کتابخانه تفاسیر
احكام القرآن، ج1، ص: 24
خداج و الخداج الناقصة دل ذلك على جوازها مع النقصان لأنها لو لم تكن جائزة لما أطلق عليها اسم النقصان لأن إثباتها ناقصة ينفى بطلانها إذ لا يجوز الوصف بالنقصان لما لم يثبت منه شيء ألا ترى أنه لا يقال للناقة إذا حالت فلم تحمل أنها قد أخدجت و إنما يقال أخدجت و خدجت إذا ألقت ولدها ناقص الخلقة أو وضعته لغير تمام في مدة الحمل فأما ما لم تحمل فلا توصف بالخداج فثبت بذلك جواز الصلاة بغير فاتحة الكتاب إذ النقصان غير ناف للأصل بل يقتضى ثبوت الأصل حتى يصح وصفها بالنقصان و
قد روى أيضا عباد بن عبد اللّه بن الزبير عن عائشة عن النبي عليه السلام قال (كل صلاة لا يقرأ فيها بفاتحة الكتاب فهي خداج)
فأثبتها ناقصة و إثبات النقصان يوجب ثبوت الأصل على ما وصفنا و
قد روى أيضا عن النبي عليه السلام (أن الرجل ليصلى الصلاة يكتب له نصفها خمسها عشرها)
فلم يبطل جزء بنقصانها* فإن قال قائل
قد روى هذا الحديث محمد بن عجلان عن أبيه عن أبى السائب مولى هشام بن زهرة عن أبى هريرة قال قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم (من صلّى صلاة و لم يقرأ فيها شيئا من القرآن فهي خداج فهي خداج فهي خداج غير تمام)
و هذا الحديث يعارض حديث مالك و ابن عيينة في ذكرهما فاتحة الكتاب دون غيرها و إذا تعارضا سقطا فلم يثبت كونها ناقصة إذا لم يقرأ فيها بفاتحة الكتاب* قيل له لا يجوز أن يعارض مالك و ابن عيينة بمحمد بن عجلان بل السهو و الإغفال أجوز عليه منهما فلا يعترض على روايتهما به و على أنه ليس فيه تعارض إذ جائز أن يكون النبي صلّى اللّه عليه و سلم قد قالهما جميعا قال مرة و ذكر فاتحة الكتاب و ذكر مرة أخرى القراءة مطلقة و أيضا فجائز أن يكون المراد بذكر الإطلاق ما قيد في خبر هذين* فإن قال قائل إذا جوزت أن يكون النبي عليه السلام قد قال الأمرين فحديث محمد بن عجلان يدل على جواز الصلاة بغير قراءة رأسا لإثباته إياها ناقصة مع عدم القراءة رأسا* قيل له نحن نقبل هذا السؤال و نقول كذلك يقتضى ظاهر الخبرين إلا أن الدلالة قامت على أن ترك القراءة يفسدها فحملناه على معنى الخبر الآخر* قال أبو بكر و قد رويت أخبار أخر في قراءة فاتحة الكتاب يحتج بها من يراها فرضا فمنها
حديث العلاء بن عبد الرحمن عن عائشة و عن أبى السائب مولى هشام ابن زهرة عن أبى هريرة عن النبي عليه السلام قال (يقول اللّه تعالى قسمت الصلاة بيني
احكام القرآن، ج1، ص: 25
و بين عبدى نصفين فنصفها لي و نصفها لعبدي فإذا قال العبد الحمد للّه رب العالمين قال اللّه تعالى حمدنى عبدى)
و ذكر الحديث قالوا فلما عبر بالصلاة عن قراءة فاتحة الكتاب دل على أنها من فروضها كما أنه لما عبر عن الصلاة بالقرآن في قوله [وَ قُرْآنَ الْفَجْرِ] و أراد قراءة صلاة الفجر دل على أنها من فروضها و كما عبر عنها بالركوع فقال [وَ ارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ] دل على أنه من فروضها* قيل له لم تكن العبارة عنهما لما ذكرت موجبا لفرض القراءة و الركوع فيها دون ما تناوله من لفظ الأمر المقتضى للإيجاب و ليس في قوله قسمت الصلاة بيني و بين عبدى أمر و إنما أكثر ما فيه الصلاة بقراءة فاتحة الكتاب و ذلك غير مقتض للإيجاب لأن الصلاة تشتمل على النوافل و الفروض و قد أفاد النبي عليه السلام بهذا الحديث نفى إيجابها لأنه
قال في آخره فمن لم يقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج
فأثبتها ناقصة مع عدم قراءتها و معلوم أنه لم يرد نسخ أول كلامه بآخره فدل ذلك على أن قول اللّه تعالى قسمت الصلاة بيني و بين عبدى نصفين و ذكر فاتحة الكتاب لا يوجب أن يكون قراءتها فرضا فيها و هذا كما
روى شعبة عن عبد ربه بن سعيد عن أنس ابن أبى أنس عن عبد اللّه بن نافع بن العميان عن عبد اللّه بن الحارث عن المطلب ابن أبى وداعة قال قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم (الصلاة مثنى مثنى و تشهد في كل ركعتين و تبأس و تمكن و تقنع لربك و تقول اللهم فمن لم يفعل فهي خداج)
