؛ مفاخرة و مباهاة دخله السرف. قاله فى الحاشية الفاسية، و مثله فى تفسير القشيري، و أنه لا سرف فيما كان للّه، و لو أنفق ما أنفق. بخلاف ما كان لدواعى النفس و لو فلسا. ه. و أما الخروج عن المال كله فمذموم، إلا من قوى يقينه، كالصدّيق، و من كان على قدمه. و كذلك الاستقراض على اللّه، و اشتراؤه بالدّين من غير مادة معلومة، إن كان قوى اليقين، و جرّب معاملته مع الحق، فلا بأس بفعل ذلك؛ و إلّا فليكف؛ لئلا يتعرض لإتلاف أموال الناس فيتلفه اللّه. و باللّه التوفيق.
و لما أمر بما يقربنا إليه نهى عما يبعدنا عنه، فقال:
[سورة الإسراء (17): الآيات 31 الى 35]
(1) ذكره البغوي فى تفسيره (5/ 90)، و الواحدي فى أسباب النزول ص 94). و قال الحافظ ابن حجر فى الكافي الشاف: لم أجده.
البحر المديد فى تفسير القرآن المجيد، ج3، ص: 197
قلت: (خَشْيَةَ) : مفعول من أجله؛ لأن الخشية قلبية، بخلاف الإملاق، فإنه حسى؛ فجرّ بمن فى سورة الأنعام. «1» و هذه الآية فى أغنياء العرب، الذين كانوا يخشون وقوع الفقر، و ما فى «الأنعام» نزلت فى فقرائهم، الذين كان الفقر واقعا بهم، و لذلك قدّم هناك كاف الخطاب، و أخّره هنا، فتأمله. و «خِطْأً» يقال: خطئ خطأ، كأثم إثما. و قرأ ابن عامر: «خِطْأً» ، بفتحتين، فهو إما اسم مصدر أخطأ، أو لغة فى خطئ، كمثل و مثل، و حذر و حذر. و قرأ ابن كثير:
«خطاء»؛ بالمد، إما لغة، أو مصدر خاطأ. انظر البيضاوي.
يقول الحق جل جلاله: وَ لا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مخافة الفاقة المستقبلة، و قد كانوا يقتلون البنات- و هو الوأد- مخافة الفقر، فنهاهم عن ذلك، و ضمن لهم أرزاقهم، فقال: نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَ إِيَّاكُمْ، إِنَّ قَتْلَهُمْ كانَ خِطْأً ؛ إثما كَبِيراً ؛ لما فيه من قطع التناسل و انقطاع النوع و إيلام الروح. وَ لا تَقْرَبُوا الزِّنى ، نهى عن مقاربته بالمقدمات. كالعزم، و النظر و شبهه، فأحرى مباشرته، إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً أي: فعلة ظاهرا فحشها و قبحها، وَ ساءَ سَبِيلًا ؛ قبح طريقا طريقه، و هو غصب الأبضاع؛ لما فيه من اختلاط الأنساب و هتك محارم الناس، و تهييج الفتن.
وَ لا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِ ؛ إلا بإحدى ثلاث: كفر بعد إيمان، و زنى بعد إحصان، و قتل مؤمن معصوم؛ عمدا، كما فى الحديث «2» . و يلحق بها أشياء فى معناها: كالحرابة، و ترك الصلاة، و منع الزكاة.
وَ مَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً أي: غير مستوجب للقتل فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ أي: الذي يلى أمره بعد وفاته، و هو الوارث، سُلْطاناً ؛ تسلطا بالمؤاخذة بمقتضى القتل بأخذ الدية، أو القصاص، و قوله: مَظْلُوماً : يدل على أن القتل عمد؛ لأن الخطأ لا يسمى ظلما. أو: جعلنا له حجة غالبة، فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ ؛ بأن يقتل من لا يحق قتله، أو بالمثلة، أو قتل غير القاتل، إِنَّهُ أي: الولي كانَ مَنْصُوراً ؛ حيث وجب القصاص له، و أمر الولاة بمعونته. أو: إنه، أي: المقتول، كان منصورا فى الدنيا؛ بثبوت القصاص ممن قتله، و فى الآخرة بالثواب.
