کتابخانه تفاسیر
البحر المديد فى تفسير القرآن المجيد، ج4، ص: 356
قلت: «لبثوا»: جواب القسم؛ على المعنى، و إلا لقيل: ما لبثنا.
يقول الحق جل جلاله: وَ يَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ ، أي: القيامة. و سميت بذلك؛ لأنها تقوم آخر ساعة من ساعات الدنيا، و لأنها تقوم فى ساعة واحدة، و صارت علما لها بالغلبة، كالنجم للثريا، فإذا قامت يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ ؛ يحلف الكافرون: ما لَبِثُوا فى قبورهم، أو: فى الدنيا، غَيْرَ ساعَةٍ ، استقلّوا مدّة لبثهم فى القبور، أو: الدنيا، لشدة هول المطلع، أو: لطول مقامهم فى أهوالها، أو: ينسون ما لبثوا، أو: يكذبون. كَذلِكَ كانُوا يُؤْفَكُونَ ، أي: مثل ذلك الصرف كانوا يصرفون فى الدنيا عن الصدق و التصديق، أو: عن الحق حتى يروا الأشياء على غير ما هى عليه، و يقولون: ما هى إلا حياتنا الدنيا و ما نحن بمبعوثين.
وَ قالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَ الْإِيمانَ ، أي: حّصلّوا العلم باللّه و الإيمان بالبعث، و هم الملائكة و الأنبياء، و المؤمنون: لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتابِ اللَّهِ ؛ فى علم اللّه المثبت فى اللوح، أو: فى حكم اللّه و قضائه، أو: القرآن، و هو قوله تعالى: «و من ورائهم برزخ ..» إلخ، أي: لقد مكثتم مدّة البرزخ إِلى يَوْمِ الْبَعْثِ ، ردّوا عليهم ما قالوه، و حلّفوهم عليه، و أطلعوهم على حقيقة الأمر، ثم وبّخوهم على إنكار البعث بقولهم: فَهذا يَوْمُ الْبَعْثِ الذي كنتم تنكرونه، وَ لكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ فى الدنيا أنه حق؛ لتفريطكم فى طلب الحق، و اتباعه. و الفاء جواب شرط «1» مقدر، ينساق إليه الكلام، أي: إن كنتم منكرين للبعث؛ فهذا يومه.
فَيَوْمَئِذٍ لا يَنْفَعُ «2» الَّذِينَ ظَلَمُوا كفروا، مَعْذِرَتُهُمْ : اعتذارهم، و المعذرة: تأنيثها مجازى، فيجوز التذكير و التأنيث، وَ لا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ أي: لا يقال لهم: أرضوا ربّكم بالتوبة، و لا يدعون إلى استرضائه، يقال:
استعتبني فلان فأعتبته، أي: استرضانى فأرضيته.
الإشارة: كل من قصر فى هذه الدار، و صرف أيام عمره فى البطالة، يقصر عليه الزمان عند موته، و يرجع عنده كأنه يوم واحد، فحينئذ يستعتب؛ فلا يعتب، و يطلب الرجعى؛ فلا يجاب، فلا تسأل عن حسرته و خسارته، و العياذ باللّه، و هذا كله مبين فى القرآن، كما قال تعالى:
(1) الفاء، بذاتها، ليست جواب شرط مقدر، و إنما هى واقعة فى جواب شرط مقدر.
