کتابخانه تفاسیر
البحر المديد فى تفسير القرآن المجيد، ج5، ص: 145
«لا» فى المسيء؛ لتأكيد النّفى؛ لطول الكلام بالصلة. قَلِيلًا ما تَتَذَكَّرُونَ «1» أي: تذكرا قليلا يتذكرون.
و قرىء بالغيبة، و الخطاب، على الالتفات. إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها ؛ لا شك فى مجيئها؛ لوضوح دلائلها، و إجماع الرّسل على الوعد بوقوعها، وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ ؛ لا يصدقون بوقوعها؛ لقصور نظرهم على ظواهر ما يحسون.
الإشارة: التفكر فى العوالم العلوية و السفلية، يوجب فى القلب عظمة الحق جل جلاله، و باهر قدرته و حكمته، و إتيان البعث لا محالة؛ لنفوذ القدرة فى الجميع. و كون خلق السموات و الأرض أكبر من خلق الإنسان، إنما هو باعتبار الجرم الحسى، و أما باعتبار المعنى؛ فالإنسان أعظم؛ لاشتماله على العوالم كلها، كما قال فى المباحث:
اعقل فأنت نسخة الوجود
للّه ما أعلاك من موجود
أليس فيك العرش و الكرسىّ
و العالم العلوىّ و السّفلىّ؟
ثم أمر بعبادته، أو دعائه، بعد بيان عظمة قدرته، ليكون الداعي موقنا بالإجابة، فقال:
[سورة غافر (40): آية 60]
يقول الحق جل جلاله: وَ قالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أي: اعبدوني أَسْتَجِبْ لَكُمْ أي: أثبكم، و يدل على هذا قوله: إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ ؛ صاغرين أذلاء، أو: اسألونى أعطكم، على ما أريد، فى الوقت الذي أريد. قال القشيري: و الحكمة فى أنه أمر بالسؤال قبل الإجابة، و بالاستغفار قبل المغفرة، أنه حكم فى اللوح أن يعطيك ذلك الشيء الذي تسأله و إن لم تسأل، و لكن أمر بالسؤال، حتى إذا وجدته تظن أنك وجده بدعائك، فتفرح به. قلت: السؤال سبب، و الأسباب غطى بها سر قدرته تعالى. ثم قال:
و يقال: إذا ثبت أن هذا الخطاب للمؤمنين فما من مؤمن يدعو اللّه، و يسأله شيئا، إلا أعطاه إياه، إما فى الدنيا، و إما فى الآخرة. حيث يقال له: هذا ما طلبته فى الدنيا، و قد ادخرته لك إلى هذا اليوم، حتى يتمنى العبد أنه لم يعط شيئا فى الدنيا. ه.
(1) قرأ عاصم، و حمزة، و الكسائي «تتذكرون» بتاءين من فوق، على الخطاب، و قرأ الباقون بالياء و التاء على الغيب .. انظر الإتحاف (2/ 439).
البحر المديد فى تفسير القرآن المجيد، ج5، ص: 146
قلت: فالدعاء كله إذا مستجاب، بوعد القرآن، لكن منه ما يعجّل، و منه ما يؤجّل، و منه ما يصرف عنه به البلاء، كما فى الأثر، و إذا فسر الدعاء بالسؤال كان الاستكبار عنه منزلا منزلة الاستكبار عن العبادة؛ للمبالغة فى الحث عليه. قال صلّى اللّه عليه و سلم: «الدعاء هو العبادة» و قرأ الآية «1» ، و فى رواية: «مخ العبادة» «2» ، و عن ابن عباس:
«وحّدونى أغفر لكم»، فسّر الدعاء بالعبادة، و العبادة بالتوحيد.
الإشارة: اختلف الصوفية أىّ الحالين أفضل؟ هل الدعاء و الابتهال، أو السكوت و الرّضا؟ و المختار أن ينظر العبد ما يتجلى فى قلبه، فإن انشرح للدعاء فهو فى حقه أفضل، و إن انقبض عنه، فالسكوت أولى، و الغالب على أهل التحقيق من العارفين، الغنى باللّه، و الاكتفاء بعلمه، كحال الخليل عليه السّلام، فإنهم إبراهيميون.
