کتابخانه تفاسیر
التحرير و التنوير
الجزء الأول
2 - سورة البقرة
الجزء الثاني
تتمة سورة البقرة
الجزء الثالث
3 - سورة آل عمران
الجزء الرابع
4 - سورة النساء
الجزء الخامس
5 - سورة المائدة
الجزء السادس
6 - سورة الأنعام
الجزء السابع
تتمة سورة الانعام
الجزء الثامن
7 - سورة الأعراف
الجزء التاسع
8 - سورة الأنفال
الجزء العاشر
9 - سورة التوبة
الجزء الحادي عشر
10 - سورة يونس
11 - سورة هود
الجزء الثاني عشر
12 - سورة يوسف
13 - سورة الرعد
14 - سورة إبراهيم
الجزء الثالث عشر
15 - سورة الحجر
16 - سورة النحل
الجزء الرابع عشر
17 - سورة الإسراء
الجزء الخامس عشر
18 - سورة الكهف
الجزء السادس عشر
19 - سورة مريم
20 - سورة طه
الجزء السابع عشر
21 - سورة الأنبياء
22 - سورة الحج
الجزء الثامن عشر
23 - سورة المؤمنين
24 - سورة النور
الجزء التاسع عشر
25 - سورة الفرقان
26 - سورة الشعراء
27 - سورة النمل
الجزء العشرون
28 - سورة القصص
29 - سورة العنكبوت
الجزء الحادي و العشرون
30 - سورة الروم
31 - سورة لقمان
32 - سورة السجدة
33 - سورة الأحزاب
الجزء الثاني و العشرون
34 - سورة سبأ
35 - سورة فاطر
36 - سورة يس
الجزء الثالث و العشرون
37 - سورة الصافات
38 - سورة ص
الجزء الرابع و العشرون
39 - سورة الزمر
40 - سورة المؤمن
الجزء الخامس و العشرون
41 - سورة فصلت
42 - سورة الشورى
43 - سورة الزخرف
44 - سورة الدخان
45 - سورة الجاثية
الجزء السادس و العشرون
46 - سورة الأحقاف
47 - سورة محمد
48 - سورة الفتح
49 - سورة الحجرات
50 - سورة ق
الجزء السابع و العشرون
51 - سورة الذاريات
52 - سورة الطور
53 - سورة النجم
54 - سورة القمر
55 - سورة الرحمن
56 - سورة الواقعة
57 - سورة الحديد
الجزء الثامن و العشرون
58 - سورة المجادلة
59 - سورة الحشر
60 - سورة الممتحنة
63 - سورة المنافقون
64 - سورة التغابن
66 - سورة التحريم
الجزء التاسع و العشرون
67 - سورة الملك
68 - سورة القلم
69 - سورة الحاقة
70 - سورة المعارج
71 - سورة نوح
72 - سورة الجن
73 - سورة المزمل
74 - سورة المدثر
75 - سورة القيامة
76 - سورة الإنسان
77 - سورة المرسلات
الجزء الثلاثون
78 - سورة النبأ
79 - سورة النازعات
83 - سورة المطففين
85 - سورة البروج
88 - سورة الغاشية
التحرير و التنوير، ج1، ص: 103
عليه من الإخبار عن المغيّبات مما دل على أنه منزل من علّام الغيوب، و قد يدخل في هذه الجهة ما عده عياض في «الشفاء» وجها رابعا من وجوه إعجاز القرآن و هو ما أنبأ به من أخبار القرون السالفة مما كان لا يعلم منه القصة الواحدة إلا الفذّ من أحبار أهل الكتاب، فهذا معجز للعرب الأميين خاصة و ليس معجزا لأهل الكتاب؛ و خاصّ ثبوت إعجازه بأهل الإنصاف من الناظرين في نشأة الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم و أحواله، و ليس معجزا للمكابرين فقد قالوا إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ [النحل: 103].