و لم يوجب ذلك أن يكون ما سماه صلاة من هذه الأفعال فرضا فيها و مما يحتاج به المخالفون أيضا
حديث عبادة ابن الصامت أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم قال (لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب)
و بما حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا ابن بشار قال حدثنا جعفر عن أبى عثمان عن أبى هريرة قال أمرنى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم أن أنادى أن لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب
فما زاد*
قال أبو بكر قوله عليه السلام (لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب)
يحتمل لنفى الأصل و نفى الكمال و إن كان ظاهره عندنا على نفى الأصل حتى تقوم الدلالة على أن المراد نفى الكمال و معلوم أنه غير جائز إرادة الأمرين جميعا لأنه متى أراد نفى الأصل لم يثبت منه شيء و إذا أراد نفى الكمال و إثبات النقصان فلا محالة بعضه ثابت و إرادتهما معا منتفية مستحيلة و الدليل على أنه لم يرد نفى الأصل أن إثبات ذلك إسقاط التخيير في قوله تعالى [فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ] و ذلك نسخ و غير جائز نسخ القرآن
احكام القرآن، ج1، ص: 26
بأخبار الآحاد و يدل عليه أيضا ما
رواه أبو حنيفة و أبو معاوية و ابن فضيل و أبو سفيان عن أبى نضرة عن سعيد عن النبي صلّى اللّه عليه و سلم قال (لا تجزى صلاة لمن لم يقرأ في كل ركعة بالحمد للّه و سورة)
في الفريضة و غيرها إلا أن أبا حنيفة قال معها غيرها و قال معاوية لا صلاة و معلوم أنه لم يرد نفى الأصل و إنما مراده نفى الكمال لاتفاق الجميع على أنها مجزية بقراءة فاتحة الكتاب و إن لم يقرأ معها غيرها فثبت أنه أراد نفى الكمال و إيجاب النقصان و غير جائز أن يريد به نفى الأصل و نفى الكمال لتضادهما و استحالة إرادتهما جميعا بلفظ واحد* فإن قال قائل هذا حديث غير حديث عبادة و أبى هريرة و جائز أن يكون النبي صلّى اللّه عليه و سلم قال مرة لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب فأوجب بذلك قراءتها و جعلها فرضا فيها و قال مرة أخرى ما ذكره سعيد من قراءة فاتحة الكتاب و شيء معها و أراد به نفى الكمال إذا لم يقرأ مع فاتحة الكتاب غيرها* قيل له ليس معك تاريخ الحديثين و لا أن النبي صلّى اللّه عليه و سلم قال ذلك في حالين و يحتاج إلى دلالة في إثبات كل واحد من الخبرين في الحالين و لمخالفك أن يقول لما لم يثبت أن النبي عليه السلام قال ذلك في وقتين و قد ثبت اللفظان جميعا جعلتهما حديثا واحدا ساق بعض الرواة لفظه على وجهه و أغفل بعضهم بعض ألفاظه و هو ذكر السورة فهما متساويان حينئذ و يثبت الخبر بزيادة في حالة واحدة و يكون لقول خصمك مزية على قولك و هو أن كل ما لم يعرف تاريخه فسبيله أن يحكم بوجودهما معا و إذا ثبت أنه قالهما في وقت واحد بزيادة السورة فمعلوم أنه مع ذكر السورة لم يرد نفى الأصل و إنما أراد إثبات النقص حملناه على ذلك و يكون ذلك
كقوله عليه السلام (لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد و من سمع النداء فلم يجب فلا صلاة له و لا إيمان لمن لا أمانة له)
و كقوله تعالى [إِنَّهُمْ لا أَيْمانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ أَ لا تُقاتِلُونَ قَوْماً نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ] فنفاها بدأ و أثبتها ثانيا لأنه أراد نفى الكمال لا نفى الأصل أى لا أيمان لهم وافية فيفون بها* فإن قال قائل فهلا استعملت الأخبار على ظواهرها و استعملت التخيير المذكور في الآية فيما عدا فاتحة الكتاب* قيل له لو انفردت الأخبار عن الآية لما كان فيها ما يوجب فرض قراءة فاتحة الكتاب لما بينا من أن فيها ما لا يحتمل إلا إثبات الأصل مع تركها و احتمال سائر الأخبار الأخر لنفى الأصل و نفى الكمال و على أن هذه الأخبار لو كانت موجبة
احكام القرآن، ج1، ص: 27
لتعيين فرض القراءة فيها لما جاز الاعتراض بها على الآية و صرفها عن الواجب إلى النفل فيما عدا فاتحة الكتاب لما ذكرناه في أول المسألة فارجع إليه فإنك تجده كافيا إن شاء اللّه تعالى.