قال الورتجبي: أي: ادعوني فى زمن الدعاء الذي جعلته خاصا لإجابة الدعوة، فادعونى فى تلك الأوقات، استجب لكم؛ فإنّ وقوع الإجابة فيها حقيقة بلا شك، و من لم يعرف أوقات الدعاء، فدعاؤه ترك أدب؛ فإن الدعاء فى وقت الاستغفار من قلة معرفة المقامات، فإن السلطان إذا كان غضبان لا يسأل منه، و إذا كان مستبشرا فيكون زمانه زمن العطاء و الكرم.- قلت: هذا فى حق الخصوص، الفاهمين عن اللّه، و أما العموم، فما يناسبهم إلا دوام الدعاء فى الرّخاء و الشدة، قال تعالى: فَلَوْ لا إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا تَضَرَّعُوا «3» ثم قال عن الوراق: ادعوني على حد الاضطرار و الالتجاء، حيث لا يكون لكم مرجع إلى [سواى] «4» ، استجب لكم. ه.
ثم برهن على توحيده، و أنه لا يصح الرّجوع إلا إليه، فقال:
[سورة غافر (40): الآيات 61 الى 65]
(1) أخرجه أبو داود فى (الصلاة، باب الدعاء 2/ 161، ح 1479) و الترمذي فى (الدعوات، باب ما جا فى فضل الدعاء 5/ 426، ح 3372) و قال «حسن صحيح» و ابن ماجه فى (الدعاء، باب فضل الدعاء 2/ 1258، ح 3828) و الحاكم (1/ 490) و صححه، و وافقه الذهبي، من حديث النّعمان بن بشير رضي اللّه عنه.
(2) أخرج هذه الرّواية الترمذي فى (الموضع السابق حديث 3371) من حديث أنس بن مالك رضي اللّه عنه.
(3) من الآية 43 من سورة الأنعام.
(4) فى الأصول [سواه] و المثبت هو الذي فى عرائس البيان.
البحر المديد فى تفسير القرآن المجيد، ج5، ص: 147
يقول الحق جل جلاله: اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ بأن خلقه مظلما باردا، تقلّ فيه الحركات فتستريح فيه الجوارح، وَ جعل النَّهارَ مُبْصِراً أي: مبصرا فيه. فأسند الإبصار إلى النّهار، مجازا، و الأصل فى الحقيقة لأهل النّهار. و قرن الليل بالمفعول له، و النّهار بالحال، و لم يكونا حالين أو مفعولا لهما؛ رعاية لحق المقابلة؛ لأنهما متقابلان معنى؛ لأن الليل مقابل النّهار، فلما تقابلا معنى تقابلا لفظا، مع أن كلّ واحد منهما يؤدى مؤدى الآخر، و لأنه لو قيل: لتبصروا فيه؛ فاتت الفصاحة التي فى الإسناد مجازى، و لو قيل: «ساكنا» لم تتميز الحقيقة من المجاز، إذ الليل يوصف بالسكون على الحقيقة، ألا ترى إلى قولهم: ليل ساج، أي: ساكن لا ريح فيه.
إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عظيم عَلَى النَّاسِ ، حيث تفضّل عليهم بهذه النّعم الجسيمة، و إنما لم يقل:
المتفضل؛ لأن المراد تكثير الفضل، و أنه فضله لا يوازيه فضل، فالتنكير للتعظيم. وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ ؛ لجهلهم بالمنعم، و إغفالهم مواضع النّعم. و تكرير النّاس، و لم يقل: أكثرهم؛ لتخصيص الكفران بهم، و أنهم هم الذين من شأنهم الكفران، كقوله: إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ* «1» .