فإعجاز القرآن من الجهتين الأولى و الثانية متوجه إلى العرب، إذ هو معجز لفصحائهم و خطبائهم و شعرائهم مباشرة، و معجز لعامتهم بواسطة إدراكهم أن عجز مقارعيه عن معارضته مع توفر الدواعي عليه هو برهان ساطع على أنه تجاوز طاقة جميعهم. ثم هو بذلك دليل على صدق المنزّل عليه لدى بقية البشر الذين بلغ إليهم صدى عجز العرب بلوغا لا يستطاع إنكاره لمعاصريه بتواتر الأخبار، و لمن جاء بعدهم بشواهد التاريخ.
فإعجازه للعرب الحاضرين دليل تفصيلي، و إعجازه لغيرهم دليل إجمالي.
ثم قد يشارك خاصة العرب في إدراك إعجازه كلّ من تعلم لغتهم و مارس بليغ كلامهم و آدابهم من أئمة البلاغة العربية في مختلف العصور، و هذا معنى قول السكاكي في «المفتاح» مخاطبا للناظر في كتابه «متوسلا بذلك (أي بمعرفة الخصائص البلاغية التي هو بصدد الكلام عليها إلى أن تتأنّق في وجه الإعجاز في التنزيل منتقلا مما أجمله عجز المتحدّين به عندك إلى التفصيل».
و القرآن معجز من الجهة الثالثة للبشر قاطبة إعجازا مستمرا على ممر العصور، و هذا من جملة ما شمله قول أئمة الدين: إن القرآن هو المعجزة المستمرة على تعاقب السنين، لأنه قد يدرك إعجازه العقلاء من غير الأمة العربية بواسطة ترجمة معانيه التشريعية و الحكمية و العلمية و الأخلاقية، و هو دليل تفصيلي لأهل تلك المعاني و إجمالي لمن تبلغه شهادتهم بذلك.
و هو من الجهة الرابعة- عند الذين اعتبروها زائدة على الجهات الثلاث- معجز لأهل عصر نزوله إعجازا تفصيليا، و معجز لمن يجيىء بعدهم ممن يبلغه ذلك بسبب تواتر نقل القرآن، و تعيّن صرف الآيات المشتملة على هذا الإخبار إلى ما أريد منها.
هذا ملاك الإعجاز بحسب ما انتهى إليه استقراؤنا إجمالا، و لنأخذ في شيء من تفصيل ذلك و تمثيله.
التحرير و التنوير، ج1، ص: 104
فأما الجهة الأولى فمرجعها إلى ما يسمّى بالطرف الأعلى من البلاغة و الفصاحة، و هو المصطلح على تسميته حدّ الإعجاز، فلقد كان منتهى التنافس عند العرب بمقدار التفوق في البلاغة و الفصاحة، و قد وصف أئمة البلاغة و الأدب هذين الأمرين بما دوّن له علما المعاني و البيان، و تصدّوا في خلال ذلك للموازنة بين ما ورد في القرآن من ضروب البلاغة و بين أبلغ ما حفظ عن العرب من ذلك مما عدّ في أقصى درجاتها. و قد تصدى أمثال أبي بكر الباقلاني و أبي هلال العسكري و عبد القاهر و السّكّاكي و ابن الأثير، إلى الموازنة بين ما ورد في القرآن و بين ما ورد في بليغ كلام العرب من بعض فنون البلاغة بما فيه مقنع للمتأمّل، و مثل للمتمثّل. و ليس من حظ الواصف إعجاز القرآن وصفا إجماليا كصنعنا هاهنا أن يصف هذه الجهة وصفا مفصلا لكثرة أفانينها، فحسبنا أن نحيل في تحصيل كلياتها و قواعدها على الكتب المجعولة لذلك مثل «دلائل الإعجاز»، و «أسرار البلاغة»، و القسم الثالث فما بعده من «المفتاح»، و نحو ذلك، و أن نحيل في تفاصيلها الواصفة لإعجاز آي القرآن على التفاسير المؤلّفة في ذلك و عمدتها كتاب «الكشاف» للعلامة الزمخشري، و ما سنستنبطه و نبتكره في تفسيرنا هذا إن شاء اللّه، غير أني ذاكر هنا أصولا لنواحي إعجازه من هذه الجهة و بخاصة ما لم يذكره الأئمة أو أجملوا في ذكره.