فصل قال أبو بكر و قراءة فاتحة الكتاب مع ما ذكرنا من حكمها تقتضي أمر اللّه تعالى إيانا بفعل الحمد و تعليم لنا كيف نحمده و كيف الثناء عليه و كيف الدعاء له و دلالة على أن تقديم الحمد و الثناء على اللّه تعالى على الدعاء أولى و أحرى بالإجابة لأن السورة مفتتحة
بذكر الحمد ثم بالثناء على اللّه و هو قوله [الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ] إلى [مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ]
ثم الاعتراف بالعبادة له و إفرادها له دون غيره بقوله [إِيَّاكَ نَعْبُدُ] ثم الاستعانة به في القيام بعبادته في سائر ما بنا الحاجة إليه من أمور الدنيا و الدين و هو قوله [وَ إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ]
ثم الدعاء بالتثبيت على الهداية التي هدانا لها من وجوب الحمد له و استحقاق الثناء و العبادة لأن قوله [اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ] هو دعاء للهداية و التثبيت عليها في المستقبل إذ غير جائز ذلك في الماضي و هو التوفيق عما ضل عنه الكفار من معرفة اللّه و حمده و الثناء عليه فاستحقوا لذلك غضبه و عقابه و الدليل على أن قوله تعالى [الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ] مع أنه تعليم لنا الحمد هو أمر لنا به قوله [إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَ إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ] فاعلم أن الأمر بقول الحمد مضمر في ابتداء السورة و هو مع ما ذكرنا رقية و عوذة و شفاء لما
حدثنا به عبد الباقي قال حدثنا معاذ بن المثنى قال حدثنا سعيد بن المعلى قال حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن جعفر بن أياس عن أبى نضرة عن أبى سعيد قال كنا في سرية فمررنا بحي من العرب فقالوا سيد لنا لدغته العقرب فهل فيكم راق قال قلت أنا و لم أفعله حتى جعلوا لنا جعلا جعلوا لنا شاة قال فقرأت عليه فاتحة الكتاب سبع مرات فبرأ فأخذت الشاة ثم قلت حتى نأتى النبي عليه السلام فأتيناه فأخبرناه فقال علمت أنها رقية حق اضربوا لي معكم بسهم
* و لهذه السورة أسماء منها أم الكتاب لأنها ابتدءوه قال* الشاعر* الأرض معقلنا و كانت أمنا* فسمى الأرض أما لنا لأنه منها ابتدأنا اللّه تعالى و هي أم القرآن و إحدى العبارتين تغنى عن الأخرى لأنه إذا قيل أم الكتاب فقد علم أن المراد كتاب اللّه تعالى الذي هو القرآن فقيل تارة أم القرآن و تارة أم الكتاب و قد رويت العبارة باللفظين جميعا عن النبي عليه السلام و كذلك فاتحة الكتاب و هي السبع
احكام القرآن، ج1، ص: 28
المثاني قال سعيد بن جبير سألت ابن عباس عن السبع المثاني فقال السبع المثاني هي أم القرآن و إنما أراد بالسبع أنها سبع آيات و معنى المثاني أنها تثنى في كل ركعة و ذلك من سنتها و ليس من سنة سائر القرآن إعادته في كل ركعة.