ذلِكُمُ اللَّهُ أي: ذلكم المنفرد بالأفعال المقتضية للألوهية، من خلق الليل و النّهار؛ هو اللّه رَبُّكُمْ لا ربّا غيره، خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ أخبار مترادفة، أي: الجامع لهذه الأوصاف من الإلهية و الرّبوبية، و إيجاد الأشياء، و الوحدانية، فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ أي: فكيف، و من أىّ وجه تصرفون عن عبادته إلى عبادة الأوثان؟! كَذلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كانُوا بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ أي: مثل ذلك الإفك العجيب، الذي لا وجه له، و لا مصحح له أصلا، يؤفك كلّ من جحد بآياته تعالى من غير تروّ و لا تأمل.
ثم ذكر فضله المتعلق بالمكان، بعد بيان فضله المتعلق بالزمان، فقال: اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَراراً ؛ مستقرا تستقرون عليها بأقدامكم و مساكنكم، وَ السَّماءَ بِناءً ؛ سقفا فوقكم، كالدنيا بيت سقفه السماء،
(1) من الآية 66 من سورة الحج.
البحر المديد فى تفسير القرآن المجيد، ج5، ص: 148
مزّينا بالمصابيح، و بساطه الأرض، مشتملة على ما يحتاج إليه أهل البيت. وَ صَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ ، هذا بيان لفضله المتعلق بالأجسام، أي: صوّركم أحسن تصوير، حيث جعلكم منتصب القامة، بادى البشرة، متناسب الأعضاء و التخطيطات، متهيئا لمناولة الصنائع و اكتساب الكمالات. قيل: لم يخلق اللّه حيوانا أحسن صورة من الإنسان. وَ رَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ أي: اللذائذ، ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ أي: ذلكم المنعوت بتلك النّعوت الجليلة.
هو المستحق للربوبية، فَتَبارَكَ اللَّهُ أي: تعالى بذاته و صفاته رَبُّ الْعالَمِينَ أي: مالكهم و مربيهم، و الكل تحت قدرته مفتقر إليه فى إيجاده و إمداده؛ إذ لو انقطع إمداده لا نهدّ الوجود.
هُوَ الْحَيُ ؛ المنفرد بالحياة الذاتية الحقيقية، لا إِلهَ إِلَّا هُوَ ؛ إذ لا موجود يدانيه فى ذاته و صفاته و أفعاله، فَادْعُوهُ ؛ فاعبدوه مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ أي: الطاعة من الشرك و الرّياء، و قولوا: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ . عن ابن عباس رضي اللّه عنه: من قال «لا إله إلا اللّه»، فليقل على إثرها: الحمد للّه رب العالمين «1» .
الإشارة: اللّه هو الذي جعل ليل القبض لتسكنوا فيه عند اللّه، و نهار البسط لتبصروا نعم اللّه، فتشكروا لتبتغوا زيادة فضله، و جعل أرض النّفوس قرارا لقيام وظائف العبودية، و سماء الأرواح مرقى لشهود عظمة الرّبوبية. قال القشيري: سكون النّاس بالليل- أي: الحسى- على أقسام: فأهل الغفلة يسكنون مع غفلتهم، و أهل المحبة يسكنون بحكم وصلتهم، فشتان بين سكون غفلة، و سكون وصلة، و قوم يسكنون إلى أمثالهم و أشكالهم، و قوم إلى حلاوة أعمالهم، [و بسطهم، و استقبالهم] «2» ، و قوم يعدمون القرار فى ليلهم و نهارهم- أي: لا يسكنون إلى شىء- أولئك أصحاب الاشتياق، أبدا فى الإحراق ه.
و قوله تعالى: وَ صَوَّرَكُمْ أي: صوّر أشباحكم، فأحسن صورتها، حيث بهجها بأنوار معرفته. قال الورتجبي:
فأحسن صوركم بأن ألبستكم أنوار جلالى و جمالى، و اتخاذكم بنفسي، و نفخت من روحى فيكم، الذي أحسن الهياكل من حسنه، و من عكس جماله، فإنه مرآة نورى الجلى للأشباح. ه. قال القشيري: خلق العرش و الكرسي و السموات و الأرض، و جميع المخلوقات، و لم يقل فى شىء منها: فأحسن صورها، بل قاله لمّا خلق هذا الإنسان، و ليس الحسن ما يستحسنه النّاس، و لكن الحسن ما يستحسنه الحبيب، و أنشدوا:
ما حطّك الواشون عن رتبة
عندى، و لا ضرّك مغتاب
كأنّهم أثنوا و لم يعلموا
عليك عندى بالّذى عابوا «3»
(1) أخرجه الطبري (24/ 81) و الحاكم و صححه (2/ 438)، و البيهقي فى الأسماء و الصفات (1/ 179) عن ابن عباس رضي اللّه عنه موقوفا.