و حسبنا هنا الدليل الإجمالي و هو أن اللّه تعالى تحدى بلغاءهم أن يأتوا بسورة من مثله فلم يتعرض واحد إلى معارضته، اعترافا بالحق و ربئا بأنفسهم عن التعريض بالنفس إلى الافتضاح، مع أنهم أهل القدرة في أفانين الكلام نظما و نثرا، و ترغيبا و زجرا، قد خصّوا من بين الأمم بقوة الذهن و شدة الحافظة و فصاحة اللسان و تبيان المعاني، فلا يستصعب عليهم سابق من المعاني، و لا يجمع بهم عسير من المقامات.
قال عياض في «الشفاء»: «فلم يزل يقرّعهم النبيء صلّى اللّه عليه و سلّم أشدّ التقريع و يوبخهم غاية التوبيخ و يسفّه أحلامهم و يحط أعلامهم و هم في كل هذا ناكصون عن معارضته محجمون عن مماثلته، يخادعون أنفسهم بالتكذيب و الإغراء بالافتراء، و قولهم: إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ [المدثر: 24] و سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ [القمر: 2] و إِفْكٌ افْتَراهُ [الفرقان: 4] و أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ* [الأنعام: 25] و قد قال تعالى: فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَ لَنْ تَفْعَلُوا ، فما فعلوا و لا قدروا، و من تعاطى ذلك من سخفائهم كمسيلمة كشف عواره لجميعهم. و لمّا سمع الوليد بن المغيرة قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَ الْإِحْسانِ [النحل: 90] الآية قال: و اللّه إنّ له لحلاوة و إنّ عليه لطلاوة، و إنّ أسفله لمغدق و إنّ أعلاه لمثمر و ما هو بكلام بشر. و ذكر
التحرير و التنوير، ج1، ص: 105
أبو عبيدة أن أعرابيا سمع رجلا يقرأ فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ [الحجر: 94] فسجد و قال: سجدت لفصاحته، (و كان موضع التأثير في هذه الجملة هو كلمة اصدع في إبانتها عن الدعوة و الجهر بها و الشجاعة فيها، و كلمة بِما تُؤْمَرُ في إيجازها و جمعها) «1» . و سمع آخر رجلا يقرأ: فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا [يوسف: 80] فقال: أشهد أن مخلوقا لا يقدر على مثل هذا الكلام. و كون النبيء صلّى اللّه عليه و سلّم تحدّى به و أنّ العرب عجزوا عن معارضته مما علم بالضرورة إجمالا و تصدى أهل علم البلاغة لتفصيله.
قال السكاكي في «المفتاح»: «و اعلم أن شأن الإعجاز عجيب يدرك و لا يمكن وصفه، كاستقامة الوزن تدرك و لا يمكن وصفها، أو كالملاحة، و مدرك الإعجاز عندي هو الذوق ليس إلا، و طريق اكتساب الذوق طول خدمة هذين العلمين (المعاني و البيان) نعم للبلاغة وجوه متلثمة ربما تيسرت إماطة اللّثام عنها لتجلى عليك، أما نفس وجه الإعجاز فلا» ا ه.
قال التفتازانيّ: «يعني أن كل ما ندركه بعقولنا ففي غالب الأمر نتمكن من التعبير عنه، و الإعجاز ليس كذلك لأنا نعلم قطعا من كلام اللّه أنه بحيث لا تمكن للبشر معارضته و الإتيان بمثله و لا يماثله شيء من كلام فصحاء العرب مع أن كلماته كلمات كلامهم، و كذا هيئات تراكيبه، كما أنا نجد كلاما نعلم قطعا أنه مستقيم الوزن دون آخر، و كما أنا ندرك من أحد كون كل عضو منه كما ينبغي و آخر كذلك أو دون ذلك، لكن فيه شيء نسميه الملاحة و لا نعرف أنه ما هو، و ليس مدرك الإعجاز عند المصنف سوى الذوق و هو قوة إدراكية لها اختصاص بإدراك لطائف الكلام و وجوه محاسنه الخفية، فإن كان حاصلا بالفطرة فذاك و إن أريد اكتسابه فلا طريق إليه سوى الاعتناء بعلمي المعاني و البيان و طول ممارستهما و الاشتغال بهما، و إن جمع بين الذوق الفطري و طول خدمة العلمين فلا غاية وراءه، فوجه الإعجاز أمر من جنس البلاغة و الفصاحة لا كما ذهب إليه النظّام و جمع من المعتزلة أن إعجازه بالصّرفة بمعنى أن اللّه صرف العرب عن معارضته و سلب قدرتهم عليها، و لا كما ذهب إليه جماعة من أن إعجازه بمخالفة أسلوبه لأساليب كلامهم من الأشعار و الخطب و الرسائل لا سيما في المقاطع مثل يؤمنون و ينفقون و يعلمون (قال السيد لا سيما في مطالع السور و مقاطع الآي) أو بسلامته من التناقض (قال السيد مع طوله
(1) ما بين الهلالين كلام للمصنف.