أحكام سورة البقرة
قوله تعالى [الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَ مِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ] يتضمن الأمر بالصلاة و الزكاة لأنه جعلهما من صفات المتقين و من شرائط التقوى كما جعل الإيمان بالغيب و هو الإيمان باللّه و بالبعث و النشور و سائر ما لزمنا اعتقاده من طريق الاستدلال من شرائط التقوى فاقتضى ذلك إيجاب الصلاة و الزكاة المذكورتين في الآية* و قد قيل في إقامة الصلاة وجوه منها إتمامها من تقويم الشيء و تحقيقه و منه قوله [وَ أَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ] و قيل يؤدونها على ما فيها من قيام و غيره فعبر عنها بالقيام لأن القيام من فروضها و إن كانت تشتمل على فروض غيره كقوله [فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ] و المراد الصلاة التي فيها القراءة و قوله تعالى [وَ قُرْآنَ الْفَجْرِ] المراد القراءة في صلاة الفجر و كقوله [وَ إِذا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ] و قوله [ارْكَعُوا وَ اسْجُدُوا] و قوله [وَ ارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ] فذكر ركنا من أركانها الذي هو من فروضها و دل به على أن ذلك فرض فيها و على إيجاب ما هو من فروضها فصار قوله [يُقِيمُونَ الصَّلاةَ] موجبا للقيام فيها و مخبرا به عن فرض للصلاة و يحتمل [يُقِيمُونَ الصَّلاةَ] يديمون فروضها في أوقاتها كقوله تعالى [إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً] أى فرضا في أوقات معلومة لها و نحوه قوله تعالى [قائِماً بِالْقِسْطِ] يعنى يقيم القسط و لا يفعل غيره و العرب تقول في الشيء الراتب الدائم قائم و في فاعله مقيم يقال فلان يقيم أرزاق الجند و قيل هو من قول القائل قامت السوق إذا حضر أهلها فيكون معناه الاشتغال بها عن غيرها و منه قد قامت الصلاة و هذه الوجوه على اختلافها تجوز أن تكون مرادة بالآية و قوله [وَ مِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ] في فحوى الخطاب دلالة على أن المراد المفروض من النفقة و هي الحقوق الواجبة للّه تعالى من الزكاة و غيرها كقوله تعالى وَ أَنْفِقُوا مِنْ ما رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ و قوله [وَ أَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ] و قوله [وَ الَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَ الْفِضَّةَ وَ لا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللَّهِ] و الذي يدل على أن المراد المفروض منها أنه قرنها
احكام القرآن، ج1، ص: 29
إلى الصلاة المفروضة و إلى الإيمان باللّه و كتابه و جعل هذا الإنفاق من شرائط التقوى و من أوصافها و يدل على أن المراد المفروض من الصلاة و الزكاة أن لفظ الصلاة إذا أطلق غير مقيد بوصف أو شرط يقتضى الصلوات المعهودة المفروضة كقوله [أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ] و [حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَ الصَّلاةِ الْوُسْطى] و نحو ذلك فلما أراد بإطلاق اللفظ الصلاة المفروضة كان فيه دلالة على أن المراد بالإنفاق ما فرض عليه منه و لما مدح هؤلاء بالإنفاق مما رزقهم اللّه دل ذلك على أن إطلاق اسم الرزق إنما يتناول المباح منه دون المحظور و إن ما اغتصبه و ظلم فيه غيره لم يجعله اللّه له رزقا لأنه لو كان رزقا له لجاز إنفاقه و إخراجه إلى غيره على وجه الصدقة و التقرب به إلى اللّه تعالى و لا خلاف بين المسلمين إن الغاصب محظور عليه الصدقة بما اغتصبه و كذلك
قال النبي عليه السلام (لا تقبل صدقة من غلول)
و الرزق الحظ في اللغة قال اللّه تعالى [وَ تَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ] أى حظكم من هذا الأمر التكذيب به و حظ الرجل هو نصيبه و ما هو خالص له دون غيره و لكنه في هذا الموضع هو ما منحه اللّه تعالى عباده و هو المباح الطيب* و للرزق وجه آخر و هو ما خلقه اللّه تعالى من أقوات الحيوان فجائز إضافة ذلك إليه لأنه جعله قوتا و غذاء*