(2) قرأ عاصم و حمزة و الكسائي: «ينفع»؛ بالياء. و الباقون: بالتاء .. انظر: الإتحاف (2/ 306)
البحر المديد فى تفسير القرآن المجيد، ج4، ص: 357
[سورة الروم (30): الآيات 58 الى 60]
يقول الحق جل جلاله: وَ لَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ أي: بيّنا لهم فيه من كل مثل، ينبؤهم عن التوحيد و المعاد، و صدق الرسل، و غير ذلك، مما يحتاجون إلى بيانه، وَ لَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ من الآيات الدالة على صدقك، أو: القرآن. لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُبْطِلُونَ ؛ مزورون. و إسناد الإبطال إلى الجميع، مع أن المجيء بالحق واحد؛ مراعاة لمن شايعه معه من المؤمنين، أو: و لقد وصفنا كلّ صفة، كأنها مثل؛ فى غرابتها، و قصصنا عليهم كل قصة عجيبة الشأن، كقصة المبعوثين يوم القيامة، و ما يقولون، و ما يقال لهم، و ما لا ينفع من اعتذارهم، و لا يسمع من استعتابهم، و لكنهم؛ لقسوة قلوبهم، إذا جئتهم بآية من آيات القرآن، قالوا: جئتنا بزور باطل. كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى قُلُوبِ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ ، أي: مثل ذلك الطبع- و هو الختم- يطبع اللّه على قلوب الجهلة؛ الذين علم اللّه منهم اختيار الضلال، حتى سمّوا المحققين مبطلين، و هم أغرق خلق اللّه فى تلك الصفة.
فَاصْبِرْ على أذاهم و عداوتهم، إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ بنصرتك، و إظهار دين الإسلام على كل دى، ن حَقٌ لا بد من إنجازه و الوفاء به، وَ لا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ ؛ لا يحملنّك هؤلاء الذين لا يوقنون بالآخرة على الخفّة و العجلة فى الرد عليهم، أو: لا يحملنّك على الخفة و القلق؛ فزعا مما يقولون؛ فإنهم ضلّال، شاكّون، لا يستغرب منهم ذلك. و قرأ يعقوب: بسكون النون؛ على أنه نون التوكيد الخفيفة.
الإشارة: قد بيّن اللّه فى القرآن ما يحتاج السائرون إليه، من علم الشريعة و الطريقة و الحقيقة، لمن خاض بحر معانيه و أسراره. و لئن جئتهم بآية، من غوامض أسراره؛ ليقول أهل الجمود: هذا إلحاد و باطل. فاصبر؛ إن وعد اللّه بالنصر لأوليائه حق، و لا يحملنك على العجلة من لا يقين عنده. و باللّه التوفيق، و لا حول و لا قوة إلا باللّه العلى العظيم. و صلّى اللّه على سيدنا محمد و آله و صحبه، و سلّم.
البحر المديد فى تفسير القرآن المجيد، ج4، ص: 359
سورة لقمان
مكية، و قيل: إلا قوله: يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَ يُؤْتُونَ الزَّكاةَ ؛ لأن الزكاة فرضت بالمدينة، و هو ضعيف؛ لأن الحق تعالى يخبر بالشيء قبل وقوعه كما تحقق وقوعه. و آياها: أربع و ثلاثون، أو ثلاث و ثلاثون. و مناسبتها لما قبلها قوله: وَ لَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ .. «1» مع قوله: تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ ؛ إذ هو القرآن العظيم. وَ لَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ «2» و هنا: وَ إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا «3» . قيل: و سبب نزولها أن قريشا سألت عن قصة لقمان مع ابنه، و عن بر والديه، فنزلت. قال تعالى:
[سورة لقمان (31): الآيات 1 الى 5]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5)
قلت: هُدىً وَ رَحْمَةً : حالان من الآيات، و العامل: معنى الإشارة. و رفعهما حمزة على الخبر لتلك بعد خبر، أو: خبر عن محذوف، أي: هو، أو: هى هدى. و الموصول: نعت للمحسنين؛ تفسير لإحسانهم، و (هم): مبتدأ، و (يوقنون): خبر. و تكرير الضمير؛ للتوكيد، و لما حيل بينه و بين خبره.