التحرير و التنوير، ج1، ص: 106
جدا) أو باشتماله على الإخبار بالمغيبات و الكل فاسد». ا ه.
و قال السيد الجرجاني فهذه أقوال خمسة في وجه الإعجاز لا سادس لها.
و قال السيد أراد المصنف أن الإعجاز نفسه و إن لم يمكن وصفه و كشفه بحيث يدرك به لكن الأمور المؤدية إلى كون الكلام معجزا أعني وجوه البلاغة قد تحتجب فربما تيسر كشفها ليتقوّى بذلك ذوق البليغ على مشاهدة الإعجاز.
يريد السيد بهذا الكلام إبطال التدافع بين قول صاحب «المفتاح»: يدرك و لا يمكن وصفه إذ نفى الإمكان، و بين قوله نعم للبلاغة وجوه متلثمة ربما تيسرت إماطة اللثام عنها، فأثبت تيسر وصف وجوه الإعجاز، بأنّ الإعجاز نفسه لا يمكن كشف القناع عنه، و أما وجوه البلاغة فيمكن كشف القناع عنها.
و اعلم أنّه لا شك في أنّ خصوصيات الكلام البليغ و دقائقه مرادة للّه تعالى في كون القرآن معجزا و ملحوظة للمتحدّين به على مقدار ما يبلغ إليه بيان المبيّن. و أن إشارات كثيرة في القرآن تلفت الأذهان لذلك و يحضرني الآن من ذلك أمور: أحدها: ما
رواه مسلم و الأربعة عن أبي هريرة قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم: «قال اللّه تعالى: قسمت الصلاة (أي سورة الفاتحة) بيني و بين عبدي نصفين و لعبدي ما سأل: فإذا قال العبد: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ قال اللّه تعالى: حمدني عبدي. و إذا قال: الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قال اللّه تعالى أثنى علي عبدي. و إذا قال: مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ قال: مجدني عبدي، و قال مرة: فوض إلي عبدي، فإذا قال: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَ إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ قال: هذا بيني و بين عبدي و لعبدي ما سأل، فإذا قال: اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَ لَا الضَّالِّينَ [الفاتحة: 2- 7]، قال: هذا لعبدي و لعبدي ما سأل.
ففي هذا الحديث تنبيه على ما في نظم فاتحة الكتاب من خصوصية التقسيم إذ قسم الفاتحة ثلاثة أقسام. و حسن التقسيم من المحسنات البديعية، مع ما تضمّنه ذلك التقسيم من محسن التخلص في قوله: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَ إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ،
قال: «هذا بيني و بين عبدي»
إذ كان ذلك مزيجا من القسمين الذي قبله و الذي بعده.
و في القرآن مراعاة التجنيس في غير ما آية و التجنيس من المحسنات، و منه قوله تعالى: وَ هُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَ يَنْأَوْنَ عَنْهُ [الأنعام: 26].
و فيه التنبيه على محسّن المطابقة كقوله: فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَ يَهْدِيهِ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ
التحرير و التنوير، ج1، ص: 107
[الحج: 4].
و التنبيه على ما فيه من تمثيل كقوله تعالى: وَ تِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها «1» لِلنَّاسِ وَ ما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ [العنكبوت: 43] و قوله: وَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ [إبراهيم: 25].