(2) فى القشيري: [لبسطهم و استقلالهم].
(3) البيتان لأبى نواس. انظر ديوانه (1/ 109) و نهاية الأرب (2/ 241) و ينسبان أيضا إلى العباس بن الأحنف، كما جاء فى ديوانه (ص 61).
البحر المديد فى تفسير القرآن المجيد، ج5، ص: 149
لم يقل للشمس فى علاها، و لا للأقمار فى ضيائها: فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ و لما انتهى إلينا قال: لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ «1» . ثم قال: و كما أحسن صوركم محى من ديوانكم الزلّات، و أثبت الحسنات، قال اللّه تعالى: يَمْحُوا اللَّهُ ما يَشاءُ وَ يُثْبِتُ . «2» ه.
قوله تعالى: وَ رَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ لذيذ المشاهدة، و أنس الوصلة. و قوله تعالى: هُوَ الْحَيُ الحياة عند المتكلمين لا تتعلق بشىء، و عند الصوفية تتعلق بالأشياء؛ إذ لا قيام لها إلا بأسرار معانى ذاته، و من تحققت حياته من الأولياء بحياة اللّه، بحيث كان له نور يمشى به فى النّاس، كان كلّ من لقيه حييت روحه بمعرفة اللّه، و لذلك يضم الشيخ المريد إليه، إن رآه لم ينهض حاله، ليسرى حاله فيه، يأخذون ذلك من ضم جبريل للنبى- عليهما السّلام. و باللّه التوفيق.
و لمّا كان صلّى اللّه عليه و سلم بين أظهر المشركين؛ نهى عن أن يتصف بصفاتهم، فقال:
[سورة غافر (40): الآيات 66 الى 68]
يقول الحق جل جلاله: قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ أي: تعبدون مِنْ دُونِ اللَّهِ و لم يكن عبدها قط، لَمَّا جاءَنِي الْبَيِّناتُ مِنْ رَبِّي ؛ من الحجج العقلية، و الآيات التنزيلية.
قال الطيبي: معرفة اللّه تعالى و وحدانيته معلومتان بالعقل، و قد ترد الأدلة العقلية فى مضمون السمعية، أما وجوب عبادة اللّه، و تحريم عبادة الأصنام، فحكم شرعى؛ لقوله: قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أي: حرم علىّ، و هذا إنما يتحقق بعد البعثة، خلافا للمعتزلة فى الإيجاب قبل الشرع، للتحسين و التقبيح، و المعنى: أن قضية التقليد توجب ما أنتم
(1) الآية 4 من سورة التين.
(2) من الآية 39 من سورة الرّعد.
البحر المديد فى تفسير القرآن المجيد، ج5، ص: 150
عليه، و لكنى خصصت بأمر دونكم، كما قال إبراهيم: يا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ ما لَمْ يَأْتِكَ ... «1» إلخ كلامه، وَ أُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ ؛ أن أنقاد و أخلص دينى لِرَبِّ الْعالَمِينَ .
هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ أي: أصلكم، و أنتم فى ضمنه، ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ أي: ثم خلقكم خلقا تفصيليا من نطفة تمنى، ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ، ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا أي: أطفالا، و اقتصر على الواحدة؛ لأن المراد الجنس، ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ : متعلق بمحذوف، أي: ثم يبقيكم لتبلغوا أشدّكم، و كذلك ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخاً ، و قيل: عطف على محذوف، علة ليخرجكم، ف «يخرجكم» من عطف علة على أخرى، كأنه قيل: ثم يخرجكم طفلا لتكبروا شيئا فشيئا، ثم لتبلغوا كمالكم فى القوة و العقل، ثم لتكونوا شيوخا، بكسر الشين و ضمها «2» جمع شيخ، و قرىء «شيخا» كقوله: «طفلا».