يقول الحق جل جلاله: الم ؛ أيها المصطفى المقرب، تِلْكَ الآيات التي تتلوها هى آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ أي: ذى الحكمة البالغة، أو: الذي أحكمت آياته و أتقنت، أو: المحكم الذي لا ينسخه كتاب. أو:
المصون من التغيير و التبديل. حال كونه هُدىً وَ رَحْمَةً ؛ هاديا لظواهرهم بتبين الشرائع، و رحمة لقلوبهم بتبين حقائق الإيمان، و لأرواحهم بإظهار حقائق الإحسان. و قد تقدم هذا البيان فى قوله: إِذا مَا اتَّقَوْا وَ آمَنُوا «4» الآية. و لذلك خصه بقوله: لِلْمُحْسِنِينَ ، فإنما يكون هدى و رحمة لأهل الإحسان؛ لأنهم هم الذي
(1) من الآية 58 من سورة الروم.
(2) من الآية 58 من سورة الروم.
(3) من الآية السابعة من سورة لقمان.
(4) من الآية 93 من سورة المائدة.
البحر المديد فى تفسير القرآن المجيد، ج4، ص: 360
يغوصون على أسراره و معانيه. و هم الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ ؛ يتقنونها، وَ يُؤْتُونَ الزَّكاةَ على الوجه المشروع، و يدفعونها لمن يستحقها، لا جزاء و لا شكورا، و لا لجلب نفع أو دفع شر، وَ هُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ ، كأنها نصب أعينهم. و خص بالذكر هذه الثلاثة؛ لفضلها؛ فإن الصلاة عماد الدين، و الزكاة قرينتها؛ لأن الأولى عبادة بدنية، و الثانية مالية، و الآخرة هى دار الجزاء، فلو لا وقوعها لكان وجود هذا الخلق عبثا، و تعالى اللّه عنه علوا كبيرا.
ثم مدح المتصف بتلك الخصال فقال: أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ أي: راكبون على متن الهداية، متمكنون منها، وَ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ، الفائزون بكل مطلوب.
الإشارة: قال القشيري: الم ، الألف إشارة إلى آلائه، و اللام إلى لطفه، و الميم إلى مجده و سنائه، فبآلائه دفع الجحد عن قلوب أوليائه، و بلطف عطائه أثبت المحبة فى أسرار أصفيائه، و بمجده و سنائه هو مستغن عن جميع خلقه بوصف كبريائه. ه.
ثم وصف كتابه بأنه هاد للسائرين، رحمة للواصلين؛ إذ لا تكمل الرحمة إلا بشهود الحبيب، يكلمك و يناجيك، و هذه حالة أهل مقام الإحسان. قال القشيري: و شرط المحسن أن يكون محسنا إلى عباد اللّه: دانيهم و قاصيهم، مطيعهم و عاصيهم. ثم قال: الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ ؛ يأتون بشرائطها فى الظاهر- ثم ذكرها-، و فى الباطن يأتون بشروطها؛ من طهارة السّرّ عن العلائق، و ستر عورة الباطن، بتنقيته من العيوب؛ لأن ما كان فيه فاللّه يراه.
فإذا أردت ألا يرى اللّه عيوبك فاحذرها حتى لا تكون. و الوقوف على مكان طاهر: هو وقوف القلب على الحدّ الذي أذن فيه، مما لا يكون فيه دعوى بلا تحقيق، بل رحم اللّه من وقف عند حدّه بالمعرفة بالوقت، فيعلم وقت التذلّل و الاستكانة، و يميز بينه و بين وقت السرور و البسط، و يستقبل القبلة بنفسه، و يعلق قلبه باللّه، من غير تخصيص بقطر أو مكان أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ ؛ و هم الذين اهتدوا فى الدنيا، و سلموا و نجوا فى العقبى. ه.