و لذا فنحن نحاول تفصيل شيء مما أحاط به علمنا من وجوه الإعجاز:
نرى من أفانين الكلام الالتفات و هو نقل الكلام من أحد طرق التكلّم أو الخطاب أو الغيبة إلى طريق آخر منها، و هو بمجرده معدود من الفصاحة، و سماه ابن جني شجاعة العربية لأن ذلك التغيير يجدد نشاط السامع فإذا انضم إليه اعتبار لطيف يناسب الانتقال إلى ما انتقل إليه صار من أفانين البلاغة و كان معدودا عند بلغاء العرب من النفائس، و قد جاء منه في القرآن ما لا يحصى كثرة مع دقة المناسبة في الانتقال.
و كان للتشبيه و الاستعارة عند القوم المكان القصي و القدر العلي في باب البلاغة، و به فاق امرؤ القيس و نبهت سمعته، و قد جاء في القرآن من التشبيه و الاستعارة ما أعجز العرب كقوله: وَ اشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً [مريم: 4] و قوله: وَ اخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِ [الإسراء: 24] و قوله: وَ آيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ [يس: 37] و قوله تعالى: ابْلَعِي ماءَكِ [هود: 44] و قوله: صِبْغَةَ اللَّهِ [البقرة: 138] إلى غير ذلك من وجوه البديع.
و رأيت من محاسن التشبيه عندهم كمال الشّبه، و رأيت وسيلة ذلك الاحتراس و أحسنه ما وقع في القرآن كقوله تعالى: فِيها أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَ أَنْهارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَ أَنْهارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ [محمد: 15] احتراس عن كراهة الطعام وَ أَنْهارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى [محمد: 15] احتراس عن أن تتخلله أقذاء من بقايا نحله.
و انظر التمثيلية في قوله تعالى: أَ يَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَ أَعْنابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ [البقرة: 266] الآية ففيه إتمام جهات كمال تحسين التشبيه لإظهار أن الحسرة على تلفها أشد. و كذا قوله تعالى: مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ - إلى قوله- يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ [النور: 35] فقد ذكر من الصفات، و الأحوال ما فيه مزيد وضوح المقصود من شدة الضياء، و ما فيه تحسين المشبّه و تزيينه بتحسين شبهه، و أين من الآيتين قول كعب:
(1) في المطبوعة: و يضرب الله الأمثال ... و هو خطأ.
التحرير و التنوير، ج1، ص: 108
شجّت بذي شبم من ماء محنية
صاف بأبطح أضحى و هو مشمول
تنفي الرّياح القذى عنه و أفرطه
من صوب سارية بيض يعاليل
إن نظم القرآن مبني على و فرة الإفادة و تعدد الدلالة، فجمل القرآن لها دلالتها الوضعية التركيبية التي يشاركها فيها الكلام العربي كله، و لها دلالتها البلاغية التي يشاركها في مجملها كلام البلغاء و لا يصل شيء من كلامهم إلى مبلغ بلاغتها.
و لها دلالتها المطويّة و هي دلالة ما يذكر على ما يقدّر اعتمادا على القرينة، و هذه الدلالة قليلة في كلام البلغاء و كثرت في القرآن مثل تقدير القول و تقدير الموصوف و تقدير الصفة.
و لها دلالة مواقع جمله بحسب ما قبلها و ما بعدها، ككون الجملة في موقع العلة لكلام قبلها، أو في موقع الاستدراك، أو في موقع جواب سؤال، أو في موقع تعريض أو نحوه. و هذه الدلالة لا تتأتّى في كلام العرب لقصر أغراضه في قصائدهم و خطبهم بخلاف القرآن، فإنه لما كان من قبيل التذكير و التلاوة سمحت أغراضه بالإطالة، و بتلك الإطالة تأتّى تعدد مواقع الجمل و الأغراض.
مثال ذلك قوله تعالى: وَ خَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَ لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ وَ هُمْ لا يُظْلَمُونَ [الجاثية: 22]- بعد قوله- أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَواءً مَحْياهُمْ وَ مَماتُهُمْ ساءَ ما يَحْكُمُونَ [الجاثية: 21] فإن قوله: وَ خَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ إلى آخره مفيد بتراكيبه فوائد من التعليم و التذكير، و هو لوقوعه عقب قوله: أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ واقع موقع الدليل على أنه لا يستوي من عمل السيئات مع من عمل الصالحات في نعيم الآخرة.