وَ مِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ عبارة تجرى فى الأدراج المذكورة، فمن النّاس من يموت قبل أن يخرج طفلا، و آخرون قبل الأشدّ، و آخرون قبل الشيخوخة. وَ لِتَبْلُغُوا أَجَلًا مُسَمًّى أي: و فعل ذلك لتبلغوا أجلا مسمى، أي: ليبلغ كلّ واحد منكم أجلا مسمى لا يتعداه، و هو أجل موته، وَ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ؛ و لكى تعقلوا ما فى ذلك من العبر، و الحجج، و فنون الحكم؛ فإنّ ذلك التدريج البديع يقضى بالقدر السابق، و نفوذ القدرة القاهرة؛ لبعد ذلك التفاوت، و الاختلاف العظيم، عن الطبيعة و العلة، و إنما موجب ذلك سبق الاختيار و المشيئة الأزلية، و لذلك عقّبه بقوله:
هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَ يُمِيتُ دفعا لما قد يتوهم- من كونه لم يذكر الفاعل فى قوله: وَ مِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ - أن ذلك من فساد مزاجه، أو قتل غيره قبل أجله، فرفع ذلك الإبهام بقوله: هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَ يُمِيتُ لا غيره، أي: يحيى الأموات، و يميت الأحياء، أو: يفعل الإحياء و الإماتة، فَإِذا قَضى أَمْراً أي: أراد أمرا من الأمور، فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ من غير توقف على شىء من الأشياء أصلا، و هو تمثيل لتأثير قدرته تعالى فى الأشياء عند تعلق إرادته بها، و تصوير سرعة ترتب المكونات على تكوينه، من غير أن يكون هناك أمر و لا مأمور.
الإشارة: إذا دخل المريد مقام التجريد، طالبا لأسرار التوحيد و التفريد، و طلبه العامة بالرجوع للأسباب قبل التمكين، يقول: (إنى نهيت أن أعبد الذين تدعون من دون اللّه ...) الآية. و البينات التي جاءته من ربه، هو اليقين
(1) الآية 43 من سورة مريم.
(2) ضم شين «شيوخا» نافع، و أبو عمرو، و هشام، و حفص، و أبو جعفر، و قرأ الباقون بكسر الشين. انظر الإتحاف (2/ 439).
البحر المديد فى تفسير القرآن المجيد، ج5، ص: 151
الكبير بأن اللّه يرزق أهل التقوى بغير أسباب، لقوله تعالى: وَ مَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً، وَ يَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ «1» . و فى هذا المعنى قال الغزالي رضي اللّه عنه:
تركت للنّاس دينهم و دنياهم
شغلا بذكرك يا دينى و دنياى
قال القشيري: قل يا محمد: إنى نهيت و أمرت بالتبرّى مما عبدتم، و الإعراض عما به اشتغلتم، و الاستسلام للذى خلقنى، و بالنبوة خصّنى. ه. و كما تتربى النّطفة الإنسانية فى الرّحم، تتربى نطفة الإرادة- و هى المعرفة العيانية- فى القلب، فإذا عقد المريد نكاح الصحبة مع الشيخ، قذف فى قلبه نطفة الإرادة، فما زال يربيها له حتى يخرج عن حس دائرة الأكوان، فهى ولادته طفلا، ثم لا يزال يحاذيه بهمته حتى يبلغ أشده، و هو كماله، ثم يكون شيخا مربيا؛ إن أذن له. و اللّه تعالى أعلم.
و فيما ذكر الحق تعالى من أطوار البشر، شواهد ظاهرة، دالة على إثبات البعث، و إنكار ذلك و الجدال فيه، جهالة، كما قال تعالى:
[سورة غافر (40): الآيات 69 الى 76]