و قوله تعالى في شأن المنافقين و إخباره عنهم بإظهار الإيمان للمسلمين من غير عقيدة و إظهار الكفر لإخوانهم من الشياطين في قوله [وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَ بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَ ما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ]
و قوله [يُخادِعُونَ اللَّهَ وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ ما يَخْدَعُونَ] إلى قوله
[وَ إِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَ إِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ] يحتج به في استتابة الزنديق الذي اطلع منه على إسرار الكفر متى أظهر الإيمان لأن اللّه تعالى أخبر عنهم بذلك و لم يؤمر بقتلهم و أمر النبي عليه السلام بقبول ظاهرهم دون ما علمه هو تعالى من حالهم و فساد اعتقادهم و ضمائرهم و معلوم أن نزول هذه الآيات بعد فرض القتال لأنها نزلت بالمدينة و قد كان اللّه تعالى فرض قتال المشركين بعد الهجرة و لهذه الآية نظائر في سورة براءة و سورة محمد عليه السلام و غيرهما في ذكر المنافقين و قبول ظاهرهم دون حملهم على أحكام سائر المشركين الذين أمرنا بقتالهم و إذا انتهينا إلى مواضعها ذكرنا أحكامها و اختلاف الناس في الزنديق و احتجاج من يحتج بها في ذلك و هو يظهر من
قوله عليه السلام (أمرت أن
احكام القرآن، ج1، ص: 30
أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا اللّه فإذا قالوها عصموا منى دماءهم و أموالهم إلا بحقها و حسابهم على اللّه)
و أنكر عن أسامة بن زيد حين قتل في بعض السرايا رجلا قال لا إله إلا اللّه حين حمل عليه ليطعنه
فقال (هلا شققت عن قلبه)
يعنى أنه محمول على حكم الظاهر دون عقد الضمير و لا سبيل لنا إلى العلم به* قال أبو بكر و قوله تعالى [وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَ بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَ ما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ] يدل على أن الإيمان ليس هو الإقرار دون الإعتقاد لأن اللّه تعالى قد أخبر عن إقرارهم بالإيمان و نفى عنهم سمته بقوله و ما هم بمؤمنين و يروى عن مجاهد أنه قال في أول البقرة أربع آيات في نعت المؤمنين و آيتان في نعت الكافرين و ثلاث عشرة آية في نعت المنافقين* و النفاق اسم شرعي جعله سمة لمن يظهر الإيمان و يسر الكفر خصوا بهذا الإسم للدلالة على معناه و حكمه و إن كانوا مشركين إذ كانوا مخالفين لسائر المبادين بالشرك في أحكامهم و أصله في اللغة من نافقاء اليربوع و هو الجحر الذي يخرج منه إذا طلب لأن له اجحرة «1» يدخل بعضها عند الطلب ثم يراوغ الذي يريد صيده فيخرج من جحر آخر قد أعده* و قوله تعالى [يُخادِعُونَ اللَّهَ وَ الَّذِينَ آمَنُوا] هو مجاز في اللغة لأن الخديعة في الأصل هي الإخفاء و كأن المنافق أخفى الإشراك و أظهر الإيمان على وجه الخداع و التمويه و الغرور لمن يخادعه و اللّه تعالى لا يخفى عليه شيء و لا يصح أن يخادع في الحقيقة و ليس يخلو هؤلاء القوم الذين وصفهم الله تعالى بذلك من أحد وجهين إما أن يكونوا عارفين باللّه تعالى قد علموا أنه لا يخدع بتساتر بشيء أو غير عارفين فذلك أبعد إذ لا يصح أن يقصده لذلك و لكنه أطلق ذلك عليهم لأنهم عملوا عمل المخادع و وبال الخداع راجع عليهم فكأنهم إنما يخادعون أنفسهم و قيل إن المراد يخادعون رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم فحذف ذكر النبي عليه السلام كما قال [إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ] و المراد يؤذون أولياء اللّه و أى الوجهين كان فهو مجاز و ليس بحقيقة و لا يجوز استعماله إلا في موضع يقوم الدليل عليه و إنما خادعوا رسول اللّه تقية لتزول عنهم أحكام سائر المشركين الذين أمر النبي عليه السلام و المؤمنون بقتلهم و جائز أن يكونوا أظهروا الإيمان للمؤمنين ليوالوهم كما يوالى المؤمنون بعضهم بعضا و يتواصلون فيما بينهم و جائز أن يكونوا يظهرون لهم الإيمان ليفشوا إليهم أسرارهم