و إنّ للتقديم و التأخير في وضع الجمل و أجزائها في القرآن دقائق عجيبة كثيرة لا يحاط بها و سننبّه على ما يلوح منها في مواضعه إن شاء اللّه. و إليك مثلا من ذلك يكون لك عونا على استجلاء أمثاله. قال تعالى: إِنَّ جَهَنَّمَ كانَتْ مِرْصاداً لِلطَّاغِينَ مَآباً - إلى قوله- إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفازاً حَدائِقَ وَ أَعْناباً - إلى قوله- وَ كَأْساً دِهاقاً لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَ لا كِذَّاباً [النبأ: 21- 35] فكان للابتداء بذكر جهنم ما يفسر المفاز في قوله: إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفازاً أنّه الجنة لأنّ الجنة مكان فوز. ثم كان قوله: لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَ لا كِذَّاباً ما يحتمل لضمير (فيها) من قوله: لا يَسْمَعُونَ فِيها أن يعود إلى كَأْساً دِهاقاً
التحرير و التنوير، ج1، ص: 109
و تكون (في) للظرفية المجازية أي الملابسة أو السببية أي لا يسمعون في ملابسة شرب الكأس ما يعتري شاربيها في الدنيا من اللغو و اللجاج، و أن يعود إلى مَفازاً بتأويله باسم مؤنث و هو الجنة و تكون (في) للظرفية الحقيقة أي لا يسمعون في الجنة كلاما لا فائدة فيه و لا كلاما مؤذيا. و هذه المعاني لا يتأتّى جميعها إلا بجمل كثيرة لو لم يقدم ذكر جهنم و لم يعقب بكلمة مَفازاً . و لم يؤخر وَ كَأْساً دِهاقاً و لم يعقب بجملة: لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً إلخ.
و مما يجب التنبيه له أن مراعاة المقام في أن ينظّم الكلام على خصوصيات بلاغيّة هي مراعاة من مقومات بلاغة الكلام و خاصّة في إعجاز القرآن، فقد تشتمل آية من القرآن على خصوصيات تتساءل نفس المفسّر عن دواعيها و ما يقتضيها فيتصدى لتطلب مقتضيات لها ربما جاء بها متكلّفة أو مغصوبة، ذلك لأنه لم يلتفت إلا إلى مواقع ألفاظ الآية، في حال أنّ مقتضياتها في الواقع منوطة بالمقامات التي نزلت فيها الآية، مثال ذلك قوله تعالى في سورة المجادلة [19]: أُولئِكَ حِزْبُ الشَّيْطانِ أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطانِ هُمُ الْخاسِرُونَ ثم قوله: أُولئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [المجادلة: 22] فقد يخفى مقتضى اجتلاب حرف التنبيه في افتتاح كلتا الجملتين فيأوي المفسر إلى تطلّب مقتضه و يأتي بمقتضيات عامة مثل أن يقول: التنبيه للاهتمام بالخبر، و لكن إذا قدرنا أن الآيتين نزلتا بمسمع من المنافقين و المؤمنين جميعا علمنا أن اختلاف حرف التنبيه في الأولى لمراعاة إيقاظ فريقي المنافقين و المؤمنين جميعا، فالأوّلون لأنهم يتظاهرون بأنهم ليسوا من حزب الشيطان في نظر المؤمنين إذ هم يتظاهرون بالإسلام فكأنّ اللّه يقول قد عرفنا دخائلكم، و ثاني الفريقين و هم المؤمنون نبّهوا لأنهم غافلون عن دخائل الآخرين فكأنه يقول لهم تيقظوا فإن الذين يتولون أعداءكم هم أيضا عدوّ لكم لأنهم حزب الشيطان و الشيطان عدوّ اللّه و عدوّ اللّه عدوّ لكم! و اجتلاب حرف التنبيه في الآية الثانية لتنبيه المنافقين إلى فضيلة المسلمين لعلهم يرغبون فيها فيرعوون عن النفاق، و تنبيه المسلمين إلى أن حولهم فريقا ليسوا من حزب اللّه فليسوا بمفلحين ليتوسموا أحوالهم حق التوسم فيحذروهم.