ثم شفع بضدهم، فقال:
[سورة لقمان (31): الآيات 6 الى 7]
البحر المديد فى تفسير القرآن المجيد، ج4، ص: 361
يقول الحق جل جلاله: وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ أي: ما يلهى به عما يقرب إلى اللّه؛ كالأحاديث التي لا أصل لها، و الخرافات التي لا حقيقة لها، و المضاحك، و فضول الكلام. قيل: نزلت فى النّضر بن الحارث، كان يخرج إلى فارس للتجارة، فيشترى أخبار الأعاجم، ثم يحدث قريشا بها، و يقول: إن محمدا يحدثكم بأخبار عاد و ثمود، و أنا أحدثكم بحديث رستم، و أخبار الأكاسرة، فيستملحون حديثه و لا يسمعون القرآن «1» . و قيل:
كان يشترى القيان، و يحملهن على معاشرة من أراد الإسلام؛ ليصده عنه.
و الاشتراء من الشراء، كما تقدم عن النضر، و من البدل، كقوله: اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيْمانِ «2» . استبدلوه و اختاروه، أي: يختار حديث الباطل على حديث الحق. و إضافة اللهو إلى الحديث؛ للتبيين بمعنى «من»؛ لأن اللهو يكون من الحديث و من غيره، فيبين بالحديث، و المراد بالحديث: الحديث المكروه، كما جاء فى الحديث: «الحديث فى المسجد يأكل الحسنات، كما تأكل البهيمة الحشيش» «3» ، أو: للتبعيض، كأنه قيل: و من الناس من يشترى بعض الحديث الذي فيه اللهو. و قال مجاهد: يعنى: شراء المغنيات و المغنين، أي: يشترى ذات لهو، أو: ذا لهو الحديث.
و قال أبو أمامة: قال عليه الصلاة و السلام: «لا يحل تعليم المغنيات، و لا بيعهن، و أثمانهنّ حرام». و فى مثل هذا نزلت هذه الآية، ثم قال: «و ما من رجل يرفع صوته بالغناء إلا بعث اللّه عليه شيطانين: أحدهما على هذا المنكب، و الآخر على هذا المنكب، فلا يزالان يضربان بأرجلهما حتى يسكت» «4» .
قلت: هذا مقيد بشعر الهوى لأهل الهوى، و أما أهل الحق الذين يسمعون من الحق، فلا يتوجه الحديث لهم، و سيأتى فى الإشارة تحقيقه إن شاء اللّه. ثم قال أبو أمامة رضي اللّه عنه عنه صلى اللّه عليه و سلم: «إن اللّه تعالى بعثني هدى و رحمة للعالمين، و أمرنى ربى بمحو المعازف و المزامير و الأوثان، و الصلب و أمر الجاهلية، و حلف ربى بعزته لا يشرب عبد من عبيدى جرعة خمر متعمدا إلا سقيته مثلها من الصديد يوم القيامة، مغفورا له أو معذبا، و لا سقاها غيره إلا فعلت به مثل ذلك، و لا يتركها عبد من مخافتى إلا سقيته من حياض القدس يوم القيامة». انظر الثعلبي.
ثم قال تعالى: لِيُضِلَ «5» عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أي: فعل ذلك ليضل هو عن طريق اللّه و دينه، أو ليضل غيره عنه، أو عن القرآن، بِغَيْرِ عِلْمٍ أي: جهلا منه بما عليه من الوزر. وَ يَتَّخِذَها أي: السبيل هُزُواً و سخرية. فمن رفع: استأنف، و من نصب، عطفها على (ليضل) «6» ، أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ يمينهم و يخزيهم، و «من»، لإبهامه، يقع على الواحد و الجمع، و المراد: النضر و من تبعه.
(1) ذكره الواحدي فى أسباب النزول (2 356)، و البغوي فى التفسير (6/ 283) عن الكلبي و مقاتل.
(2) من الآية 177 من سورة آل عمران.
(3) قال العراقي فى المغني عن حمل الأسفار (1/ 18): لم أقف له على أصل.
(4) أخرجه الإمام أحمد فى المسند (5/ 252)، و الطبري فى التفسير (21/ 60)، و الطبراني فى الكبير (8/ 212، 251)، و البيهقي فى السنن (6/ 15)، و البغوي فى التفسير (6/ 284)، و الواحدي فى أسباب النزول (ص 357) و ذكره ابن الجوزي فى العلل المتناهية (2/ 198) و أخرجه مختصرا الترمذي و ضعفه فى (التفسير- سورة لقمان 5/ 322، ح 3195).