وَ لا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ فضلا عن أن تتصرفوا فيه إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ؛ إلا بالطريقة التي هى أحسن، كالحفظ و التنمية، حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ ؛ حتى يتم رشده، ثم يدفع له، فإن دفعه لمن يتصرف فيه بالمصلحة فلا بأس، وَ أَوْفُوا بِالْعَهْدِ إذا عاهدتم اللّه أو الناس، إِنَّ الْعَهْدَ كانَ مَسْؤُلًا أي: مطلوبا الوفاء
(1) فى قوله تعالى: قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ ... الآية 151.
(2) أخرجه البخاري فى (الديات، باب قول اللّه تعالى: «أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ» ... إلخ)، و مسلم فى (القسامة، باب ما يباح به دم المسلم) عن عبد اللّه بن مسعود، قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم: «لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله و أنى رسول اللّه، إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، و النفس بالنفس، و التارك لدينه المفارق للجماعة».
البحر المديد فى تفسير القرآن المجيد، ج3، ص: 198
به، فيطلب من المعاهد ألا يضيعه، أو: مسئولا عنه، فيسأل عنه الناكث و يعاتب عليه، أو: يسأل العهد نفسه لم نكثت، تبكيتا للناكث، وَ أَوْفُوا الْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ و لا تبخسوا فيه، وَ زِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ ؛ بالميزان السوي. و القسطاس: لغة رومية، و لا يقدح ذلك فى عربية القرآن؛ لأن غير العربي، إذا استعملته العرب، فأجرته مجرى كلامهم فى الإعراب و التعريف و التنكير، صار عربيا. قاله البيضاوي. ذلِكَ خَيْرٌ وَ أَحْسَنُ تَأْوِيلًا أي:
أحسن عاقبة و مآلا. و اللّه تعالى أعلم.
الإشارة: و لا تقتلوا ما أنتجته الأفكار الصافية من العلوم؛ بإهمال القلوب فى طلب رزق الأشباح، خشية لحوق الفقر، فإنّ اللّه ضامن لرزق الأشباح و الأرواح. و لا تميلوا إلى الحظوظ، التي تخرجكم عن حضرة الحق؛ فإن ذلك من أقبح الفواحش. و لا تقتلوا النفس بتوالي الغفلة و الجهل، التي حرّم اللّه قتلها و إهمالها، و أمر بإحيائها بالذكر و العلم، و من قتل بذلك مظلوما؛ بحيث غلبته نفسه، و لم تساعده الأقدار، فقد جعلنا لعقله سلطانا، أي: تسلطا عليها؛ بمجاهدتها و قتلها وردها إلى مولاها، فلا يسرف فى قتلها، بل بسياسة و حيلة، كما قال القائل:
و احتل على النّفس فربّ حيله
أنفع فى النّصرة من قبيله
إنه كان منصورا، إن انتصر بمولاه، و آوى بها إلى شيخ كامل، قد فرغ من تأديب نفسه و هواه. و قد تقدم باقى الإشارة فى سورة الأنعام «1» و غيرها. و باللّه التوفيق.
ثم قال تعالى:
[سورة الإسراء (17): الآيات 36 الى 40]
(1) راجع إشارة الآيتين: 151- 152 من سورة الأنعام.
البحر المديد فى تفسير القرآن المجيد، ج3، ص: 199
قلت: قفا الشيء يقفوه: تبعه. و الضمير فى «عَنْهُ» : يجوز أن يعود لمصدر «لا تَقْفُ» ، أو لصاحب السمع و البصر.
و قيل: إن «مَسْؤُلًا» مسند إلى «عَنْهُ» كقوله تعالى: غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَ لَا الضَّالِّينَ «1» ، و المعنى: يسأل صاحبه عنه، و هو خطأ؛ لأن الفاعل و ما يقوم مقامه لا يتقدم. قاله البيضاوي.
قال ابن جزى: الإشارة فى «أُولئِكَ» : إلى السمع و البصر و الفؤاد، و إنما عاملها معاملة العقلاء فى الإشارة بأولئك؛ لأنها حواس لها إدراك، و الضمير فى «عَنْهُ» : يعود على «كُلُّ» ، و يتعلق «عَنْهُ» بمسئولا. ه. و ضمير الغائب يعود على المصدر المفهوم من «مَسْؤُلًا» . و (مَرَحاً) : مصدر فى موضع الحال. و (مَكْرُوهاً) : نعت لسيئة، أو بدل منها، أو خبر ثان لكان.
يقول الحق جل جلاله: وَ لا تَقْفُ ؛ تتبع ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ، فلا تقل ما لا تحقيق لك به؛ من ذم الناس و رميهم بالغيب. فإذا قلت: سمعت كذا، أو رأيت كذا، أو تحقق عندى كذا، مما فيه نقص لأحد، فإنك تسأل يوم القيامة عن سند ذلك و تحقيقه. و هذا معنى قوله: إِنَّ السَّمْعَ وَ الْبَصَرَ وَ الْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلًا . قال البيضاوي: و لا تتبع ما لم يتعلق علمك به؛ تقليدا، أو رجما بالغيب. و احتج به من منع اتباع الظن، و جوابه: أن المراد بالعلم هو الاعتقاد الراجح المستفاد من سند، سواء كان قطعيا أو ظنيا؛ إذ استعماله بهذا المعنى شائع. و قيل: إنه مخصوص بالعقائد. و قيل: بالرمي و شهادة الزور، و يؤيده قوله صلى اللّه عليه و سلم: «من قفا مؤمنا بما ليس فيه، حبسه اللّه فى ردغة الخبال «2» ، حتّى يأتى بالمخرج» «3» . إِنَّ السَّمْعَ وَ الْبَصَرَ وَ الْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ أي: كل هذا الأعضاء الثلاثة كانَ عَنْهُ مَسْؤُلًا ؛ كل واحد منها مسئول عن نفسه، يعنى: عما فعل به صاحبه. ه مختصرا.
وَ لا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً أي: ذا مرح، و هو: التكبر و الاختيال، إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ ؛ لن تجعل فيها خرقا؛ لشدة وطأتك وَ لَنْ تَبْلُغَ الْجِبالَ طُولًا ؛ تتطاول عليها؛ عزا و علوا، و هو تهكم بالمختال، و تعليل للنهى، أي: إذا كنت لا تقدر على هذا، فلا يناسبك إلا التواضع و التذلل بين يدى خالقك، كُلُّ ذلِكَ المذكور، من قوله: لا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ إلى هنا، و هى: خمس و عشرون خصلة، قال ابن عباس: (إنها المكتوبة فى ألواح موسى)، فكل ما ذكر كانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ «4» أي: خصلة قبيحة مَكْرُوهاً أي: مذموما مبغوضا.
و المراد بما ذكر: من المنهيات دون المأمورات.
(1) من الآية 7 من سورة الفاتحة.
(2) قال ابن الأثير: و ردغة الخبال، جاء فى الحديث أنها عصارة أهل النار ... انظر النهاية (خبل- ردغ).
(3) أخرجه أحمد فى المسند (2/ 70) و أبو داود فى (الأقضية، باب فيمن يعين على خصومة من غير أن يعلم أمرها)، من حديث ابن عمر، بلفظ: «من قال فى مؤمن ما ليس فيه أسكنه الله ردغة الخبال، حتى يخرج مما قال».
(4) قرأ عاصم و ابن عامر و حمزة و الكسائي و خلف «سيئه» بضم الهمز و الهاء مضافا لهاء المذكر الغائب. اسم كان، و قرأ الباقون «سيئة» بفتح الهمزة و نصب تاء التأنيث مع التنوين على التوحيد خبر كان ... انظر الإتحاف (2/ 197) و البحر المحيط (6/ 35).
البحر المديد فى تفسير القرآن المجيد، ج3، ص: 200
ذلِكَ مِمَّا أَوْحى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ ؛ التي هى علم الشرائع، أو معرفة الحق لذاته، و العلم للعمل به.
وَ لا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ ، كرره، للتنبيه على أن التوحيد مبدأ الأمر و منتهاه، و أنه رأس الحكمة و ملاكها، و من عدمه لم تنفعه علومه و حكمه، و لو جمع أساطير الحكماء، و لو بلغت عنان السماء. و الخطاب للرسول صلى اللّه عليه و سلم، و المراد: غيره ممن يتصور منه ذلك. و رتب عليه، أولا: ما هو عاقبة الشرك فى الدنيا، و هو: الذم و الخذلان، و ثانيا:
ما هو نتيجته فى العقبى. فقال: فَتُلْقى فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً ؛ تلوم نفسك، و تلومك الملائكة و الناس، مَدْحُوراً ؛ مطرودا من رحمة اللّه.
ثم قبّح رأيهم فى الشرك، فقال: أَ فَأَصْفاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ ، و هو خطاب لمن قال: الملائكة بنات اللّه.
و الهمزة للإنكار، أي: أ فخصّكم ربكم بأفضل الأولاد، و هم البنون، وَ اتَّخَذَ مِنَ الْمَلائِكَةِ إِناثاً ؛ بنات لنفسه، إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلًا عَظِيماً أي: عظيم النكر و الشناعة، لا يقدر قدره فى إيجاب العقوبة؛ لخرمه لقضايا العقول، بحيث لا يجترئ عليه أحد؛ حيث تجعلونه تعالى من قبيل الأجسام المتجانسة السريعة الزوال، ثم تضيفون إليه ما تكرهونه، و تفضلون عليه أنفسكم بالبنين، ثم جعلتم الملائكة، الذين هم أشرف الخلق، أدونهم، تعالى اللّه عن قولكم علوا كبيرا.
الإشارة: ينبغى للإنسان الكامل أن يكون فى أموره كلها على بينة من ربه، فيحكّم على ظاهره الشريعة المحمدية، و على باطنه الحقيقة القدسية، فإذا تجلى فى باطنه شىء من الواردات أو الخواطر فليعرضه على الكتاب و السنّة، فإن قبلاه أظهره و فعله، و إلّا رده و كتمه، كان ذلك الأمر قوليا أو فعليا، أو تركا أو عقدا؛ فقد انعقد الإجماع على أنه لا يحل لامرئ مسلم أن يقدم على أمر حتى يعلم حكم اللّه فيه، و إليه الإشارة بقوله: وَ لا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ، فإن لم يجد نصا فى الكتاب أو السنة فليستفت قلبه، إن صفا من خوض الحس، و إن لم يصف فليرجع إلى أهل الصفاء، و هم أهل الذكر. قال تعالى: فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ* «1» ، و لا يستفت أهل الظنون، و هم أهل الظاهر، قال تعالى: إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً* «2» .
و قال القشيري فى تفسير الآية هنا: وَ لا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ أي: جانب محاذاة الظنون، و ما لم يطلعك اللّه عليه، فلا تتكلف الوقوف عليه من غير برهان. فإذا أشكل عليك شىء فى حكم الوقت، فارجع إلى اللّه،
(1) من الآية 43 من سورة النحل، و من الآية 7 من سورة الأنبياء.
(2) من الآية 36 من سورة يونس.
البحر المديد فى تفسير القرآن المجيد، ج3، ص: 201
فإن لاح لقلبك وجه من التحقيق فكن مع ما أريد، و إن بقي الحال على حدّ الالتباس فكل علمه إلى اللّه، وقف حيثما وقفت. و يقال: الفرق بين من قام بالعلم، و من قام بالحق: أنّ العلماء يعرفون الشيء أولا، ثم يعملون بعلمهم، و أصحاب الحقائق يجرى، بحكم التصريف عليهم، شىء، و لا علم لهم به على التفصيل، و بعد ذلك يكشف لهم وجهه، فربما يجرى على لسانهم شىء لا يدرون وجهه، ثم بعد فراغهم من النطق به يظهر لقلوبهم برهان ما قالوه من شواهد العلم؛ إذ يتحقق ذلك بجريان الحال فى ثانى الوقت. انتهى. قلت: و إلى هذا المعنى أشار فى الحكم العطائية بقوله: الحقائق ترد فى حال التجلي مجملة، و بعد الوعى يكون البيان، فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ .
قوله تعالى: وَ لا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً ، ورد فى بعض الأخبار، فى صفة مشى الصوفية: أنهم يدبون على أقدامهم دبيب النمل، متواضعين خاشعين، ليس فيه إسراع مخل بالمروءة، و لا اختيال مخل بالتواضع. و اللّه تعالى أعلم.
ثم أمر بالرجوع إلى كتابه، فقال:
[سورة الإسراء (17): آية 41]
وَ لَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا وَ ما يَزِيدُهُمْ إِلاَّ نُفُوراً (41)
يقول الحق جل جلاله: وَ لَقَدْ صَرَّفْنا ؛ بيّنا فِي هذَا الْقُرْآنِ من الأمثال و العبر، و الوعد و الوعيد؛ لِيَذَّكَّرُوا ؛ ليتعظوا به، وَ ما يَزِيدُهُمْ ذلك إِلَّا نُفُوراً عن الحق و عنادا له.
الإشارة: من شأن القلوب الصافية: إذا سمعت كلام الحبيب فرحت و اهتزت، أو خشعت و اقشعرت من هيبة المتكلم، كلّ على ما يليق بمقامه، و من شأن القلوب الخبيثة المكدرة: نفورها من كلام الحق؛ إذ الباطل لا يقاوم الحق، و لا يطيق مواجهته. و اللّه تعالى أعلم.
ثم أبطل مذاهب أهل الشرك، فقال:
[سورة الإسراء (17): الآيات 42 الى 44]
يقول الحق جل جلاله: قُلْ يا محمد: لَوْ كانَ مَعَهُ فى الوجود آلِهَةٌ تستحق أن تعبد، كَما يَقُولُونَ «1» أيها المشركون، أو كما يقول المشركون أيها الرسول، إِذاً لَابْتَغَوْا ؛ لطلبوا
(1) قرأ حفص و ابن كثير: (يقولون) بالياء، و قرأ الآخرون بالتاء،، انظر الإتحاف (2/ 199).
البحر المديد فى تفسير القرآن المجيد، ج3، ص: 202
إِلى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا ؛ طريقا يقاتلونه. و هذا جواب عن مقالتهم الشنعاء. و المعنى: لطلبوا إلى من هو ملك الملك طريقا بالمعاداة، كما تفعل الملوك بعضهم مع بعض. و هذا كقوله: إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ وَ لَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ «1» . و قيل: لابتغوا إليه سبيلا بالتقرب إليه و الطاعة؛ لعلمهم بقدرته، و تحققهم بعجزهم، كقوله: أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ «2» . ثم نزه نفسه عن ذلك فقال: سُبْحانَهُ ؛ تنزيها له وَ تَعالى ؛ ترافع عَمَّا يَقُولُونَ من الشركاء، عُلُوًّا ؛ تعاليا كَبِيراً لا غاية وراءه. كيف لا؛ و هو تعالى فى أقصى غاية الوجود! و هو الوجوب الذاتي، و ما يقولونه؛ من أنّ له تعالى شركاء و أولادا، فى أبعد مراتب العدم، أعنى: الامتناع؛ لأنه من خواص المحدثات الفانية.
تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ «3» أي: تنزهه، وَ الْأَرْضُ وَ مَنْ فِيهِنَ كلها تدل على تنزيهه عن الشريك و الولد، وَ إِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ ؛ ينزهه عما هو من لوازم الإمكان، و توابع الحدوث، بلسان الحال، حيث تدل بإمكانها و حدوثها على الصانع القديم، الواجب لذاته. قاله البيضاوي. و ظاهره: أن تسبيح الأشياء حاليّ لا مقالى، و الراجح أنه مقالى. ثم مع كونه مقاليا لا يختص بقول مخصوص، كما قال الجلال السيوطي، أي:
تقول: سبحان اللّه و بحمده. بل كل أحد يسبح بما يناسب حاله. و إلى هذا يرشد كلام أهل الكشف، حتى ذكر الحاتمي: أن من لم يسمعها مختلفة التسبيح لم يسمعها، و إنما سمع الحالة الغالبة عليه. و ورد فى الحديث:
«ما اصطيد حوت فى البحر، و لا طائر يطير، إلّا بما ضيع من تسبيح اللّه تعالى» «4» . و فى الحديث أيضا: «ما تطلع الشمس فيبقى خلق من خلق اللّه، إلا يسبح اللّه بحمده، إلا ما كان من الشيطان و أعتى بنى آدم». «5» و مذهب أهل السنة: عدم اشتراط البنية للعلم و الحياة، فيصح الخشوع من الجماد، و الخشية للّه و التسبيح منه له.
و قد قال ابن حجر على حديث حنين الجذع: فيه دلالة على أن الجمادات قد يخلق اللّه لها إدراكا كالحيوان، بل كأشرف الحيوان، و فيه تأييد لمن يحمل قوله: وَ إِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ على ظاهره. ه.
و قال ابن عطية: اختلف أهل العلم فى هذا التسبيح؛ فقالت فرقة: هو تجوز، و معناه: أن كل شىء تبدو فيه صفة الصانع الدالة عليه، فتدعو رؤية ذلك إلى التسبيح من المعتبر. و قالت فرقة: قوله: مِنْ شَيْءٍ : لفظه عموم،
(1) من الآية 91 من سورة المؤمنون.
(2) من الآية 57 من سورة الإسراء.
(3) قرأ أبو عمرو و حمزة و الكسائي و حفص و يعقوب: (تسبح) بالتاء، و قرأ الآخرون بالياء، انظر: الاتحاف 2/ 199.
(4) عزاه السيوطي فى الدر (4/ 333) لأبى الشيخ عن مرثد بن أبى مرثد.