(5) قرأ ابن كثير و أبو عمرو (ليضل) بفتح الياء. و الباقون بالضم. انظر الإتحاف (2/ 361).
(6) قرأ حفص و حمزة و الكسائي: «و يتخذها»؛ بالنّصب. و قرأ الباقون: «و يتخذها»؛ بالرفع. انظر الإتحاف (2/ 362).
البحر المديد فى تفسير القرآن المجيد، ج4، ص: 362
وَ إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا وَلَّى مُسْتَكْبِراً ؛ أعرض عن تدبرها متكبرا رافعا نفسه عن الإصغاء إلى القرآن، كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها ؛ كأنه لم يسمعها، و لا ذكرت على سمعه. شبّه حاله بحال من لم يسمعها قط، كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً ؛ ثقلا و صمما، فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ ؛ أخبره بأن العذاب يوجعه لا محالة. و ذكر البشارة على سبيل التهكم. و هذا فى مقابلة مدح المحسنين المقيمين المزكين. فكما قال فى المحسنين: أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ، قال فى هؤلاء: أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ ، بعد أن وصفهم بالضلال و الإضلال، فى مقابلة المحسنين بالهداية و الفلاح. و اللّه تعالى أعلم.
الإشارة: لهو الحديث هو كل ما يشغل عن اللّه، و يصد عن حضرة اللّه، كائنا ما كان، سواء كان غناء أو غيره، و إذا كان الغناء يهيج لذكر اللّه، و يحرك الروح إلى حضرة اللّه، كان حقا، و إذا كان يحرك إلى الهوى النفساني كان باطلا. و الحاصل: أن السماع عند الصوفية ركن من أركان الطريقة، بشروطه الثلاثة: الزمان و المكان و الإخوان.
و قد ألف الغزالي تأليفا فى تكفير من أطلق تحريم السماع. و قال فى الإحياء، فى جملة من احتج به المحرّم للسماع:
احتج بقوله تعالى: وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ ، و قد قال ابن مسعود و النخعي و الحسن: إنه الغناء.
و أجاب ما حاصله: أنه إنما يحرم إذا كان استبدالا بالدين، و ليس كل غناء بدلا عن الدين، مشترى به، و مضلا عن سبيل اللّه، و لو قرأ القرآن ليضل عن سبيل اللّه كان حراما. كما حكى عن بعض المنافقين؛ أنه كان يؤم الناس و لا يقرأ إلا بسورة عبس، لما فيها من العتاب مع رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم، فهمّ عمر بقتله. فالإضلال بالشعر و الغناء أولى بالتحريم. ه. و أما إن لم يكن شىء من ذلك، فلا يحرم.
و قال فى القوت، فى كتاب المحبة: و لم يزل الحجازيون، عندنا بمكة، يسمعون السماع فى أفضل أيام السنة، و هى الأيام المعدودات، التي أمر اللّه عز و جل عباده فيها بذكره، أيام التشريق، من وقت عطاء بن أبى رباح، إلى وقتنا هذا، ما أنكره عالم، و كان لعطاء جاريتان تلحّنان، فكان إخوانه يستمعون إليهما، و لم يزل أهل المدينة مواطئين لأهل مكة على السماع إلى زماننا هذا. و أدركنا أبا مروان القاضي، له جوار يسمعن التلحين، قد أعدهن للطوافين. فكان يجمعهن لهم، و يأمرهن بالإنشاد، و كان فاضلا. و سئل شيخنا أبو الحسن بن سالم، فقيل له: إنك تنكر السماع، و قد كان الجنيد و سرى السقطي و ذو النون يسمعون؟ فقال: كيف أنكر السماع و قد أجازه و سمعه من هو خير منى